2012/07/04

محمد منصور - القدس العربي صدمة وذهول كبيرين استبدا بانطباعات الكثير من الذين حضروا العرض الأول للفيلم السوري (بوابة الجنة) للكاتب حسن سامي يوسف والمخرج ماهر كدو، ضمن عروض مهرجان دمشق السينمائي السابع عشر.
فالفيلم الذي تبجح وزير الثقافة السوري الدكتور رياض نعسان آغا في حفل الافتتاح، وهو يزف إلينا المفاجأة... قائلا إنه تم إنتاج فيلم روائي طويل مهدى من وزارة الثقافة- المؤسسة العامة للسينما، إلى القدس وفلسطين لمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية هذا العام، والفيلم الذي لم يتردد الناقد محمد الأحمد مدير المهرجان من القول أثناء تقديمه للجمهور بأنه (إنجاز محترم بحق) بدا هدية مخجلة ومخيبة حقاً ... لا تليق بالمهدى إليه على الإطلاق... ولا بالقضية النبيلة التي طالما قدمت سورية لها أغلى التضحيات وأجل مشاعر الأخوة والتضامن... فكيف انتهى الحال بالسينما السورية وهي التي قدمت أهم الأعمال عن القضية الفلسطينية في تاريخها، أن تنزلق إلى هذا المستوى البدائي والمخجل... والذي جعل الكثيرين لا يصدقون أنهم يشاهدون فيلماً سينمائياً سورياً عن فلسطين على هذه الشاكلة؟!
صراع بأفكار مسبقة!
تدور أحداث (بوابة الجنة) المأخوذ عن رواية للكاتب حسن سامي يوسف، كتب لها السيناريو بنفسه كما تشير 'تيترات' الفيلم، عشية انطلاقة انتفاضة أطفال الحجارة الأولى... فالزمان هو 1987 والمكان هو فلسطين... والصراع يبدو صراعاً حاداً منذ البداية، بين أب رفع الراية البيضاء على سقف بيته عقب نكسة حزيران عام 1967، واستفاد من التسهيلات التي منحت له في عمله في التجارة، فاستطاع أن يعيش هو وأسرته في مستوى اقتصادي جيد مكنه من إرسال ابنته لدراسة الطب في لندن... وبين أبنائه الذين شبوا على الفطرة الوطنية السليمة، فشعروا بالخزي من سمعة أبيهم المهادن للاحتلال... ورأوا أن لا مفر من مناهضة المحتل أو مقاومته، وصولاً إلى الانخراط في العمل الثوري السري بأي شكل من الأشكال!
هذه العقدة الدرامية تبدو بيئة جيدة ومعقولة لصناعة فيلم يدين منطق الاعتدال والمهادنة في التعامل مع المحتل، ويثبت بالمنطق الوطني السليم أن لا مكان للاعتدال مع من يحتل الأرض، ويصادر الحريات، ويستبيح المقدسات، ويغتصب الحق... إلا أن المشكلة الحقيقية تبدأ في المعالجة... ورسم مسار الأحداث، إذ يبدو الفيلم منذ البداية متوتر الأجواء، غير قادر على إحكام المواجهة بين منطق كل طرف على حدة... فالابن الأكبر (علاء الدين) الذي يستشهد لاحقاً، يبدو عنيفاً وانفعالياً ومتمرداً على سلطة الأب بطريقة صبيانية... فيما يجابه الأب كل هذا بمزيد من التوتر والانفعالات الحادة... وإذا كان المشاهد يتعاطف تلقائياً مع منطق المقاومة، فإن رسم القوى الفاعلة للعناصر المتصارعة يبدو مختلاً وهشاً، ومعبأ بالأفكار المسبقة... الأمر الذي يحرم المشاهد من تلمس درامية هذا الصراع الهام بشكل متوازن ومنطقي...
