2012/07/04

'حراس الصمت': صرخة تمرد أنهكتها البدائية الدرامية والفشل الفني!
'حراس الصمت': صرخة تمرد أنهكتها البدائية الدرامية والفشل الفني!

محمد منصور - القدس العربي

لم يستطع فيلم (حراس الصمت) للمخرج سمير ذكرى، أن يحظى بأكثر من تنويه عابر في مسابقة الفيلم العربي في مهرجان دمشق السينمائي الثامن عشر، الذي اختتم فعالياته مؤخراً، يفيد بضرورة تشجيع المخرجين على استلهام الأدب، وعلى نقل الروايات الجادة إلى الشاشة.

هذه النتيجة التي حصدها (حراس الصمت) على أرضه وفي مهرجان بلده، الذي اعتاد أن ينظر بعين الرضا إلى الأفلام التي تمثل سورية في المسابقة الرسمية للمهرجان، وأن يكافئها لو كان هناك خرم إبرة صغير يمكن أن ينفذ من خلاله لمكافأتها وتشجيعها... أقول هذه النتيجة يمكن أن تشكل المدخل الأفضل للحديث عن الفيلم، من دون أن يسارع أصحاب القلوب الرحيمة لاتهامنا بالتجني والقسوة النقدية.

والحق أنني تعاملت بكثير من الترقب والاهتمام نحو فيلم (حراس الصمت) للمخرج سمير ذكرى، يلح علي أكثر من هاجس.. فكيف ستكون المقاربة الأولى لأدب غادة السمان في السينما السورية، وهي التي لم يلتفت أحد لاستلهام أدبها لا في السينما ولا في التلفزيون من قبل؟ وكيف ستبدو ظلال السيرة الذاتية التي قدمتها غادة عن طفولتها وعن أسرتها وعن طموحها وهي تعيش على صفحات الرواية ما أسمته (شجار العشاق بين صبية ومدينة)؟ وأخيراً ماذا عن المدينة؟

عن دمشق التي نتوق لرؤيتها، ولتشكيل صور من نسيج ذاكرتها وسحر أزمنتها وهي تلقي بظلالها الخالدة على الشاشة؟

سيرة الكاتبة وسيرة المدينة

فيلم (حراس الصمت) مقتبس عن (الرواية المستحيلة- فسيسفاء دمشقية) التي نشرتها غادة السمان عام 1997، وهي أول رواية تدور أحداثها في دمشق التي اغتربت الكاتبة عنها لعقود، كتبت خلالها عددا من المجموعات القصصية وكتب الرحلات والمقالات، وثلاث روايات طويلة، لكنها لسبب أو لآخر، لم تكتب عن دمشق ما يروي حنينها أو يلخص نظرتها إلى المدينة التي لم تكن يوماً مدينة عابرة حتى بالنسبة لمن مروا عابرين بها، فكيف سيكون الحال بالنسبة لأبنائها الذين انتسبوا إليها في التاريخ والجغرافيا والنسب الأدبي والعائلي؟

لا شك أن الجواب سيكون بحجم الحضور الأدبي لدمشق في ذاكرة عشاقها، سواء تسربل هذا الحضور بلغة الحنين الجارف، أو اتخذ نظرة نقدية مختلفة، تعيد رؤية الماضي الذي كان بروح متمردة، تحاول أن تكسر قيود البيئة ومفاهيمها المغلقة. والواقع أن غادة السمان جمعت في روايتها الأمرين معاً، فهي منذ الإهداء الذي صدرت به الرواية تمسك بنبض الحنين إلى المدينة حين تهدي روايتها: (إلى وجوه لا منسية في دمشق أحببتها وحملتها داخل دورتي الدموية وطفت بها الدنيا والأزمنة وظلت كما عرفتها لا تهرم ولا تموت) وهي في اشتباكها مع البيئة والتقاليد والمحيط العائلي تبحث عن دمشق أخرى.. دمشق أكثر انفتاحاً، وأرحب سماء لحلم الطيران والتحليق في الفضاء الذي حملته غادة السمان على الحد الفاصل بين الواقع والحلم، بين الحياة والأدب، وبين رواسب الماضي وطموح الحاضر. ولعل هذه الثنائية مهمة جداً في فهم صورة دمشق في هذه الرواية، وفي الأدب الذي كتبه أبناء دمشق عن مدينتهم على الدوام.. فهو أدب لا يكف عن عشق المدينة والتعلق بها، حتى وهو يحاول أن يتمرد على تقاليدها ويهجو انغلاقها.. وهو يستلهم مادته الدرامية من هذه العلاقة الجدلية التي طالما رأت في دمشق حالة صدامية، لكن فيها الكثير من دفء وتوسل رحم الأم والماضي الذي كان. إلا أنه في رواية غادة التي تبدو جزءاً من سيرة ذاتية موهت بأسماء مستعارة، لا تبدو (الأم) هي صورة الماضي، بل هي حلم المستقبل.. حلم التمرد على المجتمع الذكوري، وكتابة الأدب كنوع من تحقيق الذات، والذي يودي بالأم إلى موت ملتبس بشبهة القتل.. تحاول الكاتبة أن تفك خيوطه الملغزة، فإذا بها ترسم مصير تمردها الذاتي.. أوليس (عفريت الأم) قد تجسد فيها مرة أخرى كما تقول لها عمتها (بوران) الأنثى التي تحرس الصمت الذكوري، بأشد مما يفعل الذكور أنفسهم.

