2013/05/29

الدراما «الصفراء»:«الخبز الحرام» نموذجاً
الدراما «الصفراء»:«الخبز الحرام» نموذجاً

  سامر اسماعيل - السفير لم تعد الصحافة وحدها تميل إلى اللون الأصفر. فالدراما السورية اقتربت في بعض أعمالها الجديدة من لهجة الفضائح، الدراما الصفراء المكتوبة وفق مزاج المسطرة المالية النفطية، باتت اليوم نوعاً مبتكراً في عالم الحكاية التلفزيونية. إنها كالصحافة الصفراء، تعيش على العناوين الرنانة التي تلامس حساسيات اجتماعية معينة، وتقتات من الفضائح والإشاعة وتخادع الجمهور بذريعة كشف الفساد والمفسدين وتأديبهم بصرياً! ففي مسلسل «الخبز الحرام» لمؤلفه «مروان قاووق» ومخرجه «تامر إسحاق»، نشاهد عن كثب عالماً مليئاً بالجريمة عبر مجموعة أسر منتقاة على أنها من قاع المجتمع السوري، حيث نشاهد شخصية وهيب (باسم ياخور) تاجر البناء والعقارات، مدير جلسات القمار والليل والصفقات المشبوهة والاتجار بالعملة الصعبة، إلى جانب «أبو عذاب» (عبد المنعم عمايري) سائق الميكرو باص الذي يعمل تحت إمرة معلمه «وهيب» في تنفيذ جرائم السرقة والقتل ونصب الأفخاخ للنساء. وهناك شخصية «راتب البلاط» (عباس النوري) الرجل الخمسيني الغارق في الحشيش والكحول وصحبة بنات الهوى، والذي يقوم «وهيب» و«أبو عذاب» باستغلاله وتوريطه من أجل الإيقاع بابنتيه العازبتين، حيث ينتهي المسلسل باغتصاب واحدة وقتل الأخرى. بالمقابل نشاهد شخصية «زهير» (باسل الخياط) الشاب الذي يعمل في الدعارة، عبر توريط بنات يستغلهن للإيقاع برجال تقطعت بهم السبل، واستدراجهم إلى شقق الليل، ليظهر «زهير» في المشاهد التالية على أنه رجل أمن يعمل في الشرطة الأخلاقية بعد الاتفاق مع الفتاة على تمثيل دور فتاة الهوى، بهدف الحصول على مبالغ معينة. وهناك شخصية «سهام» (مرح جبر) صاحبة «البوتيك» التي تعمل في تنظيم صفقات للاتجار بالرق الأبيض، مستدرجةً «هيام» (رواد عليو) بالعمل عندها بعد أن تكون الأخيرة قد تركت بيت أبيها البخيل «عبد الوهاب» (خالد تاجا)، لتبعث بها إلى رجل مافيا دولي (سليم كلاس)، الذي يعيش في قبرص وشهوته عارمة لشراء العذارى.. نشاهد ذلك عبر مشاهد خاطفة لرجل يطلب من أتباعه الإتيان له بنساء خارقات الجمال». هناك أيضاً شخصيات أخرى تعمل على الخط الساخن نفسه، كشخصية عشيقة وهيب (عبير شمس الدين)، وشخصيتي «ندى (سوسن أرشيد)، و«سليمة» (ليليا الأطرش)، المراهقتين المدمنتين على مشاهدة أفلام البورنو. طبعاً تسير كل هذه الشخصيات وفق إيقاع الكارثة المؤجلة. فجائعية اجتماعية قوامها الفقر والقتل والمخدرات، العيش على أطراف المدن أو في مناطق السكن العشوائي، والحرمان حتى من لقمة الخبز. المهم هو الإبقاء على عناوين ساخنة من المشاهد المثيرة عن طريق تأجيج المقاطع التلفزيونية بالجنس والجريمة. انظروا إلى الأفكار التي يتصدى لها «الخبز الحرام» فيما لو تحولت إلى عناوين صفحة أولى في مجلة صفراء! أليس عنوان واحد منها كفيل بزيادة مبيعات هذه المجلة، عبر إقبال قراء متعطشين لأخبار الجريمة والجنس في شرقنا العربي «السعيد»؟ وبعد ما الذي يريده مؤلف «الخبز الحرام» من مشاهديه بعد زج كل هذا الكم من مواضيع الفضيحة الاجتماعية؟ لكن الفضيحة البصرية هنا أشد خطراً، وتعمل بتأثير قوى الكبح والردع الاجتماعي ومقص المونتاج والغرافيك. صحيح أن طبيعة الخطر هنا لها تأثير المخدر، لكنها في الوقت ذاته تعمل على تخريب مضاعف لفكرة الجمهور عن المكان الذي يعيش فيه، المكان هنا خطر للغاية مملوء بالمشبوهين والحاقدين طبقياً وأرباب السوابق، مفعم برائحة الدم، والجنس الهستيري، عابق بالولولة، ضيّق ولا يمكن أن نشاهد عبره إلا شخصيات الجريمة، ووعيها مدقع في سطحيته. والفجيعة هنا مضاعفة تأتي على شكل زعيق بصري وصوتي معاً، الفجيعة عند تامر إسحاق ليست تراجيدية، فهو يريد أن يقدم نوعاً رخيصاً من التشويق المحمول على مخيلة أساسها لفت الانتباه، والغلو في توصيف الجريمة المبتكرة، وتفنيد حياة المجرمين، واللعب الخفي والمباشر على قيم الصداقة والأبوة والحب والرحمة الاجتماعية، عبر حشد أكبر قدر من المفارقات المصطنعة. هذا النوع شديد الصفرة والسواد ويشبه أسنان ورئتي مريض السرطان في إعلانات التحذير من التدخين.. نوع مبني على الترهيب والتخويف والتنكيل بالمشاهد. استخفاف بالمشاعر الإنسانية المهدورة على حفنة من عبّاد المال والجنس والعنف. أيضاً العنف هنا أصفر، ولا يرقى إلى الكتابة البوليسية المحترمة. فالمادة التي يقدمها إسحاق في خبزه الحرام تفتقد إلى المناقشة المنطقية للشخصيات المكتوبة، وكأن المهم هو تحقيق أكبر قدر من المباغتة والصدام مع المشاعر العدوانية المضمرة لدى المشاهد، واستعراض كل الوسائل الممكنة لتقديم هذه الجريدة البصرية الصفراء، مستفيدةً من الكاميرا المتواطئة لصالح الفحوى الفضائحي الرخيص. هذه النوعية من الكتابة تعزز ثقافة الوهم، ولو كانت القصة تنتهي عند صناعة الوهم لقلنا إنها تنتمي لواقع افتراضي، لكنها تتعداه إلى ابتكار منطق عجيب في محاكمة الأشرار وإدانتهم، بل إلى التعاطف معهم ضمنياً من أجل الفرار بجلدهم من قبضة العدالة، وأية عدالة؟ العدالة في «الخبز الحرام» مبنية على شريعة الغاب، حيث تقدم هموم المرأة في المسلسل على أنها هموم اجتماعية، تجب معالجتها عبر المسلسلات الصفراء. ليس «الخبز الحرام» من جنح وحده نحو الدراما الصفراء، بل هناك مسلسلات أخرى عرضت سابقاً. والمضامين الجديدة كما يسميها البعض في المسلسلات الصفراء، ليست جديدة، بل طريقة حشد الشخصيات المتهالكة في فضاء واحد هو الجديد. وإصرار الكاتب قاووق على اتباع مؤشر أخلاق السوق التلفزيونية، مع من لف لفه من الكتاب والمخرجين، هو من جعل أعمالاً رديئة تتبوأ رأس القائمة في ساعات البث. فهي مكتوبة بطريقة صفحات الحوادث التي يؤلفها بعض الزملاء في الصحف العربية، بعد أن فقدوا الأمل من جمهور لا يريد قراءة صفحة الثقافة أو الاقتصاد أو السياسة، خصوصاً أنه لم يعد خافياً على أحد أن المال الأصفر تحالف وبشكل نهائي مع الصورة التلفزيونية الصفراء!