2013/05/29

الجولان في الدراما.. لا بديل عن الهوية العربية السورية
الجولان في الدراما.. لا بديل عن الهوية العربية السورية


سامر اسماعيل – تشرين


لا يمكن الحديث عن الحراك الفني السوري بجميع أجناسه الإبداعية من دون الحديث عن تلك النزعة الوطنية التي تكتنفه، سواء عبر الفن التشكيلي أو المسرحي أو السينمائي أو حتى التلفزيوني

فالمواطنة جزء لا يتجزأ من المخيلة الجمعية السورية، ولا تقتصر على فهم سياسي وحسب لقضية الجولان، بل إنها تنتهج لنفسها منحى اجتماعياً لصيقاً بها، ويرجع هذا التماهي بين الفن ووطنيته إلى قدرة السوريين على هضم مكونات حضارية عديدة أعادوا إنتاجها وقولبتها ضمن مزيجهم الشعبي الخاص، يبدو ذلك في شكل العمارة وطبيعة المدن الكبرى، وقدرة الإنسان السوري على تجاوز محنه، وصياغة تاريخه القديم والمعاصر، هذه الوصفة السورية مازالت حتى الآن مثار جدل وتساؤل عن متانة اجتماعية عالية في خطابها، وفي التفافها حول رموزها الثقافية والروحية، فالطبيعة الوطنية ها هنا ليست وليدة لحظات زمنية خاطفة، بل هي مقاربة حضارية مستمرة لمعنى وجودها وكينونتها، هذا كله حاولت الدراما السورية نقله إلى الشاشة الصغيرة منذ انطلاقتها الأولى مع بث أول ساعة ونصف للتلفزيون العربي السوري في الثالث والعشرين من تموز1960، فقد برزت النزعة الوطنية في أعمال الفنانين الرواد وعلى مستوى عالٍ من الوعي بحساسية المجتمع نحو هذه القيمة الإنسانية عبر عشرات الأعمال التي اجتازت القصص التقليدية نحو توليفة بصرية تصالحت مع المضمون والشكل في آن معاً لتقديم الجولان عربياً سورياً، فمن ينسى الفيلم التلفزيوني «عواء الذئب» (إنتاج التلفزيون) الذي أنتج العام 1974، من إخراج الراحل شكيب غنام حيث نقل الكاتب خالد حمدي الأيوبي الفيلم عن قصة واقعية لرجل من منطقة الزبداني، يأسر طياراً إسرائيلياً تُقصف طائرته من قبل سلاح الطيران السوري، وهو من أكثر الأعمال التي استطاعت تقديم صيغة درامية قاربت الذهنية السورية في سبعينيات القرن الفائت، تعرض لقطات قريبة لكل من وجهي قصاص وعقيلي، تكشف عن لغة بصرية مكثّفة، للكلام الدائر بين رجلين عدوّين يتناولان الليل والشاي في مغارة باردة.

‏أعقب التلفزيون السوري «عواء الذئب» بإنتاج تمثيلية «العريس1975» لشكيب غنام أيضاً، وتمثيلية «حكاية من تشرين» من إخراج هاني الروماني، ومن ثم «الولادة الجديدة 1985» إخراج غسان باخوس. لينقطع بعدها إنتاج التلفزيون من الأعمال الدرامية التي تتناول الحرب حتى العام 1990، تاريخ إنتاج «سهرة من تشرين» الذي كان عبارة عن خمس سهرات تلفزيونية أشرف عليها شكيب غنام أيضاً، لكنها لم تنل صدى ما سبقها، ليظل «عواء الذئب» العمل الأبرز في هذه السلسلة التلفزيونية المتقطعة، والعمل «اليتيم» في أرشيف تلفزيوني يحتفظ بلقطات حقيقية من معركة 1973 قام بتصويرها قسم السينما في الجيش العربي السوري؛ ليقدم المخرج نجدة أنزور عمله «رجال الحسم» عن الجولان كصيغة بصرية معاصرة مفادها أنه لن يضيع حق وراءه مطالب.