إلى جانب حالة التمرد هذه التي تبدو أشبه بصرخة مشبعة بالقوة والمشاكسة والفكر التنويري الحر.. ثمة دفء طقسي موغل بالتفاصيل في استحضار صورة دمشق كطقس اجتماعي يتداخل فيه الزمان والمكان مع الخلفية التاريخية للأحداث.. ففي الرواية احتفاء بالغ بالبيت الدمشقي بكافة تفاصيله وإكسسواراته.. بصورة البيت الذي يتقلب أهله بين الفقر والغنى ويتظاهرون بأنهم أحسن حالاً مما هم عليه دائماً.

بطقس الموت وغياب الرجل، بأهازيج الألعاب الطفولية، وأغاني الرحلات المدرسية التي تقول ما لا يقال عادة، ثمة استحضار أيضاً لصورة السيران وطقوس حمام النسوان.. لحوادث وأجواء الانتداب، للشهادة التي تغير ذكرى الأشخاص، لفرحة الجلاء.. لألم فلسطين وتشرد اللاجئ الفلسطيني.. ثم لتململ العسكر وهم يصنعون الانقلاب تلو الآخر.. فيما يبدو هذا كله جزءاً من فسيفساء دمشقية يتداخل فيها الخاص بالعام، والألبوم العائلي بألبوم وطن وأيقونة مدينة، تصارع فيها النساء مجتمعاً ذكورياً يبدو جزءاً من هوية مجتمع وبنية تاريخ ومسار موت وحياة.

توجهات السيناريو

للمخرج سمير ذكرى، كاتب سيناريو الفيلم أيضاً، خبرة طويلة في تحويل الأعمال الأدبية إلى أفلام، فقد سبق منذ أن كان طالباً في معهد (فغيك) أن اقتبس قصة لنجيب محفوظ في فيلمه القصير (السكران يغني) ورواية لآرثر هيلي في فيلمه (الضباب). وفي أول أفلامه الروائية الطويلة (حادثة النصف متر) عام 1981 اقتبس قصة لصبري موسى، كما كان قد ساهم في كتابة سيناريو عن رواية حنا مينة (بقايا صور) في الفيلم الذي أخرجه نبيل المالح أواخر السبعينيات، وحول رواية (تراب الغرباء) لفيصل خرتش، إلى فيلم أخرجه بنفسه ليروي سيرة عبد الرحمن الكواكبي عام 1998.. إلا أن هذه الخبرة الطويلة، خانته وهو يعالج رواية غادة السمان الطويلة التي تقع في خمسمئة صفحة من القطع الكبير، والتي يتقاطع فيها السرد المسهب مع المونولوج الداخلي الذي يكرر ما يقوله السرد أحياناً من دون إضافات تذكر.

