2013/05/29

أسعد فضة: كانت أمي تبيع صفائح الزيت لترسلني إلى السينما
أسعد فضة: كانت أمي تبيع صفائح الزيت لترسلني إلى السينما


سامر محمد إسماعيل – الوطن السورية

يتذكر الفتى القادم من «بكسا» قريته الصغيرة على ساحل اللاذقية، ذلك أن الطفل الذي تربى على رائحة الزيتون في يديه الصغيرتين بعد قطاف الأشجار

لم يكن يصغِ إلا لنداءِ روحه المتوثبة، طفولة عاشها أسعد فضة منذ سنواته الأولى كالمهر البري في سهولٍ عابقةٍ برائحة زعتر وسمّاق الحقول في ضيعته الساحلية. من هناك عرف الفتى غرامه الأول في رسم بورتريهات الفحم والحبر الصيني؛ محاولاً ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وذلك بإعادة ملامح الأشخاص في صور كاميرا الماء التي بدت لسكان قريته كموهبة استثنائية تداولتها أصابع «قاسم»- اسمه الأول قبل أن يأخذ اسم شقيقه الأكبر المتوفي «أسعد» وذلك حين جافاه الحظ في التقدم لامتحان الشهادة الإبتدائية، فالفتى وصل قفزاً إلى نهاية المرحلة الأولى، لكن لم يكن بعد قد أتم سنه القانونية، حينها نصح مدير ابتدائية القرية أباه «حسن فضة» بأن يأخذ ابنه «قاسم» اسم أخيه غير الموفى في دوائر الدولة. نصيحة سيكبر معها الفتى أربع سنوات، فمن عام 1942 -«مواليده الحقيقية» إلى مواليد عام 1938 «تاريخ ميلاد أخيه المتوفي». سيستبدل الفتى اسمه أولاً قبل أن يصبح «أسعداً» في سجله المدني الجديد، ليغادر فيما بعد ذلك قريته إلى مقاعد الدراسة في الكلية الأرثوذكسية بمدينة اللاذقية.

طريق أسعد فضة كانت الأم تراها بجلاء لابنها قبل سنوات تخرجه بدرجة ممتاز من الكلية الأرثوذكسية باللاذقية- (المدرسة الوطنية حالياً) ففي عام 1958 سيتفوق الشاب في الدراسة ليتقدم إلى البعثات الخارجية، وها هو الطفل المدلل والصبي الأول في أسرةٍ مكونة من بنتين وأربعة صبيان يحقق حلم والديه، على حين يخالف أمنيات «سليمان فضة» جده لأبيه الذي أراد له درباً أخرى يجد فيها حفيده المفضل مهنةً بسيطة تدرُّ عليه المال والرزق، وخصوصاً عندما علم هذا الأخير بأن حفيده مزمعٌ على دراسة الرسم، وأنه تقدم لفحص قبول البعثات إلى القاهرة الذي أعلنته الدولة للمتفوقين في شهادتهم الثانوية.

ذهب الشاب إلى دمشق لتقديم امتحان قبول البعثات، وبالفعل خضع لفحص بعثة الرسم، إضافة لبعثة الإخراج والتمثيل المسرحي؛ وقتها لم يكن في نيته الحصول على منحة الرسم، بل كان الشاب الذي تكتم على طموحاته أمام أهله الراغبين في تدريسه الطب في تركيا، يحلم بدراسة التمثيل والإخراج، وبالفعل أدهش الشاب لجنة القبول بمواهبه المتعددة، فأوفدته للدراسة في المعهد العالي للفنون المسرحية بالقاهرة، حيث قضى هناك سنواته الأجمل برفقة زميليه علي عقلة عرسان وخضر الشعار. عاش صاحب شخصية «ابن الوهاج» في العاصمة المصرية التي كانت في عزِّ أيام مجدها القومي مع وصول عبد الناصر إلى السلطة، وتحت كنف الوحدة مع سورية تتلمذ «فضة» على يد أهم أساتذة التمثيل والإخراج المسرحي أمثال علي فهمي ومحمود مرسي، ونبيل الألفي والناقد محمد مندور، إضافة لسعيد خطاب عميد المعهد المصري، لقد كان الشاب مفتوناً بحياته الجديدة، يقضي جُلّ وقته في المطالعة وانتقاء الكتب من أمام سور الأزبكية بالقاهرة وبالجلوس إلى طاولة نجيب محفوظ في مقهى «قصر النيل». أيام قضاها الرجل متنقلاً بين مسارح القاهرة وإستديوهاتها وحفلات «شم النسيم» في أعياد ربيع النيل وأهله، كان كل شيء محفوفاً بمتعة الكشف والمعرفة، مضافاً إليهما نكهة العودة إلى بلاده بعد انقضاء الدراسة، في هذا الوقت عاد أسعد إلى دمشق بعد حصوله على درجة الدبلوم في الإخراج والتمثيل المسرحي لينجز مع كل من علي عقلة عرسان وخضر الشعار وسهيل كنعان ومحمد زرزوري برنامجاً في إذاعة دمشق باسم «الأرض الطيبة» تعرّض من خلالها لمشاكل الريف السوري، وليستخلص منها فيما بعد مسرحيته «حكايا الريف» التي كتبها وأخرجها فيما بعد للمسرح القومي: «خلال فترة المخاض الاجتماعي وبعد ثورة عام 1963 كان علينا من خلال الأعمال الإذاعية أن نعيد للطبقة الكادحة شخصيتها وكرامتها وشاعريتها معبرين عن همومها الحقيقية تجاه الأرض والوطن».

