2012/07/04

حصرياً  بوسطة تنفرد برصد اللحظة الحاسمة التي افتتح فيها التلفزيون العربي السوري.
حصرياً بوسطة تنفرد برصد اللحظة الحاسمة التي افتتح فيها التلفزيون العربي السوري.

  حصرياً  بوسطة تنفرد برصد اللحظة الحاسمة التي افتتح فيها التلفزيون العربي السوري. فقط على بوسطة لحظات اليوم الأول للإرسال عبر هواء التلفزيون العