2012/07/04

السينما تقتبس باليه تشايكوفسكي «بحيرة البجع» حين يتوحد الجسد مع الموسيقا
السينما تقتبس باليه تشايكوفسكي «بحيرة البجع» حين يتوحد الجسد مع الموسيقا

ألجي حسين - تشرين

للوهلة الأولى يظنُّ المشاهد نفسه متفرجاً على أحد عروض الباليه الأكثر شهرة في العالم، يحضره هذا الشعور حين يشاهد فيلماً رفيع المستوى الفني والتمثيلي كـ«البجعة السوداء Black Swan» لمخرجه «Darren Aronofsky»، وأثناء المشاهدة تلك يحضره الموسيقي المبدع «تشايكوفسكي» ومؤلفته الموسيقية «بحيرة البجع».

«بحيرة البجع» في نسختها الأصلية كما أوردها «تشايكوفسكي» تحكي قصة الفتاة الجميلة «أوديت»، التي تحولت إلى بجعة بيضاء جميلة بيد ساحر يدعى «فون روثبارت»، بتعويذة سحرية، فيحول الساحر الشرير ابنته «أوديل» إلى شبيهة لها لتغوي الأمير، «أوديت» لن تستيقظ إلا بحب الأمير، في البداية تنجح الثانية في إغوائه، ثم سرعان ما يكتشف الأمير الخدعة، ويعود إلى «أوديت»، ولأنهما يكتشفان بأن التعويذة لا يمكن كسرها، يقتلان نفسيهما معاً. ‏

أما في الفيلم فيتغير السيناريو بيد «Mark Heyman» و«Andres Heinz» وJohn Mcloughlin، فتستيقظ الراقصة نينا سايريس«Natalie Portman» على حلم أدائها لدور البجعة السوداء لكن بطريقة وأسلوب مغايرين، ولدى وصولها للمعهد تتفاجأ بأن مهرجان الموسيقا الكلاسيكية قد بدأ، وكونها مجتهدة في عملها، يتم اختيارها لدور البجعة البيضاء، لكنها بجهودها أيضاً تستطيع أن تحصل على الدورين في آن معاً، وفي هذه الأثناء تحدث غيرة مع توأمتها السوداء ليلي «Mila Cunis»، وعند بدء المسرحية الراقصة تطن نفسها أنها طعنت الأخرى، علماً أنها تطعن نفسها ببقايا زجاج مكسور، وتموت في نهاية المسرحية وهي تقول: I Was Perfect... لقد بلغت الكمال.. هذا هو التغيير في الحكاية، أي البحث عن الكمال المطلق. ‏

«بحيرة البجع» وكما يصف مخرج المسرحية Vincent Cassel العمل لطلابه بأنها فتاة عذراء نقية محبوسة في جسد بجعة، ولكي ترجع إلى إنسانيتها لابد أن يحبها الأمير، لكن في هذه الأثناء تقوم التوأم الشهوانية بإغواء الأمير وإبعاده عن الأخرى، وبالتالي لا تملك الفتاة إلا أن تنتحر، وفي موتها ترى الخلاص.. وهذه المقولة تذكرنا بالشاعر الإسباني «فيدريكو غارثيا لوركا» حين تقول بطلته «أديلا» في مسرحيته المشهورة «عرس الدم»: «افتحوا الأبواب والنوافذ والستائر»، دليلاً للانعتاق والحصول على الحرية. ‏

ما شهدناه في الفيلم من خلال «نينا» كان مسرحية داخل مسرحية، فالراقصة هي نفسها البجعة البيضاء، هي المجتهدة والمحافظة والمطيعة، لكن لكي تمثل دور البجعة السوداء لابد أن تتخلى عن العديد من صفاتها المحافظة، فمطلوب منها التحرر الجنسي أولاً، وحتى تتحرر منه تلتقي بتوأمتها في الحياة كما في المسرح، لتصحبها إلى حيث محلات الديسكو والشراب والتعرف على الشباب، وبالتالي ممارسة العادة السرية، هذا كله من دون نسيان مشاهد المثلية داخل الفيلم، لإضفاء المزيد من الشهوة على البجعة النقية. ‏

الفيلم يلعب كثيراً على الناحية السيكولوجية للشخصيات ويتخذ لنفسه منحى مغايراً عما قدمه «تشايكوفسكي» إذاً، وفضلاً عن ذلك، يعتمد الرقص على خلفية الموسيقا البجعية المعروفة، وباعتبار أن العديد من الحاجات لم يتم إشباعها فإن ثمة رغبة في تمثيل ذلك بصرياً، وتتولى هذه المهمة اللغة الجسدية بكل مفرداتها التي تخلق ذلك الوهم أو ذلك الجدار بين الوهم والحقيقة وتكسره في الوقت نفسه اعتماداً على صور متحركة تجعل الكادرات في حركة مستمرة. ‏

هي الحدوتة نفسها عن عوالم المرأة الجوانية يتمثل في المرأة المعتمدة في كل تفاصيل حياتها على إشارات الشهرة والغريزة والإغواء في مجتمع سلطوي يتمسك بتلابيب التقاليد محولة إياها إلى سيوف على رقاب كل من يتحداها. ‏

