2012/07/04

إديت بياف نجمة القرن البائسة
إديت بياف نجمة القرن البائسة

محمد هاني عطوي – دار الخليج

على قدر ما كان مارسيل سردان بطل العالم للملاكمة في الوزن المتوسط لعام .1948 يشغل بال المغنية الفرنسية الشهيرة إديت بياف خاصة أنه كان يلقب بالقنبلة الطائرة المغربية. كان هناك رجل آحر في حياتها يشغل مشاعرها . وعلى مدى سنة كاملة كانت المغنية الشابة تميل إلى بطل سباق الدراجات الفرنسي لويس جيراردان. ولكن في أقصى درجات السرية. حتى جاء الوقت الذي ظهر فيه إلى العلن من خلال رسائل الحب التي كشفت فيها بياف عن حبها الجارف لهذا الرياضي والتي رأت النور قبل فترة وجيزة تحت عنوان: “حبيب بياف السري” .

لويس جيراردان المعروف ب (توتو) كان رساماً هندسياً سابقاً لدى شركة رونو للسيارات. وكان مهووساً بسباق الدراجات ونال بطولة العالم للهواة في سباق الدراجات السريع عام .1930 وكان أيضاً شاباً متعدد المواهب ونال بطولة فرنسا لمرات عدة في سباق الدراجات. وسحر المشاهدين خلال سباقه الثنائي مع بطل سباق آخر للدراجات هو لوسيان ميشار على ميادين السباق الشتوية في فرنسا .

عندما التقت “ملكة الأغنية الفرنسية” العالمية إديت بياف للمرة الأولى جيراردان. كانت على غير العادة. الوحيدة التي لم تسلط عليها الأضواء. لأن لويس جيراردان كان قد استقطب إليه كل الأضواء ولم يترك لبياف شيئاً في تلك الفترة .

من جهتها كانت إديت بياف يومها تبلغ من العمر 36 عاماً. وقد غنت “أنشودة الحب” و”إنها غلطة عينيك” . إديت تلك الأسطورة الفنية الفرنسية التي نافست برج إيفل بشهرتها. تلك الجميلة البائسة التي اختارها الفرنسيون لتكون مغنية القرن. ولدت في 29 ديسمبر/كانون الأول 1915 بباريس في حي بلفيل المعروف بأنه حي يقطنه المهاجرون بكثرة .

ورثت بياف الفن عن أمها ذات الأصول الجزائرية والإيطالية (أنيتا جيوفانا ماريا) والتي كانت مطربة شعبية معروفة. أما والدها فهو (لويس - ألفونس غاسيون) عارض بهلواني في الشوارع إضافة إلى أنه كان مسرحياً ومن أصول إيطالية . وبعد طلاق والدها ووالدتها تولت تربيتها جدتها من أمها الجزائرية عائشة سعيد بن محمد .

التقت بياف عام 1935 لويس لوبيه صاحب أحد الملاهي الليلية بباريس وهو الذي أطلق عليها اسم بياف في ما بعد. وفتح لها باب الملهى من أجل الغناء والظهور أمام الجمهور. لكن اغيتال لوبيه عام 1937 أوجد تحولاً حاسماً في مسار حياتها .

كثيرون يعرفون أن بياف مرت بتجارب وعلاقات عاطفية وحميمية عدة. وكان مصير أغلبها الفشل وسوء الحظ الذي كان يطاردها خطوة بخطوة في علاقاتها. وربما يكون خير مثال على ذلك علاقتها بالملاكم ذي الأصول الجزائرية مارسيل سردان والتي بسببها تغيرت حالة النجمة بياف وأمست أسوأ من سابقتها . فمع مارسيل لم تنعم النجمة بالاستقرار والاستمرارية أكثر من أربع سنوات. بعدما توفي الملاكم في حادثة جوية عام 1947 .

هذا الموت المفاجئ لسردان ترك لدى بياف جرحاً غائراً ولوقت طويل. وهو ما جعلها تلجأ لكي تنسى حبها إلى الكحول والمخدرات .

وبعد هذا الحادث تعرضت بياف لحادث سير عام 1951 ضاعف من سوداويتها وأسهم في تدهور عافيتها وشل حركتها ونشاطها الإبداعي فترة طويلة نسبياً .

