2013/05/29

أحمد قعبور: أبحث عن أغنياتي في حناجر الناس
أحمد قعبور: أبحث عن أغنياتي في حناجر الناس


سناء بزيع – دار الخليج


كان أحمد قعبور يسيّج روحه بأهازيج وحداءات، يعشق تفتح الصباحات فوق عتمة الأزقة . معلقاً حنينه بتينة أمام بيته القديم، ومسحّر وشباك . وحين شرّع بيارقه للريح تفتحت شموس الأغاني، وضجّت الأحلام بأحلامها فكانت فلسطين أقرب من دمعة وأبعد من الحدود، كما لبيروت حكايا عمر وذاكرة، أحزنته وقهرته وأفرحته وسكنته فغناها . وعلى امتداد الوطن راح يبحث عن أغانيه في عيون الأطفال، في حناجر الناس، في صور الراحلين، وفي ربيع سيأتي بعد حين .

* ما التسمية التي تطلقها على أغنيتك؟ هل هي وطنية أم سياسية أم ملتزمة، أم يكفي أن يكون العمل حقيقياً وجدياً ليصل إلى حيث تريد؟

- الجواب ضمن السؤال نفسه، على العمل أن يكون جدياً وصادقاً منطلقاً من قيم إنسانية وجمالية وأخلاقية تتعاطى مع الإنسان وحريته وكرامته وعدالته . هذا الأمر ينطبق على كل ما نغنيه إن كانت الأغنية وطنية أم شعبية أم عاطفية أم كلاسيكية . إن قلنا أننا نغني الأغنية الوطنية والملتزمة سنبدو كأننا الوكلاء الحصريون لهذه الأغاني وهذا الشيء غير صحيح . مثلاً غنّت السيدة أم كلثوم “بقى يقولي وانا أقوله، وخلّصنا الكلام كله” كلام من أجمل ما يكون، ثم غنّت “أصبح عندي الآن بندقية” .

إذن الخليط من المشاعر الإنسانية تجاه الوطن والحب والطفولة والذاكرة والكثير من الأحلام هو الذي تصنع العمل الجدي مع الكفاءة والجودة والصدق .

* مع ذلك لا بد من تعريف أو صفة لهذه الأغنية للدلالة عليها؟

- أنا اؤمن بالتعريف العلمي للأغنية، وأعتقد أن هناك أغنية جيدة أو رديئة، موشح جيد أو رديء، وهذا ينطبق على “الطقطوقة” الشعبية والنشيد الوطني والدور والموشح إلخ .

إذن التصنيف العلمي ينطبق على جميع هذه القوالب من الأناشيد أو الأغاني وغيرها، وإن كان لا بد من التصنيف فهذه الأغنية تنحاز للإنسان وتحاول أن تعبر عن آلامه وآماله وتحاول أيضاً أن تحدد هويتنا الإنسانية والأخلاقية .

* في الماضي لم تمانع من تسمية أغانيك بالأغاني الوطنية والملتزمة ما الذي تغير الآن؟

- في البدايات كان يملأنا غضب وعزم وحماسة لأن نقول كل شيء ونغير كل شيء، لنكتشف لاحقاً أن التغيير على المستوى الفني والتقني والإنساني والسياسي يلزمه أجيال ووعي وتراكم خبرات وتنوع، لذلك عندما يقال عني “مغني وطني” أسعد لهذا التصنيف ولكني لا أريد أن أسجن فيه .

* من “أناديكم” إلى “نادي لكل الناس” عمر الزعني، هل الوجع نفسه، أم لكل مرحلة أوجاعها وهمومها؟

- البدايات كانت تحمل هموماً وطنية عامة، الانتماء لوطن سويّ وحقيقي، فلسطين، الشهيد، الأرض، وكان هذا أمراً طبيعياً بالنسبة إلى همتنا ونحن في مقتبل العمر . لاحقاً أصبحنا نشعر بأن الأوطان هي وجوه الناس وهي ما تبقى من ذاكرة وما يمكن أن يبقى من حلم، لذلك نرتد إلى ذواتنا وإلى من يشبهوننا لننهل منهم ما قالوه ولنجدد القول بقوالب فنية جديدة .

