2013/05/29

الصغار على موائد الكبار رغماً عنهم
الصغار على موائد الكبار رغماً عنهم


مارلين سلوم – دار الخليج

لو أمكنك أن تخترق عقل طفل عربي صغير، لتقرأ أحلامه وتحلّق في خياله، ماذا يمكنك أن ترى؟ أبطال من عالم كرتوني، باربي تتغلب على فلة، سيلينا جوميز وشارلي وسبونج بوب وهانا مونتانا، تبحث في زوايا مخيلته عن بطل عربي أو فتاة من أصل عربي تعيش معه مغامرات طفولية، فلا تجد . ترى أين ذهب هؤلاء؟ ولماذا أصبحت وظيفة قنواتنا ترجمة الأجنبي ودبلجته على المستويات كافة؟

صغارنا لا يتحدثون الإنجليزية في نهارهم فقط، بل يلعبون ألعاباً أجنبية، أبطالهم أجانب، خيالهم أجنبي، ويقطفون الأحلام ليلاً من سماء غربية . “فضاء” الأطفال غربي، وإذا خيرتهم بين مشاهدة سلسلة كوميدية عربية وأخرى أجنبية، اختاروا الثانية بلا تردد، وهم يعلمون أن القنوات والتلفزيونات الحديثة وفرت لهم ميزة الدبلجة إلى أي لغة يشاؤون . فهل نحن - أولياء الأمور - مسؤولون أيضاً عن “جعبة” القنوات العربية الخالية من أي ابتكار؟

إذا تحدثنا عن اللغة العربية وضعف مستوى أبنائنا فيها نطقاً وكتابة وفهماً، نلتفت إلى المدارس والمناهج التربوية ونسأل الأهالي “بأي لغة تتحدثون داخل بيوتكم؟”، ثم نلتفت إلى ضرورة انتشار اللغة بشكل صحيح في المجتمع . ونتوقف عند هذه النقاط من دون أن ننتبه إلى أول عامل يؤثر في الأطفال، ويكون الباب الذي يعبرون من خلاله إلى العالم الأوسع، وهو الذي يحثهم على الكلام وتجدهم يرددون عبارات طويلة مستنسخة منه . إنه التلفزيون “المعلّم الأول” للأطفال .

لم يعد هناك بيت بلا تلفزيون، ولا هناك طفل لم يكتشف هذا الصندوق الأسود، فيستسلم له بشكل كلي، ناسياً كل ما يدور حوله من أحداث وما عليه فعله من واجبات . وإن كان الصندوق الأسود مارس سحره على آبائنا في بداية ظهوره، وأسرنا صغاراً ببرامجه ومسلسلاته، فهو مازال يحتفظ بنفس السحر والمفعول على كل الأجيال المتتالية، من دون أن يتأثر بتطور تكنولوجيا أو ظهور كمبيوتر وانترنت وهواتف نقالة، وأمام هذا الساحر، يسير عالمنا العربي نحو برمجة حصرية للكبار، ويكاد يلغي من حساباته الفئة الأهم، وكأن هؤلاء الأطفال يأتون على الهامش، ويلتقطون “فتات” البرامج من هنا وهناك، وهم يجلسون على موائد الكبار رغماً عنهم .

سيقول البعض “هذا افتراء على القنوات”، لأن البعض خصص محطات للأطفال فقط، وهم يحبونها . هذا صحيح، لكن حتى هذه القنوات لم تكلف نفسها بإنتاج ما يرتقي بالطفل العربي وما يحترم عقله، بل اختاروا الأوفر والأسهل، عبر دبلجة الكرتون وترجمة المسلسلات الأجنبية . أما الإنتاج فهو مركون، ومن ذهب إليه خرج بأفكار روتينية تقليدية، حيث يأتي المذيع ليقدم مسابقات أو يحكي فيصيب الكبار بالملل فما بالك بالصغار!