وخلال هذه الهزات التي عصفت بحياتها التقت بياف العديد من الفنانين الكبار أمثال موريس شوفالييه والشاعر جاك بورجيا وجون كوكتو الذي أصبح صديقاً مقرباً لها وقدم مسرحيته الشهيرة “اللامبالاة الجميلة” خصيصاً لها .

هذا المناخ الفني والشعري ترك بصماته عليها فصارت تكتب الكثير من أشعار أغانيها وتشارك الموسيقيين ألحان معظم تلك الأغاني. كما أظهرت حميمية في رعاية المواهب الفنية والموسيقية الشابة آنذاك. فهي التي كانت وراء بزوغ نجم الفنان إيف مونتون عام .1944 وشارل أزنفور عام 1950 الذي مدت له يد العون. حيث كانت تصحبه معها في ترحالها الدائم إلى أوروبا وأمريكا. كما أعطت الفرصة لأول ظهور للفنان هيكتور روبرتو شافيرو مغني الفولكلور الأرجنتيني على مسرحها .

ويقول جاك مارشون مدير التحرير السابق لجريدة “ليكيب” الرياضية: “لم يكن لويس جيراردان (توتو) الذي تعرفت إليه بياف عن طريق صديقها أندريه بوس المغرم بدوره بسباق وركوب الدراجات. نجماً مشهوراً في البداية. بل يمكن وصفه ب(الجنتلمان) الذي كان يعرف كيف يلقي بكلماته الأنيقة ويسحر بها الآخرين . والحقيقة أن جيراردان كان يعرف كيف يتحدث إلى الصحافة والمديرين وحتى اللاعبين. علاوة بالطبع  على وسامته اللافتة للنظر والتي يمكنها أن توقع بقلب سيدة تقدر الجمال. مثل إديت بياف التي بدأت بالظهور على المسرح الغنائي عام 1935 .

بدأت علاقة بياف وتوتو وكانت على أشدها فراحت تكتب له الكثير من الرسائل خلال الفترة الواقعة بين نوفمبر/تشرين الثاني وسبتمبر/كانون الأول .1952 لكن المراسلات غير المنشورة عرضت في مزادات كريستي عام .2009 والتي تنشر اليوم تحت عنوان “حبي الأزرق”. حيث تبدأ بياف رسالتها معلنة بطريقة لا لبس فيها عن حبها الشديد لجيراردان فتقول له: “أحبك بكل ما أملك من قوة في قلبي وروحي وأعلم أنه لن يكون أحد سواك بعد ذلك. وأريدك أن تكون حبي الوحيد” .

وعلاوة على هذه الرسائل الكثيرة لم توفر بياف الوقت أبداً لإغراق حبيبها بالبرقيات والمكالمات الهاتفية القهرية أحياناً ولذا يمكننا أن نتخيل كيف سيكون حال بياف في عصر الرسائل القصيرة اليوم .

من بتابع رسائل بياف لكل من مارسيل سردان ولويس جيراردان يلمح  الأسلوب نفسه في الحب الذي يصل إلى حد الجنون والهوس والغيرة على كل منهما. إلا أن البقاء للحي كما يقولون. فموت سردان جعل بياف تتعلق بجيراردان بكل ما أوتيت من قوة وربما نفهم ذلك من رفعها صورة مارسيل من أماكن وجودها كي لا تضايق حبيبها الجديد جيراردان . والحقيقة أنه لم تظهر أي من رسائل جيراردان لها. فهو ربما لم يمتلك موهبة الكتابة وهذا ربما يبدو من رسائلها حيث تقول له: “إنك لا تكتب لي أبداً” ويشير جاك مارثون الذي كان يعرف الرجلين سردان وجيراردان جيداً إلى أن الثاني كان يحب الاحتفاظ بالسرية في علاقته مع بياف وكان يقول فقط: “المعذرة. عليّ الذهاب عندي موعد مع بياف” .

سردان كان يتكلم بدرجة أكبر عنها وكان يظهر معها في الصور. بينما توتو أي جيراردان لم يكن يحب الظهور معها وربما تكون نادرة جداً الصور التي التقطت لهما .

ويضيف مارشون أنه لابد من القول إن الأمور كانت معقدة بعض الشيء في علاقة بياف. ففي البداية كان جيراردان يقيم معها في بولوني. لكن بعد فترة وجيزة جاء أحد مفتشي الضرائب وصادر الشقة بعد اتهامها بسرقة سبائك ذهبية وكؤوس البطولات الرياضية ومعاطف من الفرو .