تتوالى الأحداث بشكل غير معلل جيداً... ويبقى التوتر والانفعال الحاد وسيلة رسم ردود الأفعال... فالابنة التي عادت من لندن بعد دراسة الطب، تواجه بمحاولة تجنيدها من قبل سلطات الاحتلال للتجسس على زملائها الذين يدرسون في أوربا... ترفض الطلب المستفز بحسم، لكنها تفاجأ بموقف أبيها وهو يصر على أن هناك شيئاً آخر غير هذه المهمة، هو ما دعا سلطات الاحتلال لاستدعائها... ويتطور الحوار إلى حالة هيستيرية تقوم فيها الابنة بتكسير أثاث غرفتها... دون أن تحدث مواجهة حقيقية بين رغبة الأب الدفينة في تعاون ابنته مع الاحتلال... وبين موقفها الرافض لذلك... وهكذا ففي كل حدث يفترض أن يبرز صراع النقائض بين المنطقين، وما يتبع ذلك من صراع داخلي يمكن أن يثري الحالة، ينحو الفيلم نحو الحلول الصاخبة والصراخ... مفتقداً تلك العلاقة الجدلية التي يمكن أن تغني السياق، وتبلور جوهر الشخصيات أياً كان اتجاهها!
من مهادن إلى فدائي!
التحول الأساسي يجري في ليلة ممطرة... عندما ترى إحدى الفتيات شاباً مصاباً يحاول أن يتسلل إلى حديقة البيت تحت جنح الظلام، فتقوم بإيقاظ شقيقتها الطبيبة، وتتكفلان بإدخاله إلى البيت... ثم تطلب الطبيبة من أبيها أن ينقله بسيارته إلى المستشفى، إلا أنه يرفض خوفاً من نقاط التفتيش الإسرائيلية، ويقوم عوضاً عن ذلك بالتطوع إلى الذهاب إلى المستشفى بعد أن تكتب له ابنته شرحاً لحالة المقاوم المصاب، راجية إرسال طاقم طبي لإجراء عملية جراحية عاجلة له في البيت على الأقل!
ومن المؤسف أن هذا الحدث المثير يعالج بسذاجة، فلا نلمس أي صراع بين الواجب والمصلحة في نفس الأب الخائف على أسرته وعلى مكتسبات حياته، مجرد صراخ انفعالي ينتهي بقبول الأب أداء المهمة أوتوماتيكياً، وباندفاع غير معلل لا منطقياً ولا فنياً... إذ كيف يمكن لمن كان يعنف أبناءه إذا غابوا عن البيت، أن يتحول فجأة إلى فدائي... وإذا كان الجواب هو أن هذا الرجل في قرارة أعماقه يمتلك حساً وطنياً عالياً، فما قيمة كل مقدمات الصراع والشكوك التي أثيرت حول سمعته... مادام الرجل ثورياً إلى هذه الدرجة ونحن لا نعلم؟!
تساؤلات تطرحها معالجة سطحية ومتسرعة، وشخصيات درامية غير مبنية جيداً، وحلول إخراجية لا تعي الإيقاع النفسي لصراعات الشخصيات... ويمضي الفيلم في بنائه المتداعي، فيعود الأب حاملا مجموعة معدات طبية بسيطة، ورسالة شفهية تطلب من ابنته الطبيبة أن تجري العملية بمفردها، لأن المستشفى مكتظ بالجرحى ولا يمكن للجراح المناوب مغادرته... وهاهنا يضيع المخرج واحدة من أجمل اللحظات الدرامية في الفيلم... لحظة إجراء العملية في المنزل بتشجيع من الجدة، في الوقت الذي يصل خبر استشهاد الابن الأكبر (علاء الدين) إذ لا نرى أي لقطة للعملية الجراحية أو التحضير لها... لا نرى أثراً للخوف الإنساني... للشجاعة في محاولة إنقاذ حياة إنسان... للأمل بالنجاح في ظروف إعجازية بالغة القسوة، ولا لتمازج كل هذه المشاعر والمعاني مع وصول خبر استشهاد الابن والشقيق... فكل شيء يجري اختزاله بعبارة أو عبارتين لا تدركان أي من هذه الحالات، التي كان يمكن أن تكون أجمل مشاهد الفيلم بحق. وفي الإطار نفسه يأتي مشهد إعلام الأسرة باستشهاد ابنها، بارداً ومبتسراً... تعوزه الإدارة الإخراجية لأداء الممثل الناشئ محمد رافع... التي كان يمكن أن تشحن المشهد بلحظات الصمت العميق والألم والخشية، بطريقة تعطي خبر استشهاد شاب في ريعان الشباب حقه ومساحته الدرامية المؤثرة!
بوابة الجنة ومخيماتها!