منهمكون نحن بمشكلاتنا الكبيرة، والسياسة تقتل أجمل اللحظات وتسرق متعة الجلسات، والصغار شركاؤنا . ومن أراد أن يبعدهم عن مشاهد القتل والدماء، وأن يرسم لهم الحياة بشكل جميل، ومن أراد أن يوجههم إلى أعمال ترفيهية تليق بأعمارهم وتتحدث عن همومهم الصغيرة وأحلامهم وطموحاتهم، وقصصهم وبطولاتهم الخيالية، ماذا يفعل؟

على فضائياتنا، مسلسلات للكبار، يشاهدها الصغار فيتفتحون على تفاصيل لا تليق بسنهم، من راقصات وعوالم وتجار مخدرات أو خيانة وعلاقات غير مشروعة، خصوصاً في المسلسلات التركية المليئة بالعلاقات غير المشروعة والحب “الممنوع”، والنتيجة أبناء غير شرعيين موجودون في كل مسلسل . وهذه الظاهرة انتقلت بالعدوى الدرامية إلينا، وبتنا نكتب مسلسلات مبنية على الخيانة والأبناء غير الشرعيين أو الذين يظهرون فجأة، والعلاقات المتشابكة بين الوالدين من جهة وبين الإخوة من جهة أخرى .

ماذا تقدم الفضائيات العربية؟ برامج سياسية أو مسيّسة، برامج حوارية، وكل ما يتعلمونه منها تناقل الأخبار “فلان قال وفلان فعل”، برامج طبخ وتجميل، برامج غنائية يعشقونها لأنها تغذي فيهم حلم النجومية، لا بأس لكنها ليست كافية، ولا تناسب كل الأعمار لأن الأطفال لا يسهرون حتى آخر الليل بانتظارها .

أين برامج الأطفال ومسلسلات تفصل عربياً من ألفها إلى يائها على مقاسات صغار مجتمعاتنا؟ مسلسلات أو سلسلة تحمل أفكارهم، وتحكي عنهم؟ بعض القنوات يقدم شكلاً من أشكال برامج الأطفال، لكنها قليلة من حيث الكم، ولا تملك المفتاح المناسب الذي تفتح به قلوب الصغار فتتربع وتسكن طويلاً . ومن أراد أن يسكن قلوب هؤلاء عليه أن يملك خلطة سحرية من الفرح والبهجة والمعلومات والخفة في التقديم والمادة المبهرة الظريفة البسيطة في آن، وكل ما ينمي الخيال .

غالبية برامجنا تتقن شيئاً وتهمل أشياء، فإما أن تحاكي العقل فتخرج أشبه بالمادة الوثائقية الجافة، أو تحكي بلسان الصغار فتتحول إلى “لغة ممسوخة”، وأصوات المقدمين مائعة وكأنها خاضعة لحمية “دايت” للتنحيف فجاءت نحيلة جداً وهزيلة، وهناك من يصل بتهريجه في البرامج إلى حد “الاستهبال”، وشتان ما بين الإضحاك والكوميديا وبين الغباء .

انظروا إلى سلسلة أفلام باربي الرائعة من حيث الإبهار والحبكة والصناعة المتكاملة والإنتاج السخي . صنعنا فلّة مقابل باربي، واكتفينا ببعض المنتجات والألعاب وكم أغنية، لماذا لا تأتي بسلسلة يوميات فلة مثلاً؟ ألا يوحي لنا “بكّار” بشيء؟ هل كان سهلاً على الأوائل في عالم التلفزيون في عالمنا العربي ابتكار شخصيات ورسمها وتصميمها وكتابة حلقات عنها، وهو ما يستعصي على الأجيال المتتالية والتي يفترض أنها أكثر علماً وتخصصاً من هؤلاء “الكبار”؟

إذا كنا نزرع أبطالاً أجانب في مخيلة صغارنا، فلا تبحثوا عن سوية في اللغة، وعلينا التفكير جدياً قبل أن نتباهى بصناعتنا التلفزيونية .