2015/05/03

جيانا عيد
جيانا عيد

الوطن - عامر فؤاد عامر

تغيبت كثيراً عن الساحة الفنية خلال فترة الأزمة والحرب على سورية، لكنها ثابرت في نشاطها الإنساني وحضورها اجتماعياً وأخلاقياً لدعم الوطن والناس وبث روح الأمل والتفاؤل في مقاومة الظرف الصعب، ومؤخراً ألقت كلمة المسرح في يوم المسرح العالمي، بعد استلامها لرئاسة قسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، الفنانة القديرة «جيانا عيد» وبكلّ محبّة تبثنا أفكارها عبر صحيفة «الوطن» بعد غياب متكرر عن اللقاءات والحوارات في وسائل الإعلام، وبعيداً عن أخبارها الفنيّة ومشاركاتها الدراميّة.

ممثلة سوريّة

ذكرت الفنانة «جيانا عيد» في حديثٍ سابقٍ أن جلّ ما تتطلع إليه؛ هو أن يقال عنها «هذه جيانا الممثلة»، وتعليقاً على ما ذكرناه، وهو مدخلُ حديثنا معها، قالت: «أريدك أن تكمل الجملة التي قلتها سابقاً وهي «هذه جيانا الممثلة السوريّة» إذا حددت الهويّة والخصوصيّة، وهذا ما يعنيني دائماً، واليوم تحديداً أؤكد عليه، بل أصبح هاجسي لأن المجتمع السوري البسيط، والحقيقي، والصلب، الذي أنتمي إليه بفخر هو من أبقى على صمود سورية وعظمتها، وخصوصيّتنا كسوريين تكمن في عمق انتمائنا وتجذرنا بقدسيّة أرض بلدنا الحبيبة، أرض الحضارة القويّة والبسيطة، منذ آلاف السنين، نحن أناس لا نقبل الاستسلام والتقولب، بل نبحث عن الارتقاء والتجاوز والانبعاث من جديد، كما الفينيق للوصول لمستقبلٍ أكثر إشراقاً ونورانية، مقاومين الظلمة والمعوقات. فليقرأ العالم جيداً هذه الكلمات، فمعركتنا اليوم معركة وجودنا، ونحن سنكون كما النور الذي ينبعث من قبر السيد المسيح، في كلّ سبت نور في الجمعة العظيمة، وتحمل شعلته من هذه الأرض السوريّة، لتبث نورها إلى أكثر أصقاع العالم، فعسى أن تصل الرسالة التي انغمست بالدّم السوري منذ سنين، وصارت الآن قروناً تأخذ في كلّ قرنٍ سمات مختلفة لدثر حضارتنا السوريّة العظيمة، ولكن هيهات، فمن القبور نُخرج نوراً، هذه مميّزات الهويّة السوريّة في المشهد الإنساني، وهي نعمة من اللـه ونقمة من العالم، لأنّنا استحققنا هذه الهبة «سورية» الرحم الكوني الخصيب من إنانا إلى أم الشهيد».

