2012/07/04

النزوع الإنساني في مسرح ألبير كامو  دمشق
النزوع الإنساني في مسرح ألبير كامو دمشق

عبد الباقي يوسف - تشرين

المسرح هو جنس أدبي وفني من أجناس الآداب والفنون التي أتى بها الإنسان من أجل أن يعبر من خلالها عن كوامن نفسه، وليقدم إبداعاً إلى المجتمع.

للمسرح تاريخ عريق حافل بالإنجازات الفكرية، واللغوية، والإنسانية، وقد قدم عبر مختلف مراحل تطوره الكثير من الأفكار التي قدمت الرفاهية للإنسان، ووقفت إلى جانبه، وخففت عنه الكثير من الأهوال. ‏

لقد أرّخ المسرح للكثير من الأحداث والوقائع التاريخية التي كانت بمثابة نقاط تحولية كبرى في مسيرة حياة المجتمعات البشرية. كما خلد هذا المسرح أشخاصاً سواء أكانوا سلبيين، أم كانوا إيجابيين، لم نكن نعلم شيئاً عنهم ،ولا عن نزعاتهم لولا وجود هذا الجنس التعبيري، والتأريخي، والترفيهي، والإنساني الهام. ‏

عنى المسرح بالإنسان بشكل رئيسي كونه على تماس مباشر مع الجمهور، وهو يؤدي وظيفته الإنسانية بشكل تماسي مباشر وسريع. ‏

لا يزال المسرح يتمتع بتقدير غالبية شرائح الناس تكريما لذاك التاريخ الحافل بالعطاءات المذهلة.. ‏

هنا سوف أتوقف قليلا مع تجربة ألبير كامو المسرحية، وهوفيلسوف، وروائي، ومسرحي إنساني النزعة في جل ما ترك من إبداع الذي تكلل بنيله جائزة نوبل للآداب سنة 1957 وهو ثاني أصغر كاتب يحصل على هذا الجائزة بعد /روديارد كبلنغ/ كما أنه أصغر من مات من كل الحائزين على جائزة نوبل.

مسرح ألبير كامو هو مرحلة انتقالية هامة من مراحل ازدهار المسرح الفرنسي، وتُسجل له الريادة في تقديم أفكار إنسانية جديدة في العمل المسرحي عبر تاريخه. ‏

ولد كامو يوم 7 تشرين ثاني 1913 في مدينة الذرعان بالجزائر، ودرس حتى نال إجازة الفلسفة في الجزائر وكان يدرس ويعمل في /الأرصاد الجوية/ معاً، وبدأت ميولاته الإنسانية بالظهور وهو يرى بلاده تحتل بلدا. عندئذ بدأ بالكتابة بشكل جريء وهو يدين هذا الاحتلال. ‏

في الجزائر بدأت كتاباته الأولى ودعا كامو إلى : (إن أكبر معركة يجب أن يخوضها الإنسان هي معركته مع نفسه، معركة ينتصر فيها حب العدالة على شهوة الحقد).‏ ‏

وهنا بدأ يدين الاستعمار الفرنسي للجزائر‏. ‏

يكتب كامو في تلك المرحلة التكوينية: /إن الحب الذي نتبادله مع مدينة هو على الأغلب حب سري. إن مدناً كباريس وبراغ وحتى فلورنسا، لهي مدن منغلقة على نفسها وتحدد بالتالي العالم الخاص بها، لكن الجزائر، مع بعض الأوساط الممتازة كالمدن على البحر، تنفتح في السماء مثل فم أو جرح. ‏

لا بد للمرء من دون شك أن يعيش حقبة طويلة في الجزائر ليفهم أي جفاف يمكن أن يحدثه الإفراط في الثروات الطبيعية، يا للبلد الفريد الذي يهب الإنسان الذي يغذيه عظمته وبؤسه في آن واحد، فأي عجب إذا كنت لا أحب وجه هذا البلد إلا وسط أبنائه الأكثر فاقة. ‏

إن كل شيء في الجزائر بالنسبة لي هو شاب وملجأ ذريعة للانتصارات. إن القيم هنا وثيقة الارتباط والنكتة المحبذة عن القبّارين الجزائريين حين تكون عرباتهم فارغة أن يصيحوا بالصبايا الجميلات اللائي يصادفونهن: « أتصعدين يا حبيبتي » ‏

يحاول كامو أن يعطي صورة واضحة عن القاع الاجتماعي : / إن أيام الآحاد في الجزائر من أكثر الأيام كآبة. إنني لا أعرف مكاناً أبشع من مقبرة /برو/ إن أكداساً من الذوق الفاسد بين أطر سوداء تكشف عن كآبة رهيبة في هذه الأمكنة التي يكشف فيها الموت عن وجهه الحقيقي/ من هنا تأتي دعوة كامو إلى تمرد الجزائريين في وجه الاستعمار الفرنسي فيعلن موقفه الواضح قائلا: /إن نفوس الفرنسيين مليئة بالحقد، وهو حقد أسود أرفض أن أشارك فيه لقد كلفتنا هذه القضية كثيراً وما زالت تكلفنا/. ‏ ‏

كل هذا في سبيل حق الإنسان في حياة حرة كريمة، وعلى هذا الإنسان أن يتمرد في وجه الظلم والقسوة ويناضل من أجل التخلص من كل أشكال العبودية في سبيل الحياة التي هي أفضل ما وهب للإنسان على الأرض، فحتى نحترم الحياة ونليق بها علينا أن نسعى من أجل الحرية، حريتنا وحرية الآخرين على دروب التكاتف الإنساني.‏ ‏

