2012/07/04

تصحيح كذبة الأبيض الخالد
تصحيح كذبة الأبيض الخالد

زياد الخزاعي - السفير

السينما تكذب أحياناً. تُغيِّر وجهات التاريخ، وترمِّز أبطالا فارغين، وتحنو على مجرمين محوّلة إياهم إلى ضحايا غدر وملامة. هوليوود بارعة في التزوير. تحكي الحكايات من أبواب التبرير، عندما تمسّ مجازر روّاد الاستعمار الأوروبي إلى أراضي السكّان الأصليين، الذين لُقِّبوا عنوة باسم «هنود حمر». كان المتحضر يبيدهم لأنهم نجاسة أرضية وتوحّش آدمي. الهدف مرسوم من أجل «تحرير» الفيافي باسم الصليب. تأسيس دولة التكليف الرباني للديموقراطية الوافدة من القارة العجوزة، وتشكيل مجتمع فتي وديناميكي، أنيطت به «الحكمة والعدل» (بحسب متن الدستور) والبادرة والواجب السماوي لتعميم نظام «صون الحقوق والحريات».

هوس الكلمات

القيادي جيمس مايسون، أحد مندوبي «المؤتمر الدستوري» في العام 1787، معنيٌّ إلى حدّ الهوس بهذه الكلمات. وضع خياله وقوّته الحزبية من أجل ضمانها «الرأس الأبيض» أولاً، قبل أن يرفض الفرجيني جورج ماسون التوقيع على الدستور، ساعياً إلى فرض خمسة عشر تعديلاً سُمّيت بـ«وثيقة الحقوق»، تضمن الحريات الأساسية لجميع المواطنين من دون استثناء. هوليوود، التي جاءت متأخّرة ومتمتّعة بدعم سياسي، احتفلت برمز الاتحاد مرّات كثيرة، وغالباً ما لفقت في أفلامها سِيَر موقّعيه. هم أبطال وصناديد. أشخاص تاريخيون خالدون، لكنهم جميعاً بيض. لون المستعمِر السائد، الذي أوجد لعبة سياسية بلبوس عسكري في غارات الإبادة، ولاحقاً الرقّ وعبيده قبل التعديل الثالث عشر، الذي ألغاه نهائيا منذ العام 1865. السياسيون فلحوا في رسم أمة بلا آثام، بيد أن الشارع الأميركي ما زال يغلّ في لعبة العنصرية. وهوليوود مارت الأمزجة، تارة كتوثيق ذي بصيرة كما جاء على يدي أبي السينما الأميركية دي. أو. غريفيث، وبالذات في «مولد أمّة» (1915)؛ وأخرى كوسخ عنصري سينمائي على غرار «آلامو» (1960) لماريون ميتشل موريسون، المعروف عالمياً باسمه الرنّان: جون واين. إن صنعة بيفيرلي هيلز تماشت في تكريسها النوع السينمائي المعروف بـ«وسترن» (سينما رعاة البقر)، مع قرار سياسي ضمني: تكذيب التاريخ، حيث ان الأرض للوافد النبيه والمُصان بأوراق الإنجيل، في مقابل الوحش شبه العاري المشهور بجزّ فروات الرؤوس.

ما الذي أبقته السينما للكائن البرّي؟ عطف التاريخ لأحفاده القلائل، المعتقلين في مستعمرات بيئية، والذين أُرغموا على إدمان الويسكي والمخدّرات والتسيّب والعطالة واللكنة الايرلندية الوافدة. تزوير هوليوود «الهندي الأحمر» لم يمنعها من الغلّ بشخصية الأبيض المدمِّر والمجرم والغدّار، الذي صحّح لاحقاً صيرورته الأدبية الكاتب الفذ كورماك مكارثي في «هاجِرَة الدم» (1985)، حيث تتحوّل وحشية الأبيض إلى عُصاب جماعي لا يفلت من عقاله الدموي أي كائن. وهي الفكرة نفسها، لكن على قدر عال من الرقّة والعفّة، التي أفلمها النمساوي فرد زينمان في «عزّ الظهيرة» (1951)، من باب أن خيانة الأبيض وجبنه ليسا عاراً أمام قوة الشكيمة التي يحوّلها الماريشال ويل كين (غاري كوبر) إلى قانون أخلاقي، يحافظ على التوازن الاجتماعي للبلدة، ويصون كرامتها.

هذا التصحيحان، ضمن عناوين سينمائية أخرى غلّبت بصيرتها السوسيولوجية في رصد الكيانات الاستعمارية الوليدة، على غرار اشتغالات جون فورد في «عناقيد الغضب» (1940) حول الفاقة الاقتصادية، و«حادث أكس ـ بو» (1943) لوليم أ. ويلمان حول مفهوم العدالة الشخصية، والنص الأخّاذ «جشع» (1924) لإريخ فون ستورهايم حول فساد النفوس؛ هذان التصحيحان يجدان صداهما اليوم في جديد صاحبي «فارغو» (1996) و«لا موطن للعجائز» (2007) الأخوين جويل وإيثان كوين «عزم حقيقي»، المقتبس عن نص روائي بالعنوان نفسه للكاتب تشارلز بورتيس، حيث يقلبان البطولة الفارغة التي زخم بها اقتباس المخرج هنري هاثاوي في العام 1969 لشخصية الماريشال روستر كوغبيرن، لالباسها بفظاظة كوميدية على النجم جون واين، الذي تهكّم عندما حمل التمثال الذهبي «أوسكار» كأفضل ممثل عامذاك قائلا: «لو وضعت تلك العصبة السوداء على عينيّ 35 عاماً أبكر»، في إشارة إلى تأخّر حصوله على التكريم الهوليوودي الأكبر. ويجيّران العلاقة الندية بين العجوز السكّير والصبية ماتي (هيلي ستنفيلد) الساعية إلى القصاص من قاتل والدها، كسيرورة لحصانة ذكورية تتلـبّس أبوّة ناقصة ولا شرعية. في نص بورتيس، تستكمل البطلة قانونها الشخصي، عندما تفشل العدالة الرسمية في إتمام العقوبة. وعندما تصرخ في وجه القاتل توم تشيني (جوش برولين) «انتصب واقفاً»، قبل أن ترديه برصاصتها الوحيدة، متجاوزة فشل رجل القانون الآخر ليبـيف (مات دايــمون) في النيل منه، يكون الماريشال كوغـبيرن (أداء قدير لجيف بيردجيز) في مهمته الشخصية البديلة للانتقام من المجرم ند بيبر (باري بيبر).