مسؤوليّة أكبر
آلاف السنين من التاريخ المكتوب وغير المكتوب، ارتبطت بأرض الشام، بالتالي يقع على عاتق من ينتمي لهذه الأرض مسؤوليّة الحفاظ عليها، والدفاع عنها، ومن موقعها كفنانة أحبّت الوطن، وارتبطت به تشير ضيفتنا القديرة «جيانا عيد»: «نحن مسؤولون جميعاً كسوريين، وكلٌّ من موقعه عن وطننا بالتأكيد، ولكن الفنان والمبدع يعبّر عن روح شعبه، وضميره الحيّ، لذلك هو مطالب بمسؤوليّاتٍ أكبر، وبقراءاتٍ أعمق، وتأكيداً على قيم الحقّ، والعدل، والانتماء، والجمال، بتصميمٍ وحراكٍ أجدى وأرفع للبلد وللإنسان، وخصوصاً في حرب وجودٍ مهولة، كهذه التي شُنّت علينا بوحشيّة وقذارة، وهدفها إفنائنا كموقعٍ إنساني، وجغرافي، وسياسي، واقتصادي، وحضاري، لأنّنا قلب هذا العالم النابض بكلّ مقومات الخلود، والديمومة والسمو، وزلتنا التراجيديّة، كما نطلق عليها في المسرح، أنّنا آمنّا بقوة حضارتنا، وتسامينا على حضارة القوة، البعيدة عن الروح الإنسانية. فما كان منها إلا الغدر، والتوحش في لحظة اللازمن، وتصعيد رغبة الانتقام، والإبادة، والإفناء، عداء ومعاقبةً لقيمنا الإنسانية والحضاريّة القويّة المتجذرة في الكون، إذاً هي معركة ضدّ القيم، والأخلاق، والمثل الإنسانية النبيلة والخالدة، ومن هنا كان ثقل وكبر المسؤوليّة على المبدع، والفنان، والمثقف، حراس الحضارة، وصانعيها بشكلٍ خاصّ، وعلى حماتها والشرفاء المدافعين عنها من مختلف القوى من هذا الشعب السوري القوي، والبسيط بشكلٍ عام».

الفنان والقيم النبيلة
حجم المسؤوليّة الواقعة على عاتق الفنان كبير، بالتالي فإن تأثيره في النتيجة سيكون أكبر وأعمق، ولهذه المعادلة شرحها المفيد لدى ضيفتنا الفنانة «جيانا عيد»: « نعم مادام أن الفنان يبثُّ رسالته الإبداعيّة، المؤمن بها، عبر أدواته الإنسانية الذاتيّة، التي توحد بينه، وبين كلّ أبناء بلده وجنسه، ألا وهي جسده، وعقله، وروحه، فإنّه بالضرورة حتى يحدث تماساً، وإقناعاً، وتغييّراً، يجب أن يعي، ويقرأ الواقع الذي يعيشه، ويؤرق إنسانه الآن، وأنّ يبحث عن كيفيّة دخوله لعالم هذا الإنسان، بطريقةٍ نبيلةٍ صادقةٍ، تسمح بحدوث جدلٍ وحوارٍ إنساني، ليتشاركا معاً في الوصول إلى مفهومٍ راقٍ للخلاص، والارتقاء بالواقع، والإنسان إلى ما هو أجمل وأسمى، يكونُ فيه حاضراً، ومتوازناً لمحاربة كلّ عوامل الشرّ، والقهر المعوقة، لممارسة حقوقه، وواجباته، تجاه بلده، وذاته، وبطريقةٍ صحيحةٍ وحقيقيّةٍ، وهكذا يكرّس الفنان عبر عمله الإبداعي، منظومة من القيم النبيلة، والسامية، والرؤى الجميلة، التي تعيد رسم الحلم، والأمل، والتفكير، وتجعلنا نتشارك جميعاً، كأبناء بلدٍ واحدٍ، بصنع غدٍ مشرقٍ جديدٍ، وأفكار خلاقة، رفيعة، تليق بمغزى وجودنا لتحقيق الخير والجمال».

