2012/07/04

بشار زرقان بين الصوفيّة والحداثة
بشار زرقان بين الصوفيّة والحداثة

هالة نهرا - الأخبار

هو ليس صوفيّاً أو زاهداً، عكس ما قد توحي به عباءته البيضاء، وأغلفة أسطواناته. نظرته تخفي وراءها شغفاً غامضاً، وشقاوة غير عادية، وحزناً يشي بانكسارات. يحدّثك عن رجال يتلون آيات من الذِّكر الحكيم، ينقرون على الدفوف، يبسملون، يصيحون بغبطة، يغمغمون بعض الكلمات، ويؤدّون رقصة دَوَرانية في غرفة تعبق برائحة البخور. هذا ليس مشهداً تمثيليّاً، بل تجربة خبرها بشار زرقان (1962) في طفولته عن طريق المصادفة.

فضول الولد «العفريت» دفعه إلى «التلصّص» على حياة ثلاثة متصوّفين، فانبهر بابتهالاتهم الحارّة، وفُتن بأصواتهم وإيقاعاتهم. لم يكن الفنان السوري يعلم حينها أنّ طيفهم سيخيّم على مشروعه، وأنّ هذا المشهد الحيّ سيقوده لاحقاً إلى الشعر والموسيقى. لعلّه استخفّ بما رآه خلسةً، وحاول العودة إلى حياته. لكن «لعنة» المتصوّفين المكفوفين الذين ضربهم بالبطّيخ مرّةً، بقيت تطارده حتّى هذه اللحظة. حين احترف الغناء، لم يتوقّع أحد أنه سيتّجه يوماً إلى الموسيقى الصوفية.

هكذا هو بشار زرقان، يفاجئنا دوماً في انتقاله من نمط موسيقي إلى آخر. بدأ يصقل موهبته ممثّلاً وموسيقياً في مرحلة الدراسة الثانوية. مسرحية «لكع بن لكع» لإميل حبيبي (إخراج وليد قوتلي ـــــ 1981) التي شارك فيها غناءً وتلحيناً، أيقظت وعياً مغايراً لديه، ومثّلت نافذة أطلّ منها على عالم يتشابك فيه الإنساني والفنّي والاجتماعي والسياسي. تعلّم العزف على العود، وانطلق من الموروث السوري والمصري والمقام العراقي، إلى فضاء الأغنية الملتزمة. الغناء والتمثيل لم يشبعا رغبته، فالتجأ إلى الشعر ليغذّي مخيّلته، ويقارب الواقع والوجود بأدوات معرفية وفنّية متنوّعة.

لم يجرؤ بشّار يوماً على نشر نصوصه الشعرية والنثرية، واكتفى في بداياته بتلحين بعض قصائد محمود درويش («سجّل أنا عربي» مثلاً). ثم أسّس فرقة «المسحراتي» مع أحمد فؤاد نجم بعيد انفصاله عن الشيخ إمام أواسط الثمانينيّات، ولحّن قصائد للشاعر المصري، أبرزها «ورق» المهداة إلى الاستشهادية اللبنانية سناء محيدلي. بعدما اغتربت الأغنية السياسية عن الواقع، انتقل بشار إلى الغناء الصوفي. الشاب المتعدّد المواهب، والمنسلّ من مناخ اليسار، لم ينجُ من حالة الإحباط الفكري والسياسي التي عاشها بعض الفنّانين والمثقّفين العرب أواخر الثمانينيّات. سافر إلى فرنسا في التسعينيّات، ودرس مسرح الصوت محاولاً فهم تلك العلاقة الشائكة بين الحركة والإيقاع والكلمة والصوت. خضعت تجربته في باريس لتحوّلات كبرى، فدخل ابن حي باب السلام الدمشقي، معترك الموسيقى العربية التي تحمل طابعاً صوفيّاً وتعبيريّاً. بعد شريط «بالبال» (1986)، وألبوم «طير لا تطير» (1999) الذي حوى نصوصاً لشعراء معاصرين (طاهر رياض مثلاً) وقصائد صوفية، أطلق غنائية «جدارية» (شعر محمود درويش). ورغم أن العمل الأخير يشتمل على عناصر جمالية عدّة، ويتّسم بنفَس شرقي شائع، إلا أنه افتقر إلى البساطة والتكثيف والتماسك. إذ لم يرتكز على بنية لحنية صلبة. الغنائية بنسختها الثانية (توزيع فادي خنشت، 2002)، بدت أكثر إتقاناً وانسيابية لجهة التأليف الآلاتي، والتوافق النغمي (الهارموني). أمّا ألبوم «حالي أنتَ»، فتضمّن قصائد لمجوعة شعراء (أبو حيّان التوحيدي، وأحمد الشهاوي، ومحمود درويش...)، ومثّل نقلة نوعية في مسيرته، ووضعه في بؤرة الضوء.

حالة من الانخطاف الصوفي والطرب الداخليّ الهادئ تسود أسطوانته الجديدة «لا أحد» (إنتاج «ناد لكلّ الناس»). عنوان الألبوم مأخوذ من الجملة الأخيرة في أغنية «في البيت أجلس» (شعر درويش) التي تؤدّيها إناس لطوف، ويتلو فيها زرقان بعضاً من سطور القصيدة بلهجة منبرية مفخّمة. وأسطوانة «لا أحد» التي تشتمل على تسع محطّات غنائية وموسيقية، تؤكّد النضج الفنّي لصاحبها، وتكرّسه مؤدّياً صوفيّاً وملحّناً مجتهداً. نكتب هذا الكلام، رغم خضوع العمل لخيارات أسلوبية محدّدة، وانزلاقه إلى مطبّ الاستسهال في الكتابة الموسيقية المخصّصة للبيانو والكورس (الأصوات النسائية تحديداً).

في عمله الجديد، يلجأ زرقان إلى الإيقاعات المركّبة والدفع الإيقاعي، ويبرز السلالم المقامية من دون الوقوع في فخّ التطريب الزائد. «مالي جُفيت» (شعر الحلّاج)، تدلّ على أنّ بشار لم يفلت من سطوة عبد الحليم حافظ. تقنيّاته وتعبيراته الصوتية تبيّن مدى تأثّره بالمدرسة المصرية، فيما تنمّ «شجر اللوز» (مقام الراست) و«ما أطيب ما بتنا» (مقام الهزام) عن ميله إلى الطرب الشعبي. أمّا «اقرأ»، فهي قابلة للاستثمار في التوظيف المشهدي. الأمر نفسه ينسحب على معظم أغنياته، علماً بأنّها تتطلّب وعياً سمعيّاً خاصاً، وتتأرجح بين الموسيقى الشرقية الأصيلة والموسيقى العربية المعاصرة. لا شكّ في أنّ زرقان يبذل جهداً لإعادة إحياء الشعر الصوفي (قصائد ابن الفارض، وابن عربي، ورابعة العدوية...)، ومَوْسَقة الشعر الحديث.

علاقة هذا الفنّان السوري بالموسيقى تقابلها معرفة عميقة بالفنّ التشكيلي. قد يخيّل إليك أنّ أغنياته تصطبغ بالألوان. الفنّان المسكون بهاجس الحرّية يتّخذ من الغناء الصوفي وسيلةً للعودة إلى طفولته ووجدانه. يبحث اليوم عن فضاء يتّسع للرقص والشعر والغناء والتمثيل، ويواجه العالم الذي فقد الإيمان بتغييره، بشيء من السخرية السوداء، وكثير من الجرأة و«الجنون».