2013/05/29

ثناء دبسي: كفانا نظراً إلى النصف الملآن من الكأس.. انظروا إلى نصفه الفارغ..!
ثناء دبسي: كفانا نظراً إلى النصف الملآن من الكأس.. انظروا إلى نصفه الفارغ..!


سامر محمد إسماعيل  - الوطن السورية

صورُها على حائط البيت مع رفيق عمرها الفنان سليم صبري تخبر الزائر أن الزمن سيكون رائعاً لو كان بالأبيض والأسود، لكنك عندما تتحدث إليها ستكتشف أنك عثرت على غابة من الألوان، فتحكي لك عن بداياتها، عن الصبيّة التي كانت طالبة في مدرسة «النضال العربي» في حلب؛ هناك تعلمت ثناء دبسي الغناء والموشحات والقدود ورقص السماح: «كنتُ أحلم أن أصير مطربة مع أنني كنت خجولة ولم أفكر في يومٍ من الأيام أن أكون ممثلة».

مع ندرة الفتيات اللاتي يشتغلن في التمثيل الشابة الصغيرة مع أختها «ثراء دبسي» بما كانت تقدمه فرقة نادي «المسرح الشعبي» برفقة كل من أحمد عداس وعمر حجو وبهجت حسان، وحسن بصال، فقدمت أول عروضها على مسرح دار الكتب الوطنية بحلب، وكان من تأليف زهير براق وإخراج سليم قطايا وبرفقة كل من شريف شاكر وبدر المهندس وسليم صبري وثراء دبسي.

«لم أدع نوعاً من أنواع الرقص إلا وقمتُ بأدائه، من الشرقي إلى الشركسي» تقول سيدة المسرح السوري ذلك مستذكرة عائلات ومثقفي مدينتها الذين ذهبوا فيما بعد إلى دمشق دفعةً واحدة عام 1960 حيث شاركت «دبسي» برفقة كل من نهاد قلعي وعبد اللطيف فتحي ورفيق الصبان ومحمود جبر في تأسيس المسرح القومي: « كان أول عرض من إنتاج المسرح القومي هو مسرحية (شيترا) لطاغور التي قمت ببطولتها بدور المرأة الأنثى برفقة الفنانة فاطمة الزين وقدمت وقتها على خشبة المسرح العسكري». قدمت ابنة حلب بعدها بطولة مسرحية «أبطال بلدنا» للمصري يعقوب الشاروني في دور عجوز في التسعين وهي الصبية التي لم تتجاوز الثمانية عشر من عمرها.

تاريخ هذه المرأة كان مسرحياً بحق، فعناوين العروض الكثيرة التي قامت ببطولتها تشهد بذلك، فمن «الأشباح» لهنريك إبسن مع رفيق سبيعي إلى مسرحية «رجل القدر» لبرانارشو إلى «مروحة الليدي وندرمير» لأوسكار وايلدر مروراً بـ«أنتيغون» الفرنسي جان أنوي، ومنها إلى دور «كاترينا» في «الإخوة كارامازوف» لدستويفسكي، إضافة لـ«الحيوانات الزجاجية» للأميركي الواقعي تينسي وليامز و«كورديليا» في الملك لير، فضلاً عن مسرحية «الأشجار تموت واقفة» للإسباني أليخاندرو كاسونا، و«البخيل» لموليير من إخراج عبد اللطيف فتحي، و«عرس الدم» للوركا: «كنا نعمل من أجل صنع شيء اسمه فن، لم يكن يهمنا شيء، كنا نريد أن نشتغل بأظافرنا وأسناننا للوصول إلى الجمهور، إلى حالة من الوعي والجمال».