مشهد ثقافي منقوص
أنّ تكون الدراما السوريّة واجهة البلد الثقافيّة؛ هو أمرٌ بقدر ما له من إيجابيّة له من السلبيّة، وذلك لعدّة أسباب بينتها لنا الفنانة القديرة «جيانا عيد»: «هناك خطأٌ إستراتيجي وقعنا به، وهو تحميل الدراما التلفزيونيّة، أعباء التعبير عن الوجه الثقافي السوري فقط، والمفروض أن يكون لدينا حراكٌ ثقافي، تتشارك فيه كلّ الفنون، وتتكامل لصنع المشهد أو الوجه الثقافي السوري، الذي يمثّل روح وخصوصيّة المجتمع، والإنسان السوري، وهذا بالطبع بحاجةٍ إلى إيمانٍ ودعمٍ ماديٍّ كبير، لتأليف المشهد الثقافي المتكامل أولاً، والذي يقدّمنا إلى الآخر على حقيقتنا، كأبناء حضارةٍ، عريقةٍ، وأصيلة، كان الإنسان فيها، ومنذ نشوئها؛ مؤمناً بالمشاركة، والحوار مع الآخر، واحترام خصوصيّته، من أجل إنتاج الثمر، وخيرات الأرض، كونها ابتدأت حضارةً زراعيّةً، بسيطةَ، يرتبط فيها الإنسان، مع الماء، والتراب، والهواء، ارتباطاً حرّاً وأصيلاً، وثانياً إيماناً قوياً بأهمية الثقافة، ودورها الكبير، في تجفيف بؤر الجهل، الحاضنة لعواطف النقمة، والكره، لكلّ مستنيرٍ، وعارفٍ، ولكلّ ما يخالفها الرأي، والتوجّه، والتطلع، لفضاءات النور، والارتقاء. وبأنّ الثقافة هي سلاح هذا العصر في مواجهة هذه القوى الظلاميّة، المتطرفة، والغريبة، والمتطفلة، على إرثنا الإنساني الشفيف، والثقافة هي المخوّلة بخلق الدعائم، والحوامل الإنسانية، القويّة، والمقاومة عبر قيم الخير، والجمال، والأخلاق السامية والنبيلة، هذه هي الإستراتيجية التي يجب أن تُكرّس لخلق مشهد فني، تتشارك وتتكامل فيه كلّ الفنون، لنؤلّف الخريطة الإنسانية، والإبداعيّة في سورية، أمّا الدعم المادي، فيجب أن يكون بالمال الوطني الصرف، لأن ثروات الوطن، لا تحرص على حمايتها؛ إلا الأيدي الوطنيّة الشريفة، وهذه في اعتقادي جدليّة المقاومة ضدّ أي اختراقٍ، أو تبعيّة، أو استباحة، لخصوصيّتنا، ومقوّماتنا الحضاريّة والإنسانية، وهذا دور المؤسسة الوطنيّة الثقافيّة والإبداعيّة القادرة على المحافظة على أبنائها، وتحفيز إبداعهم، وتقديم الدعومات الكليّة لهم كونهم يمثّلون وجدان وروح الشعب، وهم الأكثر تميزاً وقدرة على التعبير بقوةٍ عن هذه الروح والوجدان، وأخيراً أريد القول إن هذه الأزمة أو الحرب المهولة قد كشفت لنا أن هناك الكثير من التعريفات، والمصطلحات، قد فقدت مفاهيمها، ومحتواها، ومعناها، وهي بحاجةٍ لإعادة صياغة، وربطها بالمنظومة القيميّة التي سبق أن تحدّثت عنها، والتي نحن بحاجة مسيسة إليها، لإعادة الاعتبار للمثل النبيلة، والأخلاق الكريمة السامية، والتي هي عنوان أساسي، نحتاج إليه بعد حرب الإفناء والوجود، التي شنّت علينا كشعبٍ، ووطنٍ، وجغرافيا، وحضارة».

