2012/07/04

أزمة الكاتب تتجدد في أحداث "بلا حدود"
أزمة الكاتب تتجدد في أحداث "بلا حدود"

محمد رضا – دار الخليج

على الرغم من مرور ثلاثين سنة على خروج “اللمعان” لستانلي كوبريك الى العروض السينمائية لا يزال واحداً من الأعمال التي لا يمكن إغفالها من تلك التي تدور حول أزمة الكتّاب مع ذواتهم حين ينقطع الإلهام وتتعذّر الكلمات ثم تسقط من على الورق الأبيض كليّاً . ومع خروج فيلم جديد حول هذا الموضوع هو “بلا حدود” للمخرج الجديد نسبياً نيل برغر تتأكد قيمة كوبريك الفنيّة اللاحقة، بينما تتجدد فيه تلك الظاهرة المتمثّلة في أفلام تناقش، على نحو أو آخر، موضوع أزمة الكاتب مع نفسه وعالمه .

في “اللمعان” تقترب الكاميرا مثل لص خفي من جاك نيكلسون من الخلف وهو يمعن في طبع ما يجب أن يكون روايته . من حقّنا، في تلك اللحظة، أن نعتقد أنه منكب على العمل . قبل ذلك، كنا شاهدنا بوادر أزمته النفسية التي بدأ يعيشها حالما انتقل وزوجته (شيلي دوفال) وابنهما الصغير (داني لويد الذي لم يمثّل فيلما سينمائياً آخر) الى فندق شتوي يعمل مشرفاً وحارساً له في فترة إغلاقه . في لقطة تالية تتقدّم الكاميرا وراء الزوجة الخائفة، وقد فقد الزوج عقله تماماً، الى حيث كان يجلس من قبل . تصل إلى الطابعة وترفع أوراقها لتكتشف أن الورقة الأولى تحمل عبارة واحدة تتكرر في كل سطر وعلى طول الصفحة: “عمل طول الوقت ومن دون لعب يجعل جاك فتى ضجوراً” All work and no play makes Jack a dull boy .

إنه مثال، لكن اكتشافه على هذا النحو تفعيلة مرعبة في لحظة حاسمة، خصوصاً عندما تفحص الزوجة الأوراق كلها لتجد العبارة ذاتها على كل صفحة .

أزمة الكاتب مع نفسه موجودة في الفيلم الجديد “بلا حدود”، لكن على نحو لا علاقة له بانقطاع الإلهام، بل في توريته وإيجاد السبيل للتغلّب عليه بالحيلة . بطل الفيلم (برادلي كوبر) كاتب جالس وراء الكمبيوتر ليكتب الصفحة الأولى من رواية تعاقد عليها، لكن الإلهام غير موجود، والبال مشتت وطريقته الوحيدة للتغلّب على هذا الوضع هو تناول حبّة من شأنها فتح كل مناخات الرأس وتشغيل كافّة خلاياه بفاعلية كاملة . إذ يفعل، يدهش نفسه (والمقرّبين منه) بأنه أنجز الرواية كاملة وصالحة للنشر في أربعة أيام . وفي وقت مماثل تعلّم أيضاً نحو ثلاثين لغة وأجاد شغل البورصة، وبعد أسبوع أو نحوه انتقل من الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش . كل ما فعله هو تناول حبّة واحدة من عقار غامض كل يوم .

على نحو ملحوظ، سنجد أن بطل الفيلم لم يكن بالفعل ساعياً ليكون كاتباً، فهو حال تحقيقه المجد المادي ترك ذاك المعنوي مكتفياً برواية واحدة . هذا على عكس ما يحدث مع شخصية روي في فيلم وودي ألن “ستلتقين بغريب طويل داكن” (2010) كما يؤديها جوش برولين . فهو يعاني من انسداد القريحة، لكنه صادق في رغبته الاستمرار في الكتابة والتأليف .

في النهاية يرتكب جريمة لجوئه إلى السطو على عمل مكتوب لصديق له دخل في غيبوبة على أساس أن أحداً سوف لن يعرف .

في “المزيّف” (2002) تابعنا قصّة مستوحاة من الواقع حول الكاتب اليهودي كليفورد إرفنغ الذي كان اتفق مع دار نشر كبيرة على كتاب وقبض مبلغاً كبيراً كمقدّمة أتعاب، ثم لم يستطع تسليم المادّة . مثل بطلي “بلا حدود” و”ستلتقين بغريب داكن طويل”، الطريقة الوحيدة أمامه كانت تلفيق مستندات ووثائق وأحاديث منسوبة إلى شخصية المنتج والمخترع الأمريكي هوارد هيوز وتقديمها إلى دار النشر التي ابتلعت الطعم وصدّقت دعواه بأنه استطاع الفوز بمقابلة نادرة مع هيوز والحصول منه على توقيع بخط يده يعترف بصحة تلك المستندات .

ما نكتشفه في فيلم رومان بولانسكي “الكاتب الشبح” (2010) يعاكس كل ذلك تماماً . فمشكلة بطل الفيلم (إيوان مكروغر) ليس أن شرايين الإبداع جفّت، بل إنه إذ رضى أن يكتب مذكّرات رئيس الوزراء (بيرس بروسنان) التي ستحمل اسم ذلك الرئيس متحوّلاً الى كاتب شبح غير مذكور، رضي كذلك أن يكون كبش محرقة لتغطية مؤامرة سياسية تتطلّب التستر عليها .

في حين أن مارشيللو ماستروياني في فيلم فديريكو فيلليني “ثمانية ونصف” (1963) هو النموذج للفنان الكبير الذي يجد نفسه مشتتاً وغير قادر على الإبداع وذلك أيام قليلة قبل البدء بتصوير فيلمه الجديد . أما في “السر في عيونهم” للأرجنتيني جوان جوزيه كامبانيلا (2009) فإن كتابة الذكريات مدخل لفتح الأوجاع واستكمال رواية واقعية في الحياة بقيت عالقة من دون حل حتى فتح نوافذها مع اتخاذ البطل قرار الكتابة .