لذلك عدت إلى عمر الزعني . العودة الحقيقية لم تكن غريبة بالنسبة لي، فقد كان والدي يعزف مع الزعني ولحن بعض أغانيه . وعمر الزعني قال في بيروت أجمل ما قيل فيها “بيروت زهرة في غير أوانها” لذلك هي تدفع ثمن ريادتها وطليعيتها . فحينما سرقت الطوائف وطني، وسطت الإيديولوجيات والشعارات على الوطن الذي أغني له ارتددت إلى وطني الصغير، إلى ذاكرتي لأنطلق منها وأصنع حلماً جديداً علّني أنتمي إليه أنا وأبناء جيلي وأولادي وأحفادي .

* هل ينطبق هذا أيضاً على مقولة من لا ماضي له لا حاضر له؟

- طبعاً العودة إلى الماضي ضرورية، لكن هذه العودة يجب أن لا تحجب أبدأً رغبتنا في البحث عن الغد . الحنين مؤلم وموجع والإغراق في الماضوية يطيح بآمال الغد . بقدر ما أمتلك رغبة في استعادة حنين ما أو مشهد أو صوت من الماضي تتملكني رغبة أكبر في البحث عن ابتسامة وحلم وامل للغد .

* عملك في تلفزيون “المستقبل” أضفى بصمة فنية جميلة له . ماذا أضاف لك هذا العمل؟

- هي إضافة لمكتبتي الغنائية والموسيقية وقد كرّس بصمتي التي ادّعي بأنها بصمة شعبية وغير شعبوية . فأنا لم أجنح في التلفزيون إلى الترويج الساذج كما يجري في لبنان، بتباهي كل محطة ببرامجها وبأنها الأولى والمتميزة . ذهبت في هذا العمل إلى القاموس الشعبي فاستعدت طربوش والدي وشيئاً من شخصية تشارلي شابلن وشيئاً من عمر الزعني هذه الشخصيات المنبثقة من عروق الناس، كما أظهرت في هذه الأعمال الناس البسطاء وأقحمتهم في التلفزيون على غفلة منه . أصبحت هذه الشخصيات جزءاً من المجتمع لأقول للشباب “عالماضي لا تنوح” أنا لم أقل يوماً انسوا الماضي “مستقبل إلك” ولا أقصد التلفزيون أو حزب “المستقبل” بل قصدت الأيام الآتية التي هي ملكنا وليست ملك أحد .

* غنيت بيروت وحرجها وعيدها وصباحاتها . كيف ترى بيروت اليوم مع كل هذه التصدعات والتناقضات التي تعيشها هذه المدينة؟

- كلما ازدادت أحزاني في بيروت ازداد تعلقي بها . أنا مدمن بيروت . وكل شجرة صنوبر تقتلع أو بيت قديم يهدم كأنه اقتلاع لذاكرتنا .

بيروت مدينة عصية على أن تدّجن وتروّض . بيروت القصيدة . بيروت التي بكاها محمود درويش عندما تركها . هذه هي بيروت لنا جميعاً لكنها لن تكون أبداً كما هي في الذاكرة وربما لن تكون أبداً كما هي في الحلم . هي دائماً الخيط المشدود بين الخيط وضده، وربما لهذا السبب علاقتنا بها متوترة، نغضب منها ونحبها كما نحب نساءنا وأطفالنا .

* كيف تختار نصوص أغانيك؟ هل تبحث عنها في كتب الشعراء أم تأتيك جاهزة؟

- في البدايات كان هناك مصدران: كتب الشعر والأصدقاء الذين يكتبون القصيدة لتغنى، مؤخراً أصبحت أنا من يكتب لأنني أرى أن كل واحد منا يختلف عن الآخر . حتى الزهور التي من نفس النوع لديها ما يميزها عن أختها، لذلك لا أستطيع أن أحمّل مشاعري لشاعر ليترجمها، القصيدة في ديوان تبقى في ديوان ويبقى برأيي الشاعر هو البطل . قيمة الأغنية الأساسية ليست أن تقرأ في ديوان بل أن نستمع إليها مغناة . منذ ما يقارب خمس عشرة سنة أكتب حوالي ثمانين في المئة من أغنياتي لأنها هويتي وبصمتي .