الجولان في الفن السابع

الثقافة السورية عموماً لم تبتعد عن عكس قضية الجولان في فنونها السينمائية والمسرحية والأدبية، ولذلك كان للفنان السوري دور كبير في توثيق الأرض العربية المغتصبة في العديد من الأعمال، أذكر منها في مجال الرواية على سبيل المثال لا الحصر رواية «المرصد السوري» لحنا مينه، ورواية «ألف ليلة وليلتان» لهاني الراهب ورواية «الأبتر» لممدوح عدوان ورواية «قارب الزمن الثقيل» لعبد النبي حجازي ورواية «صخرة الجولان» لعلي عقلة عرسان ورواية «الخندق» لوليد الحافظ، ورواية «أزاهير تشرين المدماة» لعبد السلام العجيلي، ولا ننسى رواية «إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب» للمخرج السينمائي محمد ملص، والتي كانت فاتحة أدبية لفيلمه «الليل-1992» العمل الأهم عن الجولان ممثلاً في مدينة القنيطرة، حيث عمل ملص وفق تجذير مفهومه الشخصي عن سينما المؤلف بكتابة بصرية لروايته، مستكملاً بذاكرته البعيدة ذاكرته المشتهاة عن مدينته، مسترجعاً نسيجها الديموغرافي المعقد، وفسيفسائها السكانية المشتملة على إثنيات وأعراق وأديان مختلفة، رؤيا حالمة تمكن من خلالها صاحب «أحلام المدينة» من إعادة بيته الذي عاش فيه في القنيطرة إلى الحياة عبر السينما، ففي «الليل» رغبة شديدة لإعادة الزمن وتحويله إلى أمكنة خالصة؛ رغبة في تأكيد الحلم وإماطة اللثام عن عميق الجرح.

لقد عملت السينما السورية على نقل سياقات أخرى لقضية الجولان زاوجت فيها بين ذاكرة الإنسان السوري عن أرضه، وسياقات اجتماعية وسياسية كان لها كبير الأثر في توثيق اللحظة التاريخية، وتدعيم الحقيقة عن حلم شعب بأكمله. من هنا جاء فيلم «شيء ما يحترق-1993» لغسان شميط الذي قارن فيه المخرج السوري بين جيلي الآباء والأبناء، الأول عاش النكسة ومرارتها ليتذكر الجولان كحلم لا يفارقه بالرجوع إليه ولو حملاً على الأكتاف، والثاني جيل أبناء أخذتهم المدينة والحياة إلى مسارب أخرى للعيش، لتكون المفارقة أكثر لؤماً هنا فالبيت الذي يحصل عليه النازح الجولاني في الفيلم سيكون بيتاً مخالفاً يتعرض للهدم، بدلالة إلى مأساة لا تمكن مداراتها.

المخرج هيثم حقي بعد عودته من دراسة السينما في موسكو أنجز فيلماً مهماً عن حرب 1973 بعنوان «التحويلة» لمصلحة القسم السينمائي في التلفزيون، أخذ فيه صوراً لحياة طبيعية في مدينة دمشق، إذ تعرض مبنى التلفزيون للقصف الإسرائيلي وكاد يودي بحياته من تلك السنة مع مجموعة من رفاق الدراسة، بعدها حقق التلفزيون العربي السوري على يد حقي أيضاً فيلماً آخر من كتابته وإخراجه بعنوان «مهمة خاصة 1974» عن تضحيات الجنود السوريين في عملية تحرير مرصد جبل الشيخ؛ إذ استطاع هذا الفيلم أن ينتزع شهادة تقدير لجنة التحكيم في مهرجان لا يبزغ للأفلام الوثائقية، إضافةً لفيلم «الأرجوحة» الذي تناول حقي فيه قضية الجولان بأسلوب سينمائي وجداني، مصوراً ذلك عبر علاقة طفلة صغيرة بأبيها الشهيد، وبأسلوب قارب الشاعرية البصرية الخالصة..  كما قدم المخرج زياد جريس الريس فيلمه «الأمانة-2008» من إنتاج التلفزيون العربي السوري الذي بشّر من خلاله ببزوغ مقاومة شعبية على أرض الجولان، كما حققت الفنانة سلاف فواخرجي فيلماً جديداً عن الجولان بعنوان «رسائل الكرز» عن سيناريو الكاتب نضال قوشحة، وهو من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، وفي هذا الفيلم يعيد كل من فواخرجي وقوشحة إنسان الأرض السورية إلى علاقته الصميمية وارتباطه الأسطوري بذاكرته ولغته عبر قصة حب لافتة بين امرأة من الجولان وحبيبها في دمشق.

مريم في مجدل شمس

كما راهن المخرج باسل الخطيب في فيلمه الأخير «مريم» على توليف ثلاثة أزمنة تلخصها سيرة ثلاث نساء حملن اسم «مريم»، تروي حياة كل واحدة منهن مرحلة من مراحل التاريخ السوري المعاصر، وذلك عبر تعشيق زمني متواصل بين خروج العثمانيين من البلاد عام 1918، وزمن هزيمة 1967 وانسحاب الجيش السوري من القنيطرة، وصولاً إلى اللحظة السورية الراهنة، حيث نجد للحرب الدائرة اليوم إحالات متعددة في الفيلم (إنتاج مشترك بين المؤسسة العامة للسينما وشركة جوى)، يصوغها المخرج الفلسطيني وفق سيناريو كتبه بالتعاون مع تليد الخطيب لحكاية سينمائية تتدفق بحساسية بصرية عالية، مقارباً بين شخصيات فيلمه الذي امتد على مساحة ساعتين من الزمن؛ لخص خلالهما، صاحب «رسائل الحب والحرب»، أثر الهزيمة العربية وانعكاسها على ما يحدث في سورية اليوم.