قدم فناننا الأصيل بعدها العديد من المسرحيات التي كانت تتالى فيها النجاحات، ليزدهر المسرح السوري من خلالها بلغة مشهدية معاصرة، يكون فيها الممثل عنصراً حاسماً من عناصر اللعبة المسرحية، فكانت عدة عروض منها «الدون جوان» التي تعرف فيها فضة على الفنانة الراحلة «مها الصالح» التي لعبت في المسرحية ذاتها دور «شارلوت». الصالح ستكون فيما بعد شريكة حياته ورفيقة دربه وأماً لابنته الوحيدة « راما فضة- خريجة هندسة عمارة وتعمل الآن في المكتب الفني لدار الأسد للثقافة والفنون» حيث تزوج أسعد من الفنانة مها عام 1966 ليؤسسا منذ ذلك الحين ثنائياً مسرحياً ثقافياً أثرى الحركة الفنية في سورية حتى رحيل جان دارك المسرح السوري عام 2008 بعد معاناتها الطويلة مع مرضٍ عضال.

بالطبع لم يكن رهان أسعد فضة على نجاح مسرحته وحسب، بل كانت هناك رغبته العنيدة والجدية -كمدير للمسرح القومي- في إيجاد ريبرتوار مسرحي في العاصمة السورية، تجربة رائدة افتتح بها أسعد فضة مع كل من فواز الساجر وسعد اللـه ونوس- المسرح التجريبي بعد بحث علمي مضنٍ قدم من خلاله هؤلاء الرواد خلاصة دراستهم الأكاديمية. بعد ذلك جاء النصر الثقافي المهم الذي تجلى في إطلاق «البرلمان الحر» الذي أوجد أدوات مسرحية مغايرة قدمت أطروحاتها الفنية كنتيجة لرغبة عارمة في كسر القوالب القديمة لفن الخشبة، فكانت مسرحية «يوميات مجنوناً 1976» عن نص الكاتب الأوكراني «نيقولاي غوغول» ليقدم بعدها هذا الفنان الأصيل عروض من قبيل «عرس الدم» لشهيد الشعراء فيدريكو غارسيا لوركا، و«سهرة مع أبي خليل القباني» و«مغامرة رأس المملوك جابر» و«الملك هو الملك» لسعد اللـه ونوس، و«سيزيف الأندلسي» لنذير العظمة، و«رقصة التانغو» للبولوني سوافومير مروجيك، و«دمشق انتظرناكِ والحب جاء» لمحمود درويش وأوبريت غنائية للشاعر عيسى أيوب. جهود كبيرة بذلها هذا المسرحي الكبير وفق وعي بشروط الزمان والمكان والجمهور الذي قدم له هذه العروض، دون أن يكون ذلك على حساب الشروط الفنية العالية التي قدم من خلالها خيرة أدواره المسرحية ما حدا بالباحث الدكتور نبيل الحفار أن يلقبه بـ«رجل المسرح الحقيقي».

