2012/07/04

الدرامــــا التاريخيــــة ..
الدرامــــا التاريخيــــة ..

فراس النجار – تشرين دراما

الدراما التاريخية! يبدو لأول وهلة تركيباً متناقضاً على المستوى السميولوجي. فالدراما، ونعني بها التلفزيونية حصراً، باعتبارها الصورة المتحركة المصحوبة بالصوت، هي فن ما بعد حداثي من حيث حاجته إلى تقنية الحاضر التي لا تتوقف في كل لحظة عن التجاوز لما مضى. ‏

أما التاريخ فهو من حيث الدلالة الأولية المباشرة إحالة إلى الماضي، إحالة تتجاهل كل ما هو من الحاضر أو من المستقبل. فما أصل هذا التناقض؟ وهل هو عام يحصل الشعور به في كل المجتمعات؟ أم خاص يرتبط ببعضها دون الآخر؟. جملة من الأسئلة ليست أجوبتها سوى نتائج، يستوجب بلوغُها إجراءَ تحديدات منهجية، بغية تدقيق المفاهيم، وصولاً إلى إدراك ما وراء واقع الدراما التاريخية، على مستوى الكتابة وعلى مستوى البيئة. ولتكن البداية من التاريخ، موضوع الدراما التاريخية، كمفهوم مشوش مضطرب، عند العامة والخاصة، عند عموم الكتاب وكتاب السيناريو التاريخي منهم بخاصة. ‏

مستويات التاريخ والرؤية والأيديولوجيا ‏

لنفترض على نحو عملي أن سيناريست أراد أن يكتب نصاً، لمسلسل أو لفيلم طويل، يتناول حقبة زمنية معينة من التاريخ، القديم أو الوسيط، أو الحديث أو المعاصر. من البدهي أن الكاتب سيختار شخصياته الدرامية من الشخصيات التاريخية الحقيقية، ومن شخصيات واقعية شبيهة بتلك التي وُجدت في تلك الفترة. ثم سيختار من الأحداث التاريخية ما يخدم القصة، بالتوازي مع مجموعة من الأحداث المتخيلة التي تفرضها الشخصيات الواقعية المتخيلة، باعتبارها حوافز سردية تمدّ الحدث وتشعبه. من الواضح إذاً أن كتابة الدراما التاريخية تنطوي على بنيتين. الأولى هي التاريخية الموضوعية بكل الشخصيات والأحداث المستمدة من التاريخ. والثانية هي البنية الفنية، بكل ما فيها من شخصيات وأحداث متخيلة، لكن واقعية بمعنى تشابهها مع تلك التي وُجدت وحدثت بالفعل في تلك الحقبة. ويقوم سيناريست النص التاريخي، الذي يُفترض فيه امتلاك ثقافة تاريخية مقبولة، إضافة إلى الملكة الأدبية، بترتيب الأحداث وتوزيع أدوار الشخصيات على نحو تؤثر فيه خصوصية التاريخ نفسه كحقل معرفي، والتي منها مستويات التاريخ، أي الموقع الذي يتخذه الكاتب عند بناء نصه، ثم عند إدارته. ومن هذه المستويات يمكننا أن نحدد: ‏

1- مستوى التأريخ: وهو جمع للأحداث التاريخية وتثبيت الشخصيات وأدوارها. ومعيار هذا المستوى هو الدقة والأمانة. لكن تجميع الأحداث يتم على نحو لا يولي أهمية تُذكر لرابطة السببية بينها، ما يؤدي إلى طغيان السمة الوثائقية التسجيلية على حساب البنية الدرامية. وكنموذج يحضرنا هنا مسلسل (حمام القيشاني) المتعدد الأجزاء الذي أخرجه الراحل هاني الروماني. إذ أُثقل النص بكثافة الأحداث التاريخية مع غياب علاقة السببية فيما بينها، وفيما بينها وبين الأحداث الدرامية، ما أدى إلى حالة ظاهرة من الازدواجية. فكلتا البنيتين التاريخية والدرامية بقيتا غير مندمجتين، مع طغيان الأولى، وهو بالتالي ما رجح السمة الوثائقية التسجيلية. ‏

