2012/07/04

أبو شملة.. متنفس بصري كاريكاتوري
أبو شملة.. متنفس بصري كاريكاتوري

جهاد أبو غياضة - تشرين دراما

كان من الحلول الدرامية التي أوجدها العمل الكوميدي «ضيعة ضايعة» خلق كركترات جديدة لتجاوز

مسألة الامتداد النصي واتساع الحكاية في الجزء الثاني، كونه عملاً من نوعية (المتصل المنفصل)

ويعتمد بالتأسيس على شخصيتين رئيسيتين هما محور الأحداث التي تجري في بوتقة وحدة

زمانية مكانية للعمل، وهذا التضاد بين الشخصيتين (جودة، أسعد) كان له دور كبير في استدراج الأحداث الدرامية، والتي تحاشت إلغاء أي شخصية من شخصيات العمل.

فكانت شخصية «أبو شملة» التي قدمها الفنان «محمد حداقي» متنفساً بصرياً كاريكاتورياً لتهوية

أجواء العمل من خلال الفعل الدراماتيكي لهذه الشخصية في سياق أحداث الضيعة وإدخال عنصر

التشويق، وليركب عليها الكاتب د.ممدوح حمادة الذي قدم نصاً متماسكاً وقادراً على طرح الأفكار

ببساطة وقرب من المتلقي وبأدوات مكثفة ضمن قالب كوميدي واقعي، الكثير من مقولات العمل،

وعلى أكثر من محور ومنحى، وخصوصاً في السياسة، كونه «مهرباً» أي مجرماً اقتصادياً..(كما كان

ينعته مثقف الضيعة سلينغو) وإن كانا يشتركان «حسب قول سليم» بسمة السرية التي تسم مشاويرهم وطلعاتهم، لكن الفرق أن طلعات «سليم

وعفاف» يزهر بها الليمون والرمان.. بينما في طلعات أبو شملة فكلها «لتخريب اقتصاد الأوطان»، وهي مقاربة يعترض عليها أبو شملة بأنه «يخرب الاقتصاد

ولكنه لا يخرب على النسوان» اعتزازاً بمبادئه وقيمه، وهذا ما تؤكده حادثة اختبائه في بيت «أسعد» حين لا يقبل بأن يبقى في البيت مع زوجة أسعد

لوحدهما وهو رجل غريب عنها، وهو ما يحيل على السمات العامة لهذه الشخصية الجبلية المنبت بما تعكسه هذه الطبيعة من خشونة في الطباع و صلابة في التعامل، وبما يضيفه إدمان المخاطر (كونه مهرباً) من جسارة وجبروت، فهو يقول: «إذا المهرب حسّت الأرض عليه اشرفله يقعد في بيته».

فحينما (يحرد) أسعد ويعتزل الضيعة ليعيش مع (الوحوش الضارياطي) في حلقة «اللبطة السحرية» يظهر أبو شملة ليقدم له الحل السحري وهو (الاحترام

بالصرماية) و بـ«أن يعفس أسعد أكبر رأس كف» وهو ما يذكر بحلول زياد الرحباني في مسرحية «فيلم أمريكي طويل» ومن هنا سيمثل «أبو شملة» في

العمل محورية الذكي والدكتور المعالج.. صاحب التحليلات النقدية للبشر وتعاملاتهم، وللحياة والمجتمع والسياسات الدولية ممثلة بـ«الأمة المتحدة » كما يسميها، وحتى للحكومة. ‏

وهو لا يقبل بالهذر والخفة، وبالأخص من «جودة» الذي يزدريه بسبب طباعه وخصاله السيئة، وكثيراً ما يشتمه ويعنفه على تصرفاته كما في حلقة «الدخيل» حين يختبئ أبو شملة من رجال المكافحة في قن دجاج أسعد، ويلقي القبض على جودة وهو يقوم بسرقته المعهودة، وهنا يقلده بطريقته في الحديث هازئاً. ‏

أبو شملة رجل تهمه سمعته وكرامته حين يرفض تسليم نفسه بداية لمخفر شرطة أم الطنافس فهو «لأقل من جمارك أو هجانة لا يسلم نفسه». ‏

ورغم ذلك كله فهو للحق سيف وراع ويحب الحق ويخضع له، إذ لا يقسم إلا بأغلظ الأيمان المشتقة من لفظ الحق «وحق من قال أنا الحق». ‏

وكان زخم هذه الشخصية الدرامي في حلقة «قضايا معلقة» حين يقوم برد حقوق أسعد (ديون جودة المعدومة ) في خضم الاشتباك مع الشرطة وتحت

زخات الرصاص.. وبتجلياته الإنسانية ومروءته في عدم قبوله بوجود الفتاة «عفاف» مع سليم لوحدهما في الغابات وأن يحيطها بيده، ثم بحله العرفي عبر

استدعاء الشيخ «محيسن» ليقوم بعقد قرانهما على سنة الله ورسوله رغماً عن (سليل الإقطاع) المختار بيسة، ويعرض أخذهما لضيافته ثم يعيدهما بجاهة للضيعة وهذه قمة الأصول والأعراف. ‏

كل ذلك ما لعبت عليه «ردينة ثابت السويداني» بحرفية عالية عودتنا عليها من خلال مكياج هذه الشخصية وملامحها الجسدية العامة حيث الشعر الأشعث

المغبر، و النظرة اللامبالية التي لا تعكس أي انطباع، والضحكة الاستهزائية الخشنة، وحتى الأسنان المحطمة والصفراء، وقطعة «السواك» الموجد دائماً في

فمه. وبالمقابل فقد نحت حداقي الشخصية / الكاركتر بقدرة فريدة، ممسكاً بأدوات وخفايا الشخصية عبر تعابير وحركات الوجه واليدين وبالإحساس

والانفعالات النفسية، من أجل أن يحقق هذا الثراء في الشخصية وخط سيرها، وبالاعتماد على التفاصيل الصغيرة لأنها تحمل مفاتيح الشخصية وموقعها

في العمل. وبإتقانه اللهجة التي يقول عنها «حداقي» في أحد لقاءاته: «منطق اللهجة يعني منطق الشخصية وكلما انتمى إليها الفنان وأتقنها واشتغل عليها حتماً قدّم دوراً مختلفاً، ولعل أهم أسباب نجاح شخصية (أبو شملة) هو اللهجة. ‏

ستنتهي الضيعة بسبب الكارثة البيئية التي تسبب بها أبو شملة ودهانه الملوث بالإشعاع، وهذا آخر ما حمله النص من أهمية محورية على هذه الشخصية، لكن ستبقى عالقة في الأذهان عبارته الشهيرة حين يثأر جودة ويرددها.. «كيفك فيّا». ‏