2012/07/04

حبي الأول   للنجم كمال الشناوي
حبي الأول للنجم كمال الشناوي

حبي الأول   للنجم كمال الشناوي   من منا ينسى الحب الأول الذي يغزو القلب والقلب البكر، ويشغل الفكر والفكر غض... ويبقى على صفحة الذكريات شيئاً لامعاً باهراً لا يضيع ولا يؤثر عليه مرور الأيام... كنت أقيم في القاهرة مع جدي في شارع خيرت، في بيت من تلك البيوت التي تشبه دوار العمدة في رحابتها وسعة أرجائها، وكنت قد التحقت بالمدرسة الثانوية التي كنت أستقل الترام إليها كل صباح... وكثيراً ما كنت أقف ربع ساعة كاملة أنتظر الترام، وكثيراً ما كنت أتمنى أن تمتد الربع ساعة لأنني كنت أرى فتاة صبوحة الوجه، ريانة العود وهي تطل من نافذة تواجه المحطة. وقد لاحظت أنني أطيل النظر إليها فبادلتني النظرات... وكنت أعرف أن نظراتها لا تتعدى أن تكون نظرات استطلاع واستفسار، ثم تحولت شيئاً آخر حين لاحظت الفتاة أنني أرتجف كالعشاق كلما التقيت عيوننا... وكانت في بعض الأيام لا تطل من النافذة، فأظل أطيل النظر للنافذة والحزن باد على وجهي وكنت أتصور أنها تقف خلف شيش النافذة لترى كيف أفعل إذا غابت عني... والذي كنت أفعله أن أترك الترام يمضي... ولا أركب إلا الترام الذي أصل به للمدرسة وجرس الدخول يدق! ولم أكن أعرف كيف أبدأ معها، هل أشير لها لتنزل إلى الشارع فأقابلها؟ أم أغمز لها بعيني كما كان أسلوب العشاق منذ عشرين عاماً، وكنت في هذه الحيرة أقف ذاهلاً على محطة الترام في غير مواعيد المدرسة، وأخرجتني هي ذات مرة من حيرتي وذهولي حين أشارت لي لأقترب من باب بيتها. فنظرت حولي أستطلع اتجاهات عيون الناس فلم أرى واحداً يراقبني فتسللت إلى الباب لأجدها واقفة خلفه... وحييتها وقالت لي اسمها، وقلت لها اسمي، وحددنا موعد اللقاء الأول. وفي الميعاد رأيتها تتهادى صوب الترام... كانت الخطة أن تركب هي في محطة وأركب أنا من المحطة التي تليها، وأتظاهر بأنني لا أعرفها حتى تغادر الترام في ميدان الخديو إسماعيل – ميدان التحرير حالياً فأنزل وراءها. وقد وضعت في رأسي أن أضع يدي في يدها إذا ما ابتعد الترام... وقد كان، ووجدت قلبي يدق بعنف وأناملي الممسكة بها ترتجف... وهي سعيدة تبتسم لجرأتي... مع أنها لم تتعود مني الجرأة في شيء. وسرنا على كوكب كوبري قصر النيل في ساعة من ساعات الأصيل الحالمة، ووصلنا الجزيرة فجلسنا متلاصقين على السور الذي يشرف على النيل، وكانت لفرط الحياء لا ترفع عينيها في عيني... كانت تحدثني وهي تصوب نظراتها الخجلى للنيل... قلت لها: -         يا ريتني كنت نهر النيل -         ليه بأه -         علشان تبصي لي -         أنا بابص للنيل بعيني، وبابص لك انت بقلبي... عبارة جميلة اندفعت من بين شفتيها كالنغم العذب... وظللت أسمعها طيلة ليلي الذي لم يغمض لي فيه جفن... وتكرر اللقاء، وكنت أقتصد من مصروفي لأشتري لها سميطاً وبيضاً، ونأكل سوياً (عيش وملح) وكان حبي يزداد مرة عن مرة. وكان يسرني منها أنها تسألني دائماً عن المدرسة وعن استذكار دروسي، وتقول لي أنها لن تسر إلا إذا كنت دائماً أول فصلي. وقد كنت بالفعل أول فصلي، بعد استذكار وجهد كبيرين، وكنا في أحاديثنا قد تناولنا مسألة الزواج واتفقنا عليه! ولك أن تتصور شاباً في الخامسة عشرة يدبر أمر زواجه من فتاة في الرابعة عشرة... وقد شاع نبأ الحب بيني وبينها، عرفه أبناء حيها وكنت أحس الغدر في نظراتهم، ولهذا احتطت لنفسي دائماً فكنت أقابلها بعيداً عن خيرت والمبتديان والمنيرة ولاظوغلي، وكنت أقابلها دائماً في منطقة الجزيرة... ونجلس على السور الذي يشرف على النيل، ونأكل السميط والبيض ونقزقز اللب الأبيض الكبير الذي كانت تحبه... وفوجئت ذات يوم بجدي يقطع عني المصروف وسألته لماذا وأنا أكاد أجن فقال لي: -         لما تبطل حب تبقى تاخد اللي انت عاوزه... واضطررت أن أخلف مواعيدها لأنني لا أجد ما أدفعه ثمناُ للسميط واللب والترام، وكنت أبتعد عن محطة الترام التي تعرفنا عندها وأركب من محطة أخرى، وكنت أتعذب من أجلها، تؤرقني صورتها طوال الليل، وأجلس في الترام الذي يمر أمام بيتها في مكان أراها منه ولا تستطيع أن تراني، أراها ذابلة الوجه ساهمة النظرات، حتى الاستذكار لم أستطعه لان صورتها كانت تقفز بين السطور، وعباراتها ترتسم بدل معادلات الجبر ودوائر الهندسة وخريطة الدنيا! ويعود إلى رأسي دائماً الحوار الذي دار بيننا ذات أصيل: -         انت بتصحي بدري قوي... ليه؟ -         علشان أشوفك -         يعني لما باركب الترامواي بتبعدي عن الشباك -         باقفله خالص لحد الصبح التاني -         وانت قاعدة في البيت ليه؟ -         كنت في الفنون الطرزية وبابا مات فطلعوني منها... وينساب خيط رقيق من الدموع من عينيها، وقد جففت دموعها يومها بشفتي! وكانت هي قبلتنا الأولى ... والأخيرة!              ظللت لا أراها شهراً كاملاً، وسافرت المنصورة وأنا مشغول بها، وعدت حين بدأ العام الدراسي الجديد، كان أول ما فعلته أن ذهبت لمحطة الترام لأراها وهي تطل من النافذة، ولكنها لم تكن هناك، وقررت أنها ستفعل في الصباح، ستعرف أن المدرسة قد بدأت وأنني سأعود إلى محطة الترام كعادتي... وخففت إلى محطة الترام قبل الساعة السابعة، ولكنني لم أجدها في النافذة وراقبت النافذة صباحاً بعد صباح دون جدوى... راقبني أولاد حيها وأنا حزين كسير الخاطر، ومررت ذات يوم أمامهم فإذا بأحدهم يقول في سخرية مرة لاذعة (ما خلاص اتجوزت) ترى أين هي الآن! أما أنا فما زلت كلما مررت بشارع خيرت أرى عيني تسبقان فكري فتتعلقان بالنافذة التي أطلت منها آمال القلب ذات عام في فجر عمري...   الكواكب 27/12/1955