المشكلة الأساسية التي واجهها سمير ذكرى هي محاولة اختصار الرواية.. ومحاولة الهرب أو (تجنب) الحالات الطقسية التي استهلكتها دراما البيئة الشامية التلفزيونية إلى حد الاجترار. في الاختصار تجنب ذكرى خطوطاً كاملة، وتخلى عن رموز دلالية بالغة الثراء والخصوصية (البومة التي جعلت منها غادة السمان رمزاً للاختلاف والتمرد على معاني التشاؤم والتفاؤل السائدة) لكن كثيرا من مشاهده بدت طويلة ومترهلة الإيقاع بسبب سوية التمثيل الذي اعتمد على وجوه غير معروفة اجتهدت وتفاوت اجتهادها، لكن ذلك فرض نفسه على إيقاع الممثل والمشهد.. وهكذا بعد الاختصار وصلت مدة الفيلم إلى ما يزيد عن ساعتين ونصف الساعة، أما تجنب المخرج للحالات الطقسية فقد كان خياراً له مزاياه وله مضاره أيضاً، لأن غادة السمان لم تستحضر تلك الطقوس في روايتها بشكل تزييني، بل قدمتها في سياق درامي يبرز علاقة البطلة بالشخصيات الأخرى من جهة، وبالبيئة وتقاليدها من جهة أخرى، هكذا خسرنا طقس السيران الدمشقي بأبعاده الاجتماعية الموظفة على أكثر من صعيد في الرواية، خسرنا العلاقة التاريخية مع النهر، مقابل الحضور الإيروتيكي لطقس حمام النسوان، أو طقس الختان.

من الواضح أن الخيار الأساسي لسمير ذكرى كان هو تتبع حكايات النساء في الرواية بشكل أساسي، من خلال إبراز التناقض الصارخ بين عالم البطلة المتمردة (زين) والقصص المشابهة في السياق نفسه، وبين قيم المجتمع الذكوري الموغل في تناقضاته الأخلاقية وهشاشته الداخلية.. ولذلك نجد أن قصة الخادمة (جهينة) قد أخذت حيزاً كبيراً في الفيلم كان بالإمكان أن يكون أكثر كثافة، وكذلك قصة (معزز) التي قتلت في ما يشبه جريمة الشرف، والتي افتتح بها الفيلم، خلافاً لافتتاحية الرواية التي انطلقت من حفل تأبين للأم على مدرج الجامعة السورية... لكن هذا الاهتمام، دفع بصانع الفيلم لإسقاط تفاصيل مهمة، كان يمكن أن تغني بعض الشخصيات... كشخصية العمة بوران، التي استشهد زوجها في حادثة قصف البرلمان في التاسع والعشرين من أيار/مايو عام 1945، ففضلت بذلك أن تكون أرملة شهيد، على أن تكون زوجة ثانية لرجل كان على وشك أن يخون العشرة الطويلة معها، كما جاء في الرواية وما استدعى ذلك من تفاصيل أخرى متألقة درامياً، أو الخط الفلسطيني الذي يمثله شبان لاجئون في محيط العائلة يكتبون مأساة من نوع خاص، في حياة نساء قلقات، أمام رجال يمضون إلى الحرب فوجاً بعد آخر.. إذاً مشى السيناريو محاولاً التخفف من أحمال الرواية الكثيرة، إلا أن ذلك أفقر بعض الشخصيات، وحرم الأجواء العامة من تفاصيل موحية تلامس روح المدينة.

حلول بدائية ومشكلات فنية

كل هذه المشكلات، أي ما كسبه سمير ذكرى من الرواية وما خسره.. كان يمكن أن تتحول إلى تعبير ما عن خصوصية الرؤية التي أراد أن يصوغها تجاه هذه الرواية، لو أنه وفق في كتابة سيناريو محكم، يعيد كتابتها برؤى بصرية جذابة، وإيقاع حار، ولغة فنية تعبر بلا مباشرة، وتختزل بلا ثرثرة، لكن ما قدمه على صعيد السيناريو كان أكثر كارثية من انتقائيته تجاه الرواية، ومن فقر استلهام الطقس الاجتماعي أحياناً.. فالسرد الروائي يتحول في أحيان كثيرة إلى مادة لحديث الشخصيات مع نفسها، في حل بدائي يحيلنا إلى سيناريوهات بعض المسلسلات التلفزيونية الساذجة. والمونولوج الداخلي، يتحول إلى حديث مباشر للكاميرا، تخرج الشخصية عبره من إطارها الروائي، لتذكرنا بأنها ممثلة تتحدث إلى عين الكاميرا، في حل فني أضر كثيراً بجماليات البناء الدرامي للفيلم.. والحوار المكتوب جاء ليكمل هذا كله، حين استغنى عن جماليات الصياغة الأدبية، وراح يبسط المعنى والتعبير بلا بلاغة أو سوية جمالية بديلة.