يهرب الفيلم، الذي حاز الجائزة الكبرى في مهرجان الداخلة بالمغرب، من الرقيب لينبش تاريخياً في الخفايا ليلعب المونتاج دوراً حاسماً في مفصلة الزمن السينمائي، مُحززاً الصورة إلى أحداث قرابة قرن من أزمة وطن يختلج على مقاصله المتعددة، فالجندي، عبد الله، (أدى الدور عابد فهد) تتعطل بندقيته في لحظة حاسمة من المعركة، وذلك حين يحاول إنقاذ مريم (سلاف فواخرجي) من أيدي جنود العدوّ بعد اغتصابهم لها في ساحات القنيطرة 67، لكنه ينجح في إنقاذ ابنتها زينة التي ستتبناها أسرة في دمشق القديمة، حيث تبدو كاميرا الخطيب منفلتة من كليشيهات وكوادر السينما السورية التي رسختها معظم تجارب القطاع العام، نحو أناقة بصرية لافتة خلت من أخطاء وعيوب تقنية في تصحيح الألوان وتصميم مشاهد المعارك وتدمير الأبنية الأثرية وإعادة صوغها غرافيكياً، محققاً معظم مشاهده على بعد أمتار قليلة من في الجولان السوري. ليكمل الخطيب بذلك ما كان قد بدأه في الدراما التلفزيونية في مسلسله الكبير «رسائل الحب والحرب» عن سيناريو ريم حنا، مسجلاً تضحيات الشباب السوري في جنوب لبنان وعلى جبهة الجولان العربي، وفق رواية تلفزيونية تعد الأهم في تاريخ الدراما العربية المعاصرة، وعبر قدرة كبيرة على توثيق البطولات الكبيرة التي سجلها الجيش العربي السوري أثناء اجتياح العدو الإسرائيلي لبيروت 1982.

في المقابل قدم الفنان نجدة إسماعيل أنزور مأثرة درامية مهمة في عمله التلفزيوني «رجال الحسم-2008» عن سيناريو محمود الجعفوري، محققاً وثيقة درامية معاصرة عن الصراع العربي- الإسرائيلي، وعن تضحيات الجندي السوري في ساحات القتال، وفق ملحمة بصرية فضحت شبكات الموساد الإسرائيلي في الخارج والداخل، هذه المنظمة الإرهابية التي عملت وتعمل على تصفية القضايا العربية ورجالاتها وفق أسلوب المافيا العالمية، مسلسل فتح باب الجدل واسعاً في أوساط العدوّ، فقد كشف للمشاهد قدرة الجندي العربي على مواجهة أعدائه مهما تلونت أساليبهم.

المخرج  المهند كلثوم حقق فيلمه الوثائقي «البرزخ» عن الجولان عبر أربعين دقيقة، لا تتوقف فيها الحكاية عند مواجهات عابرة بين الرصاصة والكاميرا، بل تتعداها إلى داخل الأراضي المحتلة، حيث تنجح بطلة الفيلم بتخطي حواجز سلطات العدو الإسرائيلي برفقة شاب فلسطيني يقضي على تراب وطنه، فيدمج الفيلم بين لقطات من مواجهات حقيقية في ذكرى 1948 وصور درامية لطفلة تقود دراجتها نحو فلسطين، مفصلاً مشاهده بلقطات متسارعة يتخللها سرد ذكريات هالة عن رفاقها الذين واجهوا الرصاص بصدورٍ عارية. ودمج مخرج الفيلم بين لغة وثائقية وأخرى درامية بالأبيض والأسود، تاركاً الصورة بين مقطعين من حياة يعيد إليها سبب تسمية الفيلم، فالبرزخ هنا هو الجولان العربي السوري الذي يفصلنا عن أرضنا، عن أهلنا في مسعدة وبقعاتا ومجدل شمس وفلسطين وكان لا بد للسينما من أن تعبره بكاميرا مضادة للرصاص، كاميرا لا تتلصص على مشهد شبان وشابات يعبرون وادي الصراخ، بل تصر على توثيق الجريمة، راصدةً همجية الإسرائيلي وعنصريته، ليسجل كلثوم قرابة ثلاث ساعات من رحلته نحو «البرزخ» بإنتاج من «المؤسسة العامة للسينما» معيداً صياغة مشاهده بلغة شعرية يطمح من خلالها إلى تحقيق سينما تسجيلية معاصرة، تنظر إلى قضية الأرض على أنها قضية جوهرية في وعي الإنسان العربي تستأهل مستوى فنياً راقياً، ولذلك ركز في فيلمه على نبرة جديدة في محاكاة قضية الجولان، وذلك من دون تورية وبشجاعة فنية تكلمت عن جـيل كامل من أبناء يريدون تحقيق حلم آبائهم بالعودة.