2012/07/04

النصُّ التاريخيّ.. سجال غير منتهٍ
النصُّ التاريخيّ.. سجال غير منتهٍ

هيثم حسين - تشرين دراما

إن كان النصّ الدراميّ، أيّ نصٍّ، يحتاج من كاتبه إلى عمل دؤوب ومثابرة وعناد وتركيز، فإنّ النصّ الدراميّ التاريخيّ يبدو مغلّفاً بالكثير من المحظورات

والمحاذير التي توجِب على الكاتب أن يتحلّى بكثير من المواصفات الاستثنائيّة حتّى يستطيع مقاربته وتقديمه. ذلك أنّ التاريخ دوماً يكون محفوفاً بالغموض

غير المُستَجلَى، والتشكيك المزمن، فضلاً عن الاختلاف في وجهات نظر المؤرّخين أنفسهم، حيث كلّ واحد يدوّنه بما يتوافق مع أرضيّته وخلفيّته ومصالحه،

مع عدم تجاهل وجود بعض المؤرّخين الذين تحلّوا بالموضوعيّة والعلميّة والتدقيق في أعمالهم. وإن كان أيّ عمل دراميّ يرمي إلى غايات ومقاصد يقدّمها

عبر محاور دراميّة، فإنّ العمل الدراميّ التاريخيّ يقوم على جملة من المرامي والمغازي التي ينبغي أن تتجاوز العمل الاجتماعيّ أو المعاصر، ذلك أنّ العمل

التاريخيّ يعاود الرجوع إلى الماضي، ينبش فيه، يستقي منه العبَر، يمارس الإسقاط الواعي المدروس، ويتنبّأ، تبعاً لمعالجته الفنّيّة، للآتي، برؤية فنّيّة،

وتبعاً لتصوّرات فريق العمل، وانطلاقاً من رؤية كاتب النصّ ومعدّه، الذي يشكّل حجر الأساس لأيّ عمل. وتكون مهمّة الكاتب هنا، في العمل التاريخيّ، شاقّة

ومغامرة، عليه أن يقوم بدور المؤرّخ، دون أن يتحلّى بتحيّده الظاهر، لأنّه ينطلق من تبنّي وجهة نظر بعينها، كما يتوجّب عليه أن يحرص على تجيير الوقائع

والأحداث في قوالب دراميّة تضمن التشويق، معتمداً على حبكة متينة ومشغولة بعناية، كي لا يفقد متابعة واهتمام الجمهور، لأنّه أساساً قد يجد بعض

الصعوبة في ذلك، باعتبار أنّ معظم الأعمال التاريخيّة تعتمد اللغة الفصيحة في حواراتها، وينبغي أن تكون تلك اللغة، لغة متوافقة مع الفترة المعالَجة، وغير

بعيدة، في الوقت نفسه، عن اللغة المفهومة، وهذا ما يشكّل تحدّياً آخر للكاتب. أي المزاوجة اللغوية هنا ضروريّة. وقد وجدنا اعتماد بعض الأعمال التاريخيّة

اللغة العربيّة الفصيحة كرابط جامع موحّد، في حين اعتمدت أعمال أخرى اللهجات المحلّيّة كتأكيد منها على خصوصيّة المكان، ولغايات أخرى، دراميّة وفكريّة

وإن كانت الدراما التاريخيّة تشكّل الحقل الشائك، والمِحكّ الحقيقيّ لمقدرات الممثّل، فإنّها تنهض قبل ذلك كلّه، على مقدرة الكاتب في خلق تلك

الشخصيّات، ورسم مساراتها وتخطيط سيرها، وما يصنّف الأكثر خطورة ووعورة فيها، تخطيط شخصيّات تاريخيّة، ابتدعت لها الأذهان تخيّلات سابقة. حيث

كان لتلك الشخصيّات أثرها في الوقائع التاريخيّة، والظروف التي أحاطت بها، كما لا يزال تأثيرها فاعلاً بالتناقل، عبر دراسة تلك المراحل دراسة متأنّية،

للاستفادة منها وأخذ العبَر. تأتي صعوبة بناء مثل تلك الشخصيّات من وجوب تصدّي الكاتب، وفيما بعد الممثّل، لمخيال شعبيّ متراكم عبر العصور، تفنّن في

تصوير الشخصيّة، وتعظيمها إلى حدّ يخرجها عن إنسانيّتها، فيتصوّر المرء بأنّ تلك الشخصيّات كانت منزّهة، وذاك التصدّي لا يتأتّى بقصد التشويه أو

التقديس، بل لإظهار الجوانب الإنسانيّة في الشخصيّة.. ‏

من الأعمال الهامّة التي قدّمت التاريخ المفعم بالإسقاطات والدلالات، مع التفاوت في الصورة الإخراجيّة والرؤية الفنّيّة: «الزير سالم»، «هولاكو»، «صقر

قريش»، «ملوك الطوائف»، «سقوط الخلافة»، «صلاح الدين الأيّوبي»، «سقف العالم»، «ذي قار»، «بلقيس»، «أبوزيد الهلاليّ»، «القعقاع بن عمرو

التميميّ»، «كليوباترا»، «أبو خليل القبّانيّ»، «رايات الحقّ»، «أنا القدس»، «أسمهان».. ‏

وقد لُوحِظ في الآونة الأخيرة عودة الدراما التاريخيّة إلى الواجهة، لتحظى بالاهتمام والمتابعة، وقد ترافقت العودة بإنتاجات ضخمة، وعوالم متجدّدة. وتربط