بطولات

ما الذي جرى للقانون في العام 1877، زمن أحداث الرواية ومسرحها؟ كان ضحية العصيان والتحصّن بأرض لا تُقتَحم. كل الأنذال يهربون من العدالة ليختبئوا في الأحراش وجرود الجبال. إنهم خصوم الأمن الاجتماعي، والنجاسة الشريرة. الربّ أباح دماءهم، لأنهم استسهلوا إسالتها من دون ذمّة أخلاقية. الأخوان كوين وعيا أن البطولة ليست شخصانية بل ملك للطبيعة، وعليه نرى المواقع جبّارة الحضور بصُوَرها الباهرة، التي تعكس عظمة خالقها، ضاغطة بتأويلها الديني حيث القدر لا تشكّله النفوس، بل منطق البقاء المحصّن بالسلاح وناره القاتلة. من هنا، يفهم مُشاهد «عزم حقيقي» لماذا أورد الأخوان كوين الإشارة الإنجيلية في مفتتح فيلمهما، والقائلة «الشريرُ يَهرُب وَ لا طَارِد» (سفر الأمثال، 1.28). ذلك أن قيامة ماتي شرط عائلي، لأن «الشرير تأخذه آثامه وبحبال خطيئته يُمسك» (22.5). يُسمع صوتها وهي في أربعينياتها، تسرد تفاصيل الغدر وسطرا من رسالتها: «أماه، غداً سأباشر في المغامرة»، لأن تشيني يمكن أن يفر، فيما لن يكلِّف أحدٌ نفسه عناء مطاردته. لكن، «عليه أن يدفع الثمن بشكل أو بآخر، لأن لا شيء مجّانيا، ما عدا نِعَم الرَبّ»، بحسب خطبتها الأولى. هذا النفَس الديني واجبٌ، درامياً، لتحويل «جان دارك الريف الأميركي» إلى نورما ديزموند، البطلة المعاصرة في فيلم «سانسيت بوليفار» (1950) لبيلي وايلدر، التي تتماهى بنجوميتها الآفلة مع جريمتها التي ارتكبتها قبل يوم واحد. تتلبّس ماتي قوة شخصية نورما باستخدامها اللغة وحجّتها، قبل أن ترتكب هي «جريمتها» القانونية بقتل تشيني. ولا ريب في أن الأخوين كوين تنبّها بفطنة إلى فخامة الحوارات التي كتبها بورتيس، المغلّفة بكَمّ متنوّع من الاستعارات الشكسبيرية.

ما يتفوه به الثلاثي ماتي ـ كوغبيرن ـ لبييف مجموعة من التعابير التي لا تمتّ بصلة لمحتدهم: هي ابنة راعي بقر، الثاني تخلّى عن دراسته باكراً ليضع نجمة القانون على صدره ويطارد الخارجين على قانونه (في مشهد المسيرة الأولى، يُخبر كوغبيرن الصبية أن زوجته الثانية أرادت إغراءه بدراسة القانون)، بيد أنه أرفقها بزجاجات الويسكي الرخيص، ليبقى ثَمِلاً بقية حياته، قبل أن يتحوّل إلى ممثل في سيرك جوّال. بينما الثالث تكساسي وضيع يقول لهما: «أنا غير أليف مع نيران بهذا الحجم، إذا نستعمل ناراً أقلّ لتسخين الفاصولياء». ولعل هنا مكمن الغرابة في تجسيد شخصيات بورتيس بحسب رؤية الأخوين كوين، إذ إنها تشكّل جماعة بشرية متنافرة، تجتمع على استخدامات لغوية أكبر مقاماً من طبقتها ولسانها، بالإضافة إلى أن بهاءها التراجيدي لا يتساير والجدب الجغرافي الصقيعي الذي يحيط بمسيرتها الطويلة. تأخذ ماتي، الشبيهة ببطلة متسوّلة من العهد القديم بحسب كلمات الناقد الأميركي ريتشارد كورليس، بثأر والدها، ويبقى الدين الأخلاقي بشأنها مرهوناً بالسكّير العجوز الذي عليه إنقاذ الصبية من سمّ أفعى المغارة، التي سقطت فيها إثر رجّة إطلاقها الرصاص. وحين يفلح في إيصالها إلى أقرب دار حضرية، يقول كلمته بإنهاك مفخم: «إني أشيخ»، إيذاناً بتصحيح الكذبة السينمائية: إن بطل الغرب الأميركي غير خالد وغير معصوم من الإثم والموت، تماماً كما كانت عليه حال الشاب لويلن موس بطل «لا موطن للعجائز»، الذي لم تنفعه خبرة حربه في فيتنام من تفادي اغتياله على أيدي أفراد عصابات المكسيك، هو الذي خاتل بنجاح رصاصات المهووس بالموت أنتون شاغورا.