وإلى جانب هذه المشكلات في بناء السيناريو، نجد مشكلات فنية مخجلة حقاً، يبقى أشدها وقعاً التصوير الرديء الذي يصل إلى حد غياب بؤرة التركيز في بناء اللقطة (الفوكس) وسيطرة الصور الباهتة، وغياب الإضاءة ذات التدرجات اللونية التي يمكن أن تثري عمق المشهد.. ناهيك عن افتقار الفيلم أساساً للقطات جميلة يمكن أن تبقى في ذاكرة مشاهد الفيلم، ولعل اللقطة الجميلة الوحيدة التي استوقفتني كانت لقطة استعراض طابور تحية العلم في المدرسة، إلا أن المخرج سرعان ما بترها! وعلى العموم لم يستطع سمير ذكرى أن يقدم لنا صورة جمالية للبيت الدمشقي، ولا أن يوظف تلك الجماليات بشكل درامي.. كما أن بعض الحلول الإخراجية جاءت خالية من أي منطق بصري مقنع (سقوط معزز من على السطح وهي ما تزال في منتصف سطح البيت) ناهيك عن غياب الإحساس بأهمية الإكسسوار في حياة البيت الدمشقي.. وهو أمر بالغ الثراء والأهمية، وقد أولته الرواية اهتماماً واضحاً، فدلة القهوة لا يمكن أن تكون بهذا الحجم الكبير وبهذه النوعية الرخيصة، في حين كان سائداً استخدام الدلات النحاسية التي كانت تلتمع بين الأيادي على الدوام... والرواية التي تركتها الأم هند، لا يمكن أن تكون مثل (سجل البقال) في حين أن كاتبتها أديبة مرهفة... والأمثلة كثيرة لا يتسع المجال لها.

ومع رداءة التصوير، ثمة استسهال مريع للحلول الإخراجية.. فالزوم إن والزوم الآوت يجعلان السقف الفني للفيلم منخفضاً للغاية، وهما يتكرران بشكل يثير الاستغراب فعلاً، وكأننا أمام أداء مخرج تلفزيوني من الدرجة العاشرة، ولا أدري بأي قناعة فنية استطاع سمير ذكرى أن يقبل بما قدمه له مهندسو أو فنيو الغرافيك من خدع فنية بائسة ورديئة التنفيذ في مجال (الغرافيك) لا يقبل بها حتى صناع مسلسلات الأطفال.. ولا يمكن أن نغفل أخيراً الأداء المتواضع في المونتاج، والقطعات الرديئة التي أكملت مصائب الفيلم الفنية، وأتت على كل ما تبقى من جماليات كان يمكن للمونتاج الجيد أن يحسن ظهورها.

عبثية التحليل


وفي المحصلة يشعر المرء بعبثية تحليل اللغة الفنية في (حراس الصمت) فكل ما في لغته الفنية (باستثناء مشاهد الطيران الجيدة والمنفذة بإتقان) وباستثناء بعض اجتهادات بطلته (نجلاء خمري) أحياناً، ومن قبلها الطفلة كارين قصوعة، والحضور المتوازن لإياد أبو الشامات ورامز الأسود، كل شيء في الفيلم يحلينا إلى زمن يشدنا إلى الوراء، وإلى حالة تراجع وتقهقر تتخلى عن المنجزات السابقة للسينما السورية التي تعيش ـ من خلال إنتاجها- أياماً سوداء بكل معنى الكلمة.. أما في سياق الأفلام التي تناولت دمشق وأرادت استلهام سحرها وخصوصية بيئتها وزمنها، فلا يبدو (حراس الصمت) بأفضل من سابقيه (حسيبة) و(دمشق يا بسمة الحزن) فجميع هذه الأفلام مصنوعة بلا اقتراب حقيقي من بيئة المدينة وبلا فهم عميق لخصوصية البشر، أو تلمس لإنجازات حياتهم وخصوصاً على الصعيد البصري الذي تبدو فيه دمشق متجاوزة بجمالياتها التزيينية والدرامية معاً، كل ما يقدم عنها سينمائياً من رؤى خارجية متقشفة وعابرة!