هذه المشاريع المتعددة للفنان أسعد فضة لم تقف عند حدٍ معين، بل كان الرجل كما قال عنه الشاعر السوري أدونيس في كلمةٍ كتبها عنه في يوم تكريمه من وزارة الثقافة السورية عام 2005: «أسعد فضة يصدر في حياته ومسيرته عن ينبوعٍ عميقٍ ودائم التفجر هو الهيام بالمسرح، وفي هذا الهيام، نذر حياته للبحث عن المعنى الأكثر عمقاً، وعن الرؤية الأكثر شمولاً، مأخوذاً بهاجس الكشف عن الضوء الخفيّ وعن التوق العريق اللذين يقودان إلى التجاوز، وإلى تغيير الحياة والواقع، هكذا يبدو إطلاق اسم أسعد فضة على مسرحٍ في مدينته أمراً طبيعياً، إنه تحيةٌ في مكانها، وإن جاءت زمنياً متأخرة».

كلام الشاعر الكبير أدونيس جاء ليؤكد عمق تجربة هذا الفنان على أكثر من مستوى، فمن المسرح خرج إلى التلفزيون في دور «القائد زبداي» في مسلسل «انتقام الزباء» عام 1975 كان دوراً مسرحياً بامتياز أثبت فيه هذا المبدع قدرته الاستثنائية على مواجهة الكاميرا خصوصاً بعد تجارب عديدة قدمته لجمهور عريض في سورية والعالم العربي، فكان أولها «سلسلة سيرة بني هلال» لعلاء الدين كوكش في جزأيها «الأميرة الشماء» في دور تاجر العبيد الذي لعبه بأداء وفهم مختلف للأدوار الكوميدية شدّ إليه الجمهور من اللحظة الأولى، وثانيها في «الأميرة الخضراء» ثم لينتقل لأداء دور البطولة في أول مونودراما تلفزيونية تحت عنوان «أغنية البجعة» عن تشيخوف مع المخرج غسان جبري، فقد صورت هذه المونودراما التلفزيونية بكاميرا واحدة وأزيلت بأيد متعددة ومُسحت من أرشيف التلفزيون السوري: «الذهنية المجرمة دمّرت تراث التلفزيون العربي السوري وبداياته..!» أعقب ذلك بطولته في ثلاثية «رجل الساعة وجهاً لوجه» من إعداد وإخراج سهيل الصغير، لتتالى بعد ذلك مساهماته في إعداد وتقديم البرامج السورية المنوعة والثقافية التي كان أهمها برنامج «روائع المسرح العالمي» الذي تعاون فيه مع رفيق الصبان، وبرنامج «العقول تتكلم» مع نبيل المالح، وبرنامج منوعات «كل شيء» الذي قدمه مع المذيع محمد قطان لمدة سنتين.

الثمانينيات كانت بمنزلة الانطلاقة التلفزيونية الحقيقية لفناننا الكبير بعد الخروج من عصر الأبيض والأسود إلى الصورة الملونة وشريط الفيديو وتقنيات المونتاج الإلكتروني التي ساهمت آنذاك في دفع عملية إنتاج الدراما السورية ليكون «فضة» أحد أبرز وجوهها وأقواها حضوراً؛ لاعباً بطولة أهم الأعمال الدرامية السورية، فكان الشيخ عز الدين القسام، شخصية قدمها بأداء عالي الجودة من إخراج هيثم حقي، ومن بعدها عمل مع المخرج نفسه في «حرب السنوات الأربع» و«بصمات على جدار الزمن» و«طبول الحرية» لغسان جبري. أدوار قدمها الرجل بماء العين محققاً نجاحاً ساحقاً استمده من وجهه القوي ونبرته المطواعة الدافقة بأحاسيس ممثل أصيل ذي كاريزما لا ترد أمام الكاميرا، ليؤدي في مطلع التسعينيات مع هيثم حقي أيضاً ملحمة «هجرة القلوب إلى القلوب» للكاتب عبد النبي حجازي، حيث لعب في هذا العمل دور «أبو دباك» الشخصية لن تنسى من ذاكرة المشاهد السوري والعربي على السواء، إذ لامس «أبو دباك» ضمير الكثيرين من خلال اختزال هذا الدور لمرحلة من مراحل كاملة من الكفاح الطبقي لإقطاعيي الأرض وصعودهم من جديد إلى مراكز السلطة ليتحكموا بقوت الناس وخيرات أرضهم.