معاناة الجيل الجديد
في أيام الاحتفال بمناسبة «الكتاب السوري» أثرنا سؤالاً مرتبطاً بمسألة الوعي تجاه الكتب والمطالعة، إذ إن جيلنا الجديد يعاني من مسألة الابتعاد عن الكتاب، والإحجام عن المطالعة، ولا يدرك ثمن هذه المسألة وأبعادها، وعن هذه النقطة حدثتنا الفنانة «جيانا عيد» فقالت: «لقد ابتلينا بواقعٍ افتراضي؛ استباح عبر تقنيّاته المتسارعة التطور والانتشار، وللأسف لم نعد نستطيع الاستغناء عنها، فقد استُبيحَت كلّ مفردات الإنسان الخاصّة، من بيئة، وثقافة، وتراث، وفكر، ولغة، وخصوصيّة، فوقع العالم بمصيبةٍ تسمى «العولمة»، البعيدة عن أيّة ملامح، وسمات مسيسة، لها علاقة بالارتقاء بعوالم الإنسان الخاصّة، النبيلة، والراقية، والتي تسمو عبر الاختلاف قيميّاً، وأخلاقيّاً، فبات كلّ شيء مفترضاً، وليس فيه مرجعيّة أكيدة، أو جذور أصيلة، أو حتى حرمة للأمكنة، والأزمنة، والشعوب، والمصداقيّة، وللأسف أوقعت العالم أجمع بصراعاتٍ مع كينونته، ومع ما يتلقاه عبر هذا العالم الافتراضي، الذي يكرّس الوهم في غالب الأحيان، وأوقعه بصراعٍ حتى مع قوانينه، ونظمه المقاومة، والمقيمة، فكيف يحتفل العالم مثلاً باليوم العالمي لحماية الملكية الفكرية؟! وفي المقابل هي مستباحة، وبمتناول اليدّ، دون رقيبٍ أو حسيب، على مواقع التواصل في أي وقتٍ، وفي أغلب الأحيان، ثم كيف نطالب هذا الجيل بقراءة الكتب والمطالعة؟! وهو الذي يعرف كيفيّة الدخول للإنترنت، ومواقع التواصل، والبقاء ساعاتٍ طويلةً، يتلقى سيلاً من الصور، والمعلومات، والمسموعات، غير المضبوطة من مختلف البقاع، والجهات، والتي تستهلك ذهنه، وفكره، وروحه، وواقعه، وهو صامتٌ، وذاهلٌ، موظفاً حواسه، ويستعمل أصابعه، بآليّةٍ اعتادها، ومتاحة له، لأن دوائر المجتمع ابتداءً من أسرته، وأهله، ومدرسته، معنيةٌ بشراء، وإيجاد هذه التقانات الحديثة، للاتصال البعيدة عن مراقبتهم، في الوقت الذي تبين فيه؛ أنها لم تكن معنيّة بخلق منظومةٍ، قيميّةٍ، وأخلاقيّةٍ، وتربويّةٍ، ومنهجيّةٍ تكرّس لدى الجيل مفاهيم صحيحة للسير بخلفيّةٍ، عارفةٍ، وحقيقيّة، للموازنة ما بين الوقائع، والتطلعات، وما بين الحقوق، والواجبات، وما بين المفيد، والمجدي، والمطوّر، والمنتج، وما يؤلف فكرة البحث، وإيجاد الذات، بدل الاستجلاب، والاستنساخ المشوّه للفكر، والروح، فكم من الأجهزة الحديثة للتواصل والمعلومات دخلت حياتنا! في حين لم تدخلها لا مكتبات سمعيّة أو بصريّة أو كتب مطبوعة، معروفة المصادر، والأهداف، والإستراتيجية، وموثوقة القيمة المعرفيّة، للمساهمة ببناء جيلٍ يقرأ، ويسمع، ويفكر، ويحكي بلغةٍ تعبّر عن حضوره، وخصوصيّته، وألقه الإنساني، وله رأيٌّ واضحٌ مبنيّ على أعمال العقل، ومعرفي حقيقي، في كلّ بلدان العالم المتنوّعة، والمختلفة التي ينتمي إليها هذا الجيل الجديد، نعم نحن مسؤولون عن هذا الفراغ، والصمت الذي وقع فيه هذا الجيل، وهذا الاستلاب المقصود أو غير المقصود، وربما لو كانت الإرادة في هذا العالم أجمع، إنسانية الأهداف، والغايات، جميلة الرؤى والأماني، لما تحول هذا العالم الوحشي الملامح، والمتخبط بالدماء، والدمار والخراب، ونحن مطالبون بالعودة إلى محتوانا الإنساني النبيل، والحوار المجدي، والواضح والصريح، مع الآخر، على أسس إنسانية محترمة، وراقية، للعودة بهذا العالم، إلى ثقافة الارتقاء، والقيم، والمثل النبيلة السامية، علّنا نستطيع أن ننجو بجيل المستقبل إلى الألق، والبناء إلى الحبّ، والعطاء المطلوب، منّا كبشرٍ على صورة اللـه الجميل في هذه الأرض».