بين مختلف الأعمال التاريخيّة خطوط عريضة، منها مقاربتها لمراحل تاريخيّة إشكاليّة عبر سيَر شخصيّات تاريخيّة مفصليّة، ثمّ نهوض هذه الأعمال على

حوادث وروايات تاريخيّة من دون أن ترتهن لها أو تكون صورة مستنسخة عنها، ومع صعوبة الابتعاد عن التصوّر المسبَق الثابت في الأذهان، تحضر تحدّيات

كثيرة، لا تنحصر في التصدّي لما تمّ التعامل معه بسلاسة، وما تمّ التفاهم عليه بنوع من الإجماع، المُعلن أو المضمَر، فيكون في النبش والتنقيب في البؤرة

المرشّحة لخلق التوتّرات مغامرة، ولاسيّما أنّ أيّة واقعة تاريخيّة تحفل بالكثير من الروايات المختلفة المتباينة، ما يشكّل حقل ألغام ينبغي الحذر حين الخوض

فيه، كما أنّه لن يحوز على الإجماع أبداً، -وهذا ليس مطلوباً قطّ- لأنّ هناك فئات أو جهات ستجد أنّ العمل قد تبنّى وجهة نظر تخالف وجهة نظرهم، فيبدؤون

بكيل التهم للعمل، ووصفه بتشويه الحقائق التاريخيّة أو تزويرها أو تلفيقها. ثمّ يُتّهَم العمل بما ليس فيه. كما يربط بين مختلف الأعمال التاريخيّة تقديمها

لسيَر إشكاليّة تثير الكثير من الأسئلة، وتحتمل الكثير من وجهات النظر، منها ما هو سير شخصيّات، ومنها ما هو سيرة أمكنة. ويكون التجديد والاجتهاد كامناً

في اشتغال الدراميّين العرب على موضوعات وشخصيّات ظلّت حبيسة كتب التاريخ، وأسيرة لذهنيّات التحريم أو التجريم التي تتعالى صرخاتها الاحتجاجيّة

لسبب ودون سبب. ‏

يقيناً أنّ كاتب النصّ يحرص على أن يفعم عمله بالإسقاطات الواقعيّة والمعاصرة، التي تحضر كركن لا غنى عنه، دون أن يوصف بالتهرّب من استحقاقات

المرحلة، ولا من ثقل التاريخ وأصدائه وبواعثه، يعالج الوقائع التاريخيّة تبعاً لرؤية فنّيّة تستهدف الإنصاف، وتراعي مقتضيات العرض الدراميّ وموجباته، ومن

هنا لا يبقى التاريخ عبارة عن نسق من المرويات التي قد تضفى عليها قداسة من جهة ما، تمرّر عبرها غاياتها، بل يغدو موضوعاً تحت مجهر الفنّ، وفي

سياق نقديّ يستعرض من دون استكانة أو استهانة أو تقديس.. وقد وجدنا هذا في أكثر من عمل، وعند أكثر من كاتب ومخرج وفنّان.. ‏

ونتيجة لصعوبة التحضير والإعداد للعمل الدراميّ التاريخيّ، فإنّه يبقى بعيداً عن متناول مَن قد يستسهلون النصّ الاجتماعيّ أو الكوميديّ.. ويظلّ محصوراً

بفئة من المتعمّقين بدراسة التاريخ والمتبحّرين فيه. ومن هنا تتّسم الأعمال الدراميّة التاريخيّة عادة بطابع إشكاليّ، لما يغلّف التاريخ المُعالَج نفسه من

إشكالات والتباسات، إذ انّ الواقعة التاريخيّة نفسها كثيراً ما تُروَى بروايات عديدة، تختلف حسب موقع الراوي أو المؤرّخ، وتبعاً لثقافته وانتمائه وموقفه ممّا

جرى، كما يختلف من الراوي الشاهد إلى الراوي الناقل إلى السامع، ومن هنا فإنّ الأعمال التاريخيّة تنطوي على خطر كبير، ومجازفة حقيقيّة، على اعتبار

أنّها لن تستطيع إرضاء الجميع، لذلك فستكون مثار جِدال لا ينتهي، بين مؤيّد ومعارض، بين ساخط ورافض، بين متجيّش ومحاذِر، مادام ليس هناك إرضاء،

فلاشكّ سينشأ نوع من النقد المشكّك، لإظهار العمل وكأنّه أحاديّ النظرة، أو يخدم توجّهات صانعيه ورؤاهم. لا غير. قلّة هي الأعمال التي يتمّ الإجماع

عليها، نظراً للاختلافات الكثيرة حول الكثير من النقاط. ولا غرابة أن تكون الأعمال التاريخيّة محفوفة بالألغام والمخاطر من مختلف الجهات، حيث تحتاج من

أجل إكمالها إلى تعمّق في التاريخ، وإدراك لمضامينه، وتفهّم لتناقضاته، و«عناد» على المثابرة لا غنى عنه. وليس الحديث عن انتهاء موضة الأعمال

التاريخيّة سوى نوع فضفاض من التورية والتهرّب، أو هو تملّص فنّيّ تستّراً بستار يُسمَّى «مراعاة السوق»، ومسايرة لأمزجة البعض، ابتعاداً عن الإشكالات

المحتملة الكثيرة. ‏

تبقى النصوص المقدّمة للأعمال التاريخيّة محلّ سجال غير منتهٍ، ولاشكّ في أنّ التنشيط الدراميّ التاريخيّ يعكس فشل المراهنات المتواترة التي رغبت

في إقصاء التاريخ، ذلك أنّ التاريخ يبقى مصدر الغواية ومرجع الدراما. يستبطن الإغراء والإثراء والتجديد معاً.. ‏