2 - مستوى التاريخ: ومن هذا المستوى يقوم الكاتب باختيار شخصياته وأحداثه من حقبة ما، ضمن قدر محدود من الانتقائية، التي تضمن له قدراً نسبياً محدوداً من الدقة من جانب، وقدراً أكبر من الحيوية الدرامية من جانب آخر، دون أي مسعى لتقديم تأويل أو تفسير، بل ترك أحداث الحكاية لتمضي ضمن علاقات السببية فيما بينها. وإذا كان التشويق عادة ما يكون سمة العمل / النص الدرامي التاريخي الذي يُنجز من هذا المستوى في التعامل مع التاريخ، فإن الملاحظ أيضاً أن العمل يميل نحو الملحمية. في مسلسل (صقر قريش) تظهر براعة النص أولاً، والإخراج ثانياً، في أسر اهتمام ومتابعة المشاهد. مع أن العمل حافظ على قدر غير قليل من الدقة التاريخية، فإن التفاصيل المتخيلة، وهي قوام البنية الدرامية، أضفت على شخصية عبد الرحمن الداخل التاريخية الشهيرة قدراً ملحوظاً من الملحمية. ‏

3- مستوى فلسفة التاريخ: في هذا المستوى يحتل وضع المعنى لكل الأحداث والشخصيات عند كاتب النص، كما عند الباحث المؤرخ، مكانة هي الأعلى في أولويات العمل. إن الحدث التاريخي هو حدث إنساني قابل للعديد من قراءات وصور فهم، قد تتباين وتتغاير بحسب زاوية التعاطي المعرفية، نفسية أو مادية، تاريخانية أو بنيوية.. فئوية أو أيديولوجية.. الخ. من أية زاوية / منهج أو خلفية مسبقة / يتخذها الكاتب، سيظهر سعيه المحموم نحو تفسير دقيق لما وقع تاريخياً، تفسير دقيق بحسب ما يراه ويظنه. وكثيراً ما تكشف الصورة المقدمة في العمل التاريخي عن شخصية تاريخية، أو دولة أو جماعة من البشر، تلك الزاوية أو الخلفية. ‏