فهذه البيانات تخلق المعنى وتصل إلى المبتغى من خلال لغة الإيماء والإشارة والرقص من دون الحاجة إلى الحوار، فلغة الجسد هي الطاغية هنا، والجسد يتمزق ويتحول إلى رماد ويفني نفسه ويصل إلى أعلى درجات التضحية متحداً مع ما هو هادف في سبيل تحقيق الحاجة الأهم في سلم الحاجات الإنسانية ألا وهي الحاجة إلى تحقيق الذات. ‏

فكثيراً ما تحاول «نينا» تذكّر المرأة التي كانت قبلها من أهم رموز المسرح الراقص، لكن المصير الدموي الذي لحقت به جعلتها تعيد التفكير في كثير من الأمور، فهي تيقّنت أن الكمال ولو بلغته لابد أن يتطلب الكثير من الجهد، فهي تأتي إلى المنزل بعد يوم شاق لتقابل أمها؛ الشخصية الأكثر رعاية ولطفاً وهدوءاً، فلا تزال تتلقى الرعاية نفسها منذ أن كانت طفلة، ويبرز لنا الفيلم تلك الشخصية مركزة على أهم حاجة إنسانية نادى بها العالم الأميركي «Maslow» بموازاة حاجتي الطعام والشرب، وهي الحاجة إلى الجنس. ‏

لن أقول إن الفيلم جعل ثيمته الرئيسية الجنس ولو أنه اعتمد كثيراً على المشاهد الساخنة، لكنها جاءت موظفة درامياً وفي توقيتها المناسب، لكنه أبرز أن التوءم الشهوانية التي تغوي الأمير «المخرج المسرحي نفسه» تستطيع أن تتغلب على نقاط ضعفها، حيت تكسر كل القيود المجتمعية التي تحاصر الفتاة حصراً ولاسيما الجنس. ‏

فيأتي إشباع هذه الحاجة لدى «نينا» من خلال المخرج الذي يقبّلها في إحدى المشاهد، لكنها تعضّ شفتيه، دليلاً على شدة مكوثها داخل سجنها الأسري المخيف، ولاسيما في المشهد التي تمارس فيه العادة السرية، لكنها تشعر أنها مراقبة من أمها فتتناوم، وهذا يؤكد حصول البطلة على المتعة جراء ذلك فتعاود الكرة مرات أخرى، ربما طبيعة الدور يتطلب ذلك. ‏

ثمة بطولة مطلقة بكامليتها اجتازتها «بورتمان» ولعل العمق في تأمل تعابير وجهها في المشاهد التعبيرية الفائقة الجمال سيدلنا إلى سرّ من أسرار مقدراتها التمثيلية الكبيرة، فهي تخبر أمها حصولها على دور البجعة البيضاء، تقول بلغة الوجه وبتعبيرات الحواس، ففي هذا المشهد تختزل «ناتالي» آلاف الرموز والتعابير والإشارات، وقراءة وجهها يحيلنا إلى مكمن عظمتها. ‏

ولعل قدرتها التمثيلية ظهرت للعيان، حين قامت بأداء الدورين بتقنية عالية، فحققت بذلك خير معادلة موزونة منطقية وهي نقطة احتسبت لها ورشحتها إلى جائزة الأوسكار، ونالتها كأفضل ممثلة لدور رئيسي، بعد أن حظيت باللقب نفسه في جوائز «غولدن غلوب». ‏

ولاشك أن الصعوبة كانت مضاعفة على هذا الجهد التمثيلي، حين يكون مطلوباً من الممثلة تأدية دورين هما التمثيل بناحيته الفيزيولوجية المعروفة وأداء الرقص كفن بحد ذاته، ومعايشة الحالة الدافعية والإشباعية لبجعتين، هذا الرقص الذي أنهكها بحدود عام كامل، لذا فالمراهنة تكون على عالمين علم التمثيل وعالم الرقص. ‏

الفيلم من جهة أخرى يبرز الصراع بين الأبيض والأسود، بين الرقص واللارقص، بين الرغبة والإشباع، وحتى يوظف صراعه درامياً يؤتى بشخصيات من لحم ودم، والمزج بالتالي بين الجسد والموسيقا من خلال وتر الشهوة، وفي ذلك إضفاء المزيد من الغواية والسحر بين مفردات كثيرة كالجسد والموسيقا والأنثى... فهي تتوحد مع جسدها تحت راية الموسيقا، وتجعل جسدها قصيدة بليونتها وكأنها راقصة باليه حقيقية، وتغني بجسدها لتصل إلى مرحلة تحقيق الذات. فالحياة لن تكتمل إلا بالتصالح وربما بتصارع الجانبين الأبيض والأسود. ‏

ربما لأن جسد المرأة في تمايله الأنثوي إنما يخلق ذلك الفراغ في الوعي ويحيله إلى عوالم الغريزة، فكيف لو صار هذا الجسم نفسه راقصاً؟