توقفت بعدها سيدة المسرح القومي عن العمل في المسرح عام 1978 وغابت لأكثر من اثنتي وعشرين عاماً لتعود على يد الفنان ماهر صليبي وتقدم عرض «تخاريف» 2000 إلى جانب الفنان عبد الرحمن أبو القاسم، تنسى دبسي كم عمل أدت على خشبة المسرح القومي، فيذكرها سليم صبري بالعمل الذي وقفا فيه لأول مرة على الخشبة في عرض «مدرسة الفضائح» للأميركي ثورنتون وايلدر، المسرحية التي ستجمعهما في زواج ستبقى جذوته تضيء حتى اليوم: «تركت المسرح لأنهم كانوا يعاملوننا كموظفين مطلوب منهم أن يقوموا بالتمثيل حتى ولو كان العرض سيئاً، وهذا لا يمكن القبول به كطريقة تعامل مع الفنان، فنحن كنا نجول بالعرض لمدة ستة أشهر في كل المحافظات السورية، ثم نذهب به إلى بيروت وطرابلس أيضاً، كنتُ أشتغل في الوقت ذاته في التلفزيون العربي السوري مع الفنان الكبير سليم قطايا بعد عودته من ألمانيا، حيث قدم هذا الفنان الذي لا يذكره أحد اليوم أول عمل في الدراما السورية بإشراف صباح قباني وهو مسلسل بعنوان «ساعي البريد» أعقبه بأعمال رائعة أخرجها للتلفزيون وكنت بطلة في معظمها كان أهمها: (المستوصف، عشاء الوداع، رجل الشمع، القناع، راكبو البحار». تستذكر دبسي تلك الأيام بغصة عن أستاذها قطايا الذي رحل بعد شهرين من إخراجه لـ«راكبو البحار» العمل الذي قال عنه شخصياً بإنه سيكون جنازته:» هذه الأيام لم تكن مفروشة بالورود لفناني تلك الحقبة حيث كان العمل الدرامي يصور بكاميرا واحدة وبلا أي انقطاع لعدم وجود المونتاج، وصعوبة الإعادة أو التصحيح إلا بإعادة التصوير من أوله، وتتساءل: «أين ذهبت أعمال سليم قطايا اليوم، لا يوجد عمل واحد في أرشيف التلفزيون من إنتاجاته الرائدة في مجال الإخراج الدرامي؟ كل شيء تم محوه من الذاكرة، ثمة من مسح الأشرطة وسجل عليها..؟».

بداية السبعينيات عملت ثناء مع علاء الدين كوكش في أعمال «الأميرة الخضراء، حارة القصر، زينة، الانتظار» وأيضاً مع غسان جبري في «الفندق» إضافة لشغلها في إذاعة دمشق مع مؤسس الدراما الإذاعية في سورية الراحل مروان عبد الحميد، ساعات طويلة من العمل تحتفظ بها هذه السيدة في أرشيف «هنا دمشق» العزيز على قلبها: «قبل أن أتعلم أساليب النطق الصحيح في إذاعة دمشق تتلمذت على يد أستاذي في اللغة العربية جورج السيوفي، لكنني وراء ميكرفون الإذاعة تعلمتُ فن النطق والصمت، إضافة لتقطيع الجملة وتدريب الأنفاس وشحن الصوت بالعاطفة وإلباسه الشخصية بالنسبة لمخيلة المستمع، وهذا برأيي ما يحتاجه معظم ممثلي وممثلات هذه الأيام الذين لا تستطيع أن تفهم ما يقولونه سواء على المسرح أو على الشاشة، إنهم يأكلون الجمل ويلوكون الحروف».

في الثمانينيات غابت ثناء دبسي عن التلفزيون كما عن المسرح لمدة ستة عشر عاماً بعد أن قدمت مسلسل «الذئاب» مع علاء الدين كوكش: « لم أستطع أن أتقبل مناخ التعامل مع الفنان واعتباره موظفاً يأخذ راتب وعليه القيام بأي عمل يطلب منه، إما أن تعملي أو تحالي لقانون العقوبات، هذا يمكن تطبيقه في مصنع، أما في الفن فهذا خطأ جسيم». إلا أن ذلك لم يمنعها من المشاركة في أعمال درامية عربية، فاشتغلت مع التلفزيون المصري في مسلسل «المتنبي» إلى جانب أمينة رزق وأحمد مرعي، وقدمت في الأردن أعمالاً وصفت نقدياً بالمهمة والمختلفة على نحو: «الميراث، القفص، لعروة زريقات وصلاح أبو الهنود، واشتغلت مع المخرج اللبناني الراحل أنطوان ريمي مسلسلي «شجرة الدر» و«صبح والمنصور» إضافة إلى أعمال عديدة مع فنانين عراقيين.