على كل الأحوال تتصف نصوص الدراما التاريخية، المنجزة من هذا المستوى، بالوظيفية التي تتميز بها الأحداث والشخصيات المنتقاة من قبل الكاتب. وهي وظيفية تسعى لتعزيز المعنى وتأكيد التفسير. فمجموعة الأحداث والشخصيات تكون عادة مترابطة بوشائج جدلية متبادلة التأثر والتأثير. وتكون البنية الدرامية بالذات موجهة توجيهاً دقيقاً. لكننا أيضاً سنلاحظ أن ثمة مستويين فرعيين داخل مستوى فلسفة التاريخ هذا. الأول وهو مستوى الرؤية حيث يعتمد الكاتب مبدأً ما لتوليد المعنى، أو مجرد مقاربته، مع البعد ما أمكن عن إصدار أحكام القيمة. وكمثال عليه تحضرنا أجزاء المسلسل المصري (ليالي الحلمية). فالراحل أسامة أنور عكاشة اختار حقبة، من تاريخ مصر الحديث، تمتد من مرحلة الاستعمار البريطاني إلى ما بعد غزو العراق وأوسلو في تسعينيات القرن الفائت. وقد اعتمد، كما ظهر بوضوح، مبدأ الصراع بين أكبر مكونات المجتمع المصري، وهي تحديداً الإقطاعية الريفية ممثلةً في شخصية سليمان غانم التي أداها الفنان صلاح السعدني والبرجوازية المدينية الوليدة التي مثلها شخصية سليم البدري التي أداها الفنان يحيى الفخراني. وبرغم أن مبدأ الصراع هذا، الذي تغلغل في كل العمل، قد قارب كثيراً فكرة المادية التاريخية الماركسية، فإنه لم يصل أبداً إلى درجة الأيديولوجيا والتأطير العقائدي الثابت، بمعنى أنه تجلى في العمل كظاهرة اجتماعية اعتبرها الكاتب العامل الفصل في حركة الأحداث تاريخياُ ودرامياً، مع بقائه بعيداً عن التقييم. أما المستوى الفرعي الآخر فهو مستوى الأيديولوجيا، بكل أشكالها من ماركسية وقومية ودينية، وحتى مذهبية طائفية.. وهنا يتم التعامل مع الأحداث والشخصيات بقسرية أحياناً، قد تتنافى مع واقع الحدث التاريخي أحياناً، بغرض تقديم صورة منسجمة مع الخلفية الأيديولوجية للكاتب. والواقع أن قسماً هائلاً من الأعمال الدرامية السورية، والعربية عموماً، تندرج تحت هذا النوع، ومحكومة بهذا المستوى. وقد يكون تأثير الأيديولوجيا جزئياً كما نراه في المسلسل السوري (الذئاب) الذي عُرض في التسعينيات، وتناول الحقبة السلجوقية الحافلة بصراعاتها المدمرة التي هيأت الظروف للغزو الفرنجي الأوروبي في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي, وفيه نطالع توصيفاً متكرراً لقبائل الغز التركمانية، التي نزحت إلى بلاد الشام، بالغرباء والغزاة، الأمر الذي يعكس قدراً من الأيديولوجيا القومية في التفسير. بينما نرى تأثيراً تاماً للأيديولوجية الدينية في صياغة مسلسل (سقوط الخلافة) الذي عرضه التلفزيون السوري وبعض الفضائيات في شهر رمضان الماضي. فقد تناول الحقبة التاريخية الممتدة من 1876م – 1909م، وهي فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني، ضمن مجموعة من الأحكام والتصورات التي أدت إلى اعتبارها صراعاً صرفاً بين الإسلام من جهة والماسونية والاستعمار من جهة أخرى. ‏

إن المستويات السابقة ليست معيارية على الإطلاق, بمعنى أنها وصفية وضعية، لا تعني بالضرورة قيمة لأي نص درامي تاريخي، لمجرد صدور الكاتب عن هذا المستوى أو ذاك, إذ لا تفاضل قيمي بين تلك المستويات التي لا تعدو كونها مجرد تحديدات معرفية يتصف بها التاريخ، كموضوع لكتابة الدراما التاريخية، أو للكتابة عموماً، عند تعاطي وعي الكاتب وتناوله لأحداثه وشخصياته, وهذه التحديدات هي من خصوصيته التي يصبح أحياناً من العسير الفصل بينها وبين وعي الكاتب وتكوينه الفكري والاجتماعي والسياسي. وهذا ما يعني بالتالي طرفاً ثالثاً هو البيئة أو المجتمع بكل خصائصه التي تنعكس على الأفراد. ‏

وعلى ما سبق يبدو لنا أن كاتب الدراما التاريخية ليس له مطلق الحرية في تناول التاريخ، ولا حتى في اختيار مستوى المعالجة الدرامية, بل ربما كثيراً ما يكون محكوماً بخصوصية تاريخ مجتمعه وموقعه ضمن الثقافة الجمعية. ومن هنا يبدو لنا التناقض السميولوجي في تركيب (الدراما التاريخية) تناقضاً نسبياً مرتبطاً بثقافات مجتمعات دون غيرها. الأمر الذي سيكون له انعكاساته المؤثرة على تكوين الكاتب، وبالتالي على الدراما التاريخية في مرحلة كتابتها وفي مرحلة إخراجها على السواء. وهو ما سنحاول تحليله في مناسبة قادمة