2012/07/04

أسرار حقيبة "المرأة الحديدية"
أسرار حقيبة "المرأة الحديدية"


مارلين سلوم - دار الخليج


يقولون إن حقيبة رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر كانت مملوءة بالمفاجآت، ولذا كانت تتأبطها دائماً لتخرج منها الأوراق والخرائط والملفات عند الحاجة، وكان معاونوها وكل رجال وزارتها يترقبون “جديد الحقيبة” في كل اجتماع . هكذا هو حال النجمة ميريل ستريب التي لا تخلو جعبتها من “المفاجآت السينمائية”، وكأنها تحمل سحراً في داخلها تعرف متى تخرجه وكيف تستعمله لتسحر مشاهديها وتبهرهم بأدائها بل قل بإبداعها المتجدد في التمثيل .

لم نكن نتوقع من ستريب حين قرأنا عن استعداداتها لتقديم شخصية مارغريت تاتشر في فيلم “المرأة الحديدية”، إلا أن تنجح في الدور، لكن حدود التوقع بقي أقل بكثير من حالة الإبهار التي حصلت للمشاهدين في الصالات . وهي عادة ستريب في القفز فوق التوقعات وتقديم أبسط وأجمل وأعمق ما لديها .

قد يكون هناك أجمل من ميريل ستريب في هوليوود والسينما العالمية بأشواط من حيث الشكل، لكنك لن تجد من يفوقها تقمصاً لروح النص، لذا لا عجب من القول إنها تستحق كل هذا الضجيج من حولها وكل هذه النجومية، كلما ظهرت على الشاشة وأياً كان دورها .

هي لا تمثل، ولا تلعب دوراً، وإنما تكون في كل مرة محور الفيلم . إنها باختصار امرأة كل الأدوار، وكأنها تتماوج معها صعوداً وهبوطاً، فتنزل إلى منتهى البساطة في “ماما ميا” تغني وترقص وتقفز كأي امرأة ريفية عاشقة، ثم تصعد إلى قمة التحكم بالقرارات السياسية والإرادة “الحديدية” في دورها الأخير عن رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر  .

الفيلم أمامك على الشاشة بكل أحداثه المغلفة بالسياسة، لكنك لا ترى أو تسمع إلا “ماغي” . عيناك تلاحقها وعقلك يحاول أن يضع فاصلاً بين ميريل ستريب ومارغريت تاتشر ، لكنك في مواقف كثيرة تتوه وتحسب أن السيدتين امرأة واحدة بشخصيتين، إحداهما امرأة سياسية والثانية ممثلة .

تقول ميريل إنها سجنت نفسها في غرفة في أحد الفنادق اللندنية أسبوعاً كاملاً لتشاهد شرائط فيديو أرشيفية عن مارغريت تاتشر الحقيقية، كي تتمكن من إتقان دورها في الصوت والمشية والحركات . ومن يشاهد الفيلم يدرك أن ميريل لبست مارغريت بروحها وشكلها فتواءمت معها .

هل هي براعة المخرجة فيليدا ليود؟ أعتقد لا، لأن الممثلة هي من أملت شروطها واعتكفت كي تخرج إلى الاستديو بشخصية رئيسة الوزراء، من دون أن يوجهها أحد . هي من تراها بوجهين وصوتين ونظرتين مختلفين، صوت ركيك ضعيف وُلِدت مارغريت تاتشر به، وآخر “رخم” حاد حازم دربها عليه أحد الخبراء كي يساعدها على فرض شخصيتها وهيبتها وسط عالم الرجال . والمفاجئ أن ميريل اتبعت الخطى نفسها وراحت تدرب نفسها كي تتلاعب بصوتها لتكون أكثر صدقاً وإقناعاً .

أما الوجهان المختلفان، فهما الرابط بين الأمس والحاضر، إذ تجد نفسك في بداية الفيلم أمام مارغريت المرأة العجوز التي تعاني مرض “الزهايمر”، وكل علامات المرض تبدو على وجهها ومشيتها وحيرتها . ومنه نعود في محطات ومشاهد متقطعة بين ذكريات الأمس والواقع الحالي، حيث طموح الفتاة الشابة “ماغي” ابنة البقال في الوصول إلى لعب دور سياسي وتغيير الأوضاع في بلدها، وزواجها وولديها، لنقفز إلى الحاضر وحنينها إلى زوجها الذي تُوفي بينما عقلها الباطن يرفض التسليم بالأمر، فتراه دائماً أمامها ويتحدثان ويرقصان ويتشاجران . تراها في شيخوختها أماً حنوناً كما لم تكن في صباها يوم كان طفلاها بحاجة ماسة إليه، فيتكرر سؤالها عن ابنها الدائم السفر وعن ابنتها التي تقف إلى جانبها، لكن في كل حالاتها لا تتخلى عن طباعها الصارمة الحاسمة، كما لا تتخلى عن أناقتها وحقيبتها وعقد اللؤلؤ .

لعينيها حكاية أخرى، ولو لم تكن تستحق ميريل ستريب الأوسكار وكل الجوائز التي حصدتها لأي شيء، فإنها على الأقل تستحقها لهذه النظرة التي لا يمكنك أن تنساها والتي تغنيك عن ألف جملة وحوار . في وجه مارغريت تاتشر العجوز نظرة حائرة خائفة، وحاجبان يرتسمان كعلامتي استفهام تحت جبينها، ينسجمان مع استمالة للرأس تجعله يدور يمنة ويسرة بحثاً عن جواب . وهي نظرة تسلب عواطفك وترغمك على التعاطف مع هذه المرأة التي قد تكون كرهتها في الواقع أو على الأقل رفضت الكثير من قراراتها السياسية يوم كانت سيدة كلمتها والمتحكمة ب “بريطانيا العظمى” . هذه النظرة تختلف كلياً عن تلك التي تراها كلما عاد بك الشريط “بلاي باك” إلى الماضي، لتجد نفسك أمام نظرة حاسمة حادة تكلل حوارات تاتشر في اجتماعاتها وتعبر عن كل ما تختزنه في نفسها من قوة وإرادة وأحياناً “جبروت” .

لست أدري إن كانت تركيبة الفيلم تلعب على عواطف المشاهدين بتسليطها الضوء على “انكسار” المرأة الحديدية في شيخوختها بسبب إصابة عقلها الذي كان يحركها ويحرك كل من حولها بمرض “الزهايمر”، ويمنحه جزءاً كبيراً من المشاهد والحوارات، وينطلق منه الفيلم ويختتم به . أم أن ميريل ستريب هي التي أخذتنا إلى عالم تاتشر فأحببناها رغماً عنا، أي أننا أحببنا مارغريت في صورة ميريل كما أحببنا ميريل في صورة مارغريت .

هناك بطل آخر ساعد النجمة على توصيل أدائها بإتقان لتكتمل الصورة في الأذهان، وهو “الماكياج” الذي جاء متناسقاً مع تسريحة الشعر، فاستحق فريق عملهما الجوائز، وهم مارك كوليير وجي روي هيلاند وماريز لانجان . علماً أن ميريل ستريب أصرت على وضع أسنان اصطناعية تشبه أسنان تاتشر ليكتمل الشكل وتتمكن من نطق الحروف بالطريقة نفسها .

قد تبدو هذه التفاصيل صغيرة، لكنها مهمة في فيلم “المرأة الحديدية” لأكثر من سبب، أولها أنها تثبت مدى براعة ميريل ستريب في تحضير أدوارها، وليفهم بعض الممثلين أن النجومية الحقيقية لا تأتي من عبث أو من مجرد إطلالة ودموع مزيفة ومشهد “اغتصاب” أو عنف، وهو للأسف ما تتمسك به معظم النجمات العربيات . النجومية المميزة تأتي من مجهود وتعب وصدق في الإعداد وفي الكواليس أولاً ثم في الأداء أمام الكاميرا . كذلك تعتبر هذه التفاصيل هي جوهر الفيلم، لأن ما يستحق الإشادة فيه لا يبتعد عن هذا الإطار الذي تناولناه، والذي لولاه لكان “المرأة الحديدية” مجرد فيلم عادي، بإخراج عادي، وقصة متوسطة التشويق، وسيناريو استمد قوته من عبارات قالتها “المرأة الحديدية” بنفسها أو وردت في كتابها.