عادت ابنة حلب بعدها للعمل في الدراما السورية، لكن هذه المرة مع القطاع الخاص فكان دورها «الحاجة أمون» في مسلسل «الثريا» لنهاد سيريس وهيثم حقي العمل الذي أعاد دبسي إلى واجهة الممثلين السوريين الكبار مطلع التسعينيات، لتتابع بعد ذلك في «ذكريات الزمن القادم» بدور الأم الفلسطينية التي تصر على العودة إلى بلادها المحتلة، أعقبته بمشاركتها في «عصي الدمع» لحاتم علي حيث لعبت دوراً جريئاً لإحدى النسوة المحافظات في المجتمع الدمشقي. إلا أنها تعتبر الشغل على الأدوار الفجائعية التي نجحت فيها في مسلسلات من قبيل «غزلان في غابة الذئاب» و«أولاد القيمرية» صارت نوعاً من القوالب الجاهزة التي يطمح مخرجو هذه الأيام إلى تكرارها وتكريسها فيها دون أن يجربوا الممثل في أدوارٍ أخرى، فالممثل كما تقول يجب أن يقوم بأداء كل الأدوار بلا استثناء، ولهذا اعتذرت مؤخراً عن عدة أدوار عديدة، لتكون مشاركتها في مسلسل «زمن العار» بعد إلحاح من المخرجة الشابة رشا شربجي وإصرارها على وجود السيدة دبسي معها، لتتنفس فيما بعد دور مختلف وهادئ في مسلسل «عن الخوف والعزلة».

ترى دبسي أن تكرار الممثلين للدور نفسه بدأ يعطي فكرة واضحة عن واقع الدراما السورية التي تنتشر فيها الشللية مما يعمل في تشابه عام وتشويش للمشاهد في المسلسلات السورية. الآن وبعد مضي تسع وأربعين سنة على انطلاقة الدراما السورية تشعر هذه الفنانة الرائدة أنها تعيد الكرّة من أول وجديد: «عندما بدأنا كنا نحارب أناساً لا يعرفون مدى أهمية دور الفن في حياتنا، أما اليوم فنحن نحارب أناساً يعرفون جيداً أهمية الفن في حياتنا، ومع ذلك يقفون في وجهنا، فأيهما أخطر برأيك؟». وتتابع: «دائماً كانوا يقولون لنا انظروا إلى نصف الكأس الملآن، ولا تنظروا إلى النصف الفارغ، أنا اليوم أشعر بأهمية النظر إلى نصف الكأس الفارغ، كفانا نظراً إلى نصف الكأس الملآن، انظروا إلى نصفه الفارغ». رغم حبهم لها في الأدوار المؤثرة والناجحة التي لعبتها في الدراما، إلا أن الناس يطالبونها بالتوقف عن هذه الأدوار التي توغل في الميلودرامية والبؤس: «أريد أن أشتغل عكس ما يحاول المخرجون أن يكرسوني له في أدوار الأم الحزينة والمنهارة تحت وطأة الفقر وذوي النفوذ، لقد مللت من هذه الشخصيات المأساوية».

ضالة السيدة ثناء وجدتها في الفيلم السينمائي القصير «حدوتة مطر» إنتاج خاص، الذي أخرجه «ماهر صليبي» ولعبت فيه دور المرأة التي تنتظر شاباً يواعدها في محطة القطار حتى كبرت وهرمت وهي تشعل له الشموع وترقص ابتهاجاً بموعدها المؤجل، لتكرر تعاونها بعد ذلك مع صليبي في الفيلم القصير «شوية وقت» إنتاج المؤسسة العامة للسينما، وذلك بعد أن سجلت دبسي في تاريخها السينمائي أدواراً لا تنسى في «المخدوعون» 1973 لتوفيق صالح، و«قيامة مدينة» لباسل الخطيب، و«اللجاة» لرياض شيا إلا أنها اليوم تسجل ملاحظتها على الأعمال السورية التي تركز جل اهتمامها على جيل الشباب، بينما لا يتكلم أحد عن جيل الكبار في العمر: «كأننا لسنا بشراً لنا مشاكلنا أيضاً، الشباب هم فقط من لديهم مشاكل، أما نحن فنعيش في الجنة..».