بطبيعة الحال فإن كتابه الهام «الإنسان المتمرد» أوضح مايرغب كامو في قوله. ‏

سوء فهم ‏

لجأ كامو إلى الكتابة المسرحية ليتفاعل بشكل مباشر مع الجمهور، وقد كانت لمسرحياته ردود أفعال قوية في مختلف أنحاء العالم. ‏

لبث كامو مركزاً على منهجه الإنساني في المسرح، واغتنم هذه الخشبة ليتفاعل مع الجمهور وجها لوجه. ‏

يدافع هذا الكاتب عن إنسانية الإنسان ويدين أي شكل من أشكال التدخل في حياته. ‏

ثمة مسرحية هامة لكامو تصور نهاية الإنسان السيئ نهاية مأساوية، وهي مسرحية تحذيرية بعنوان: «سوء فهـم»كتبها عام 1944. ‏ ‏

وفيها امرأة وابنتها تديران فندقاً، وكلما نزل نزيل في هذا الفندق، قتلتاه، وسطتا على ثروته. ‏

تمضي الأحداث، والأيام، وذات يوم يعود الابن المهاجر إلى أمه وأخته نزيلا في الفندق، ومن باب الدعابة يقرر أن يخفي شخصيته أول الأمر، حتى ينام، وفي الصباح يقدم لهما المفاجأة السارة. ‏

يكون الرجل سعيدا في غرفته بالفندق لأنه بالقرب من أمه وأخته، وفي غرفة أخرى تخطط الأم كيف تغتاله لتحصل على ثروته، خاصة وقد رأت هذه الثروة. وكالعادة تنجحا في هذه المهمة، وفي ذروة الابتهاج للحصول على الثروة، تكتشفان الحقيقة من أوراقه.. هنا تولد الصدمة الكبرى... وتقررا الانتحار. ‏ ‏ ‏

الصدام مع جان بول سارتر ‏ ‏

ليس بوسع أحد أن يتحدث عن كامو دون سارتر حيث أن اسميهما اقترنا بالوجودية، وفيما بعد انفصلا فصلاً عميقاً في الفكر والصداقة، فكامو يتجه نحو: /إننا غير مسؤولين عن أمنا وأبينا، أو اسمنا، أو ديننا، فكلها حصلت قبل وجودنا، أما المستقبل، أو المصير فنحن مسؤولون عنه، وعلينا أن نقرره، ونختاره، وهذه هي الحرية المسؤولة. ‏

فيما يتجه سارتر نحو: إن الحرية هي الرعب.. ويتجه كامو نحو: التكاتف الإنساني .. ويتجه سارتر نحو: الآخرون هم الجحيم .. ويرى سارتر: إننا نعيش في عالم مليء بالشر، ولهذا فإننا لا نستطيع أن نسيطر عليه إلا إذا كنا قساة ولوثنا أيدينا بالجريمة. ‏

وعلى الفور يعلن كامو انفصاله التام عن الشيوعية، فيرسل إليه سارتر برسالة من ضمنها: هناك أشياء كثيرة تربط بيننا وأخرى قليلة تفرق بيننا ولكن هذه الأشياء القليلة بالغة الخطورة بحيث أصبح من المستحيل أن نلتقي. ‏ ‏

وعندما توفي كامو قال عنه سارتر: /إنه كان أحد أهم أخلاقيي العصر الكبار/. ‏ ‏

وقال في روايته الكبرى الغريب: /ما كاد غريب السيد كامو يخرج من المطبعة حتى نال أكبر قيمة دفعت الكثيرين إلى القول بأنه خير كتاب صدر بعد الهدنة، وأنه هو ذاته، في وسط النتاج الأدبي لهذه الأيام، فقد تلقيناه في الطرف الآخر من ضفة البحر المتوسط، ليحدثنا عن الشمس في ذلك الربيع الحسي الذي لا يعكره هباب الفحم/. ‏ ‏

الإقبال على الحياة ‏

كان كامو مقبلا بشكل غريب على الحياة، يعيش كل تفاصيلها، ويسعى إلى تحقيق حياة إنسانية له ولغيره، وقد تفرغ للعمل الإنساني، وفي عام 1952 لم يتردد من تقديم استقالته في منظمة اليونسكو احتجاجا على قبول الأمم المتحدة لقبول عضوية اسبانيا، وهي تحت حكم الجنرال /فرانكو/، ثم أدان السوفييت للطريقة التي قـُمعت فيها انتفاضة العمال في برلين الشرقية عام 1953. ‏

في ذروة تعلقه بالحياة يسطر كامو : /كل رعبي من الموت يكمن في غيرتي على الحياة... إنني غيور ممن سيعيشون من بعدي... وممن سيكون للأزهار والشهوات إلى المرأة معنى من لحم ودم بالنسبة لهم. إنني حسود لأنني أحب الحياة حباً جماً لا أستطيع معه إلا أن أكون أنانياً/.‏ ‏

لكنّ هذا الصوت الراجف يموت مبكراً وينفصل تماماً عن العالم، إنه في ذروة احتفاله بجائزة نوبل للآداب، وذروة التألق العالمي والمجد والشهرة والثروة يسير مع صديق له، وفجأة تصطدم سيارتهما بجذع شجرة على طرف الطريق، ويكون كامو هو المفارق للحياة في هذا الحادث الذي غدا عالمياً يوم 4 يونيو 1960 وكان كامو قد كتب في بداية حياته : /أن أكثر موت عبثية يمكن تخيله هو الموت في حادث سيارة/