وأمام هذه الاتهامات اضطر جيراردان إلى مغادرة بيت الزوجية حاملاً معه الهدايا التذكارية. وهو ما أثار حنقها ورفعت ضده قضية هجران في المحكمة . والحقيقة أن جيراردان كان يتنقل بين زوجاته “كالعصفور الطيار” ولكن في يناير/كانون الثاني 1952 أعلن لبياف خلال جولة غنائية أنه سيعود إلى منزل زوجته “بيشيت”. وهنا حاولت بياف التمسك به بكل ما تملك فمن دونه - كما قالت له - ستؤول حياتها إلى الكارثة. فهي تتوق إلى العيش معه بشكل طبيعي بعد أن بلغت من العمر 36 سنة. وربما يفهم من إحدى رسائلها له أنها كانت مستعدة لأن تفعل أي شيء مقابل أن يبقى معها بل ذهبت إلى إطلاعه على حساباتها البنكية بالتفصيل لأنها كما تقول: “أنا هو. وهو أنا” . وفي إحدى الرسائل أو الردود

النادرة عليها. يلومها جيراردان لأنها لا تتوقف عن إعطاء الأوامر . وربما يكون هذا الأمر صحيحاً. إلا أن جيراردان يتقبل بياف كما هي خاصة أنها المرأة التي منحته كل شيء وبالتالي من حقها الحصول على كل شيء .

فضلاً عن ذلك. فقدت بياف والدها لويس غاسيون الذي كان يمثل لها عائلتها الصغيرة الوحيدة. وعلى توتو أي جيراردان أن يملأ هذا الفراغ في حياتها العاطفية بمعنى أن يكون لها أباً أيضاً. وكذلك طفلاً حيث إنها فقدت ابنة تسمى مارسيل أصيبت بالتهاب السحايا وكان عمرها لا يتجاوز السنتين عام 1935 . وكانت بياف تسعى إلى الإنجاب من جيراردان بكل وسيلة .

إنه حقاً الانصهار في الآخر والتملك المطلق. وهذا ما جعل جيراردان يفكر ويفكر بعد أن شعر بأنه محصور بين رغبة بياف المدمرة في تملكها له وبين شكوك زوجته بيشيت التي كانت تسير وراءه محققاً خاصاً لمراقبته في كل تحركاته . . في هذه الأجواء العاطفية المشحونة. غدت النتائج الرياضية التي يحققها جيراردان هزيلة بل شعر بأنه يجدف عكس التيار. ولذا لم يفز في مسابقات عام 1952 .

نهاية قصة بياف مع جيراردان أو مع الرجال الذين أحبتهم ربما لن تفاجئ إلا الأشخاص الذين لا يعرفونها. حيث تتساءل الصحافية والقاصة أو الروائية سيسيل غيلبير عما إذا كانت عقلية الضواحي المتطرفة التي خرجت منها بياف نفسها قد أسهمت في المبالغة برومانسية القصة. فحتى شهر يونيو/حزيران 1952 كانت بياف لا تزال تنتظر حبيبها جيراردان “توتو” وكأنه المنقذ. ولكن بعد 3 أشهر تغير كل شيء فجأة. حيث أعلنت له من نيويورك أنها تزوجت المغني والشاعر الغنائي جاك بيلز وأن المغنية والممثلة الألمانية الشهيرة مارلين ديتريش ستحضر حفل الزفاف. لكنها صاغت له رسالتها بشيء من اللطف .

انتهت حياة جيراردان الرياضية نهاية الخمسينات وأصبح مدرباً وطنياً ودخل بدوره في مغامرات عاطفية جديدة . في هذه السنة طلقت بياف من زوجها جاك بيلز من دون أن تنجب منه. لتضع يدها في يد شاعر غنائي جديد عمره لا يتجاوز الرابعة والعشرين متزوج وأب لطفلة صغيرة . كتب لها هذا الشاب الذي كان اسمه جورج موستاكي كلمات أغنية “ميلور” وهي تحريف عن (My Lord) أي “يا إلهي”. لتبدأ قصة جديدة في حياة أسطورة الأغنية الفرنسية إيديت بياف .