يمضي الفيلم بعد ذلك على غير هدى... فكل شيء يبدو مفاجئاً... ولعل أبلغ مفاجأة هي القبض على المقاوم المختبئ في بيت الأسرة، رغم أن البيت مبني في منطقة معزولة وبالتالي يمكن أن تسمع أصوات السيارات وعشرات الجنود الذين كان يتجهون نحو البيت... لكن الأبواب تفتح بلحظة واحدة، ويقبض على المقاوم الذي دوّخ الموساد بسهولة متناهية... وقبل أن يتمكن من الاختباء في أي زاوية، ويتم تجريم الأسرة تالياً بنسف منزلها بعد طردها منها.. وتصل مظاهرة من الأطفال والشباب والنساء تحمل الإعلام الفلسطينية نحو خيمة العز التي رفعت بديلا عن بيت الذل، فلا يكون من الأب إلا أن يأخذ علماً فلسطينياً من أحد الأطفال ويرفعه فوق الخيمة!
وما بين مشاهد الاستجواب والتعذيب ومحاولة اغتصاب فتاة فلسطينية في السجن، ثم استشهاد الطبيبة وهي تحاول الاتصال بالمقاومين لإنقاذ الشاب الذي أجرت له العملية ووقعت في حبه... تتوالى نهايات الفيلم الساذجة... مع مشاهد إيحائية تجسد بوابة الجنة التي يفتحها الأب التائب وهو يلبس الأبيض حقيقة لا مجازاً... ثم نرى مشاهد أخرى لجنة متواضعة الجمال تخيلها المخرج بشكل غريب حقاً، وقد بدت مجرد مجموعة أشجار مع طريق ترابي مغطى بأوراق الشجر.. تتجول فيه شخصيات الفيلم التي استشهدت وهي ترتدي الملابس البيضاء وكأنها في طريقها نحو أداء مناسك العمرة!!
وفي مشهد تال، زين المخرج الجنة الفلسطينية بمخيمات ليس فيها أي تميز عما نعرفه من خيام البؤس... بل أين منها شقاء الحياة الدنيا... وشقاء هذه السينما الساذجة البطيئة الإيقاع، التي ترهق أعصاب المشاهد حتى يصل إلى نهاية الفيلم!
لا أثر للتمّيز!
ومن المؤسف أننا لا نجد على صعيد الأداء التمثيلي أي جهد فني متميز لكافة عناصر وممثلي الفيلم، ومنهم ممثلون جيدون بطبيعة الحال... لكن يبدو أن الجميع هنا محكومون بالسقف الفني المنخفض للفيلم، الذي يضبط كافة عناصره بعيداً عن (طموح التميز) ولهذا تبدو موسيقى معن خليفة عاملا من عوامل سقوط الفيلم... لأنها تتعامل معه باعتبار مشاهده كيانات منفصلة لا تربطها وحدة حقيقية... ولا أدري إذا كان السبب هي محاولة الموسيقي ترجمة تنافر وتشتت اللغة الإخراجية والمعالجة... أم هي حالة الاستسهال التي جعلت خليفة يتعامل مع تيمات جاهزة (وين عارام الله- يا ظلام السجن خيم) ومع مناخات جاهزة (إثارة- ترقب- رعب) من دون أن يصهر ذلك في مناخ موسيقي متكامل وخاص بالفيلم!
مشكلة (بوابة الجنة) الحقيقية تكمن في غياب الحس الدرامي في رواية القصة، وفي إيجاد مبررات مقنعة لتحولات الأحداث والشخصيات، وفي لغته التي لا تخلو من التماعات بصرية أحياناً، لكنها تبدو مرتبكة ومتهافتة لو وضعناها في سياق عام يدرك البدايات والنهايات!
أخيراً... إن المرء لا يصدق أن المؤسسة التي أنتجت عن القضية الفلسطينية (السكين- المخدوعون- كفر قاسم) وسواها تتورط في مثل هذا الانتاج، ولا تخجل من التباهي به، في الوقت الذي يفترض أن الأساليب قد نضجت... والزمن قد تقدم.. والرؤى والأدوات قد تطورت؟!
فهل تسير السينما السورية اليوم إلى الوراء؟! وهل تشهد الثقافة السورية حالة انهيار حقيقية، أم طغيان لغة الإنشاء المزخرف والخطب الطنانة التي يجيدها السيد وزير الثقافة كي يغطي على خواء المنتج الثقافي الذي يبدو سمة عهده الحالي عموماً؟!
أسئلة مريرة وحزينة بمقدار مرارة وبؤس فيلم (بوابة الجنة) في المحصلة!