مع بداية التسعينيات وفورة ما سمي دراما «الفانتازيا التاريخية» قدم شخصية استثنائية في مسلسل «الجوارح» لكاتبه هاني السعدي ومخرجه نجدة إسماعيل أنزور، فكانت شخصية «ابن الوهاج» بأسلوب قارب فيه خبرته المسرحية بخبرته التلفزيونية؛ منجزاً نسخة خاصة من أداء عالي المستوى في فن الممثل، ولاسيما أنه يمتلك قدرات متعددة في صياغة عواطف الشخصية وكتابتها سواء عبر طبقة صوتية واضحة قوية أبوية ورجولية، أو سواء عبر قدرته على ابتكار نماذج متنوعة من الشخصيات، ليتمكن بعدها من لعب العديد من أدوار الخير والشر، متنقلاً بين الكوميدي والدرامي بخفة جعلت منه ممثلاً متعدد المواهب فكانت الأجزاء الثلاثة من «الجوارح» و«العوسج» الذي نال عنه أفضل دور تاريخي في مهرجان القاهرة الدولي للإذاعة والتلفزيون ومسلسل «الموت القادم إلى الشرق» فحقق مع كل هذه الأعمال وجهاً رئيساً في مسلسلات الموجة الجديدة التي أطلقها المخرج نجدة أنزور في الدراما السورية، إضافة إلى تحقيقه حقق أدواراً متنوعة اجتماعية منها وتاريخية كان أهمها مسلسلات «الوصية، فارس بني مروان، ذي قار، العبابيد، سيف بن ذي يزن، أبو البنات، الداية، الخيط الأبيض، نزار قباني، رياح الخماسين».

سيشكل أسعد فضة حضوراً بارزاً أيضاً من خلال وجوده في أفلام السينما السورية التي حقق لمصلحتها العديد من الأدوار؛ أتت بمنزلة أيقونة خالصة في الأرشيف السينمائي الوطني، فليس من قبيل المصادفة أن يكون أمام كاميرا عبد اللطيف عبد الحميد في ثلاثة أفلام روائية طويلة وأمام غسان شميط في «الطحين الأسود» فالرجل آسر إلى حدٍ لا يوصف في التقاط حساسية غاية في الخصوصية لكل نأمة والتفاتة يقوم بتكوينها تشكيلياً، فمن ينسى دور «أبو كمال» في فيلم « ليالي ابن آوى» الذي استحق عليه جائزة أفضل ممثل في مهرجان دمشق السينمائي، أو دور «أبو سلمى» في فيلم «رسائل شفهية» الذي استعاد عبره ذاكرته الشخصية في صناعة شواهد القبور في قريته، أو حتى دور أستاذ المدرسة في فيلم «قمران وزيتونة»؟ شخصيات قدمها بمهارة غارفاً من خزانه المعرفي والإبداعي لكلٍ ما يلائمه، متيحاً للذاكرة الشخصية مسارب عدة يمنتج عبرها ما يحلو له من الكاركترات والوجوه والأقنعة؛ مجسداً ألق ممثل عربي كبير نال عليه عشرات الجوائز المحلية والعربية والعالمية؛ ما أعطاه ثقة كبيرة عند الفنانين السوريين أنفسهم فبايعوه ليكون نقيباً لهم من عام 1998 وحتى عام 2006 استطاع عبر دورتين متتاليتين أن يحصّل حقوقاً إضافية لزملائه، ولاسيما في ترشيحات مجالس النقابة التي كانت مقتصرة على مرشحين من داخل الجبهة الوطنية التقدمية، مفسحاً المجال أمام أطياف إضافية للعمل النقابي، كما رفض رفضاً قاطعاً أخذ ضريبة عن شغل الفنان داخل بلده وخارجها، وخصوصاً عندما حاولت لجنة صناعة السينما تمرير مشروع دفع الضرائب على الممثلين خارج أوطانهم.

رحلة الفنان أسعد فضة ليس من السهل الإحاطة بها، فهو رجل مترام في مسؤولياته ورغباته وطموحاته، لكنه على الأغلب يشكل جزءاً مهماً من وعي السوريين المعاصر، لما يجعله بكل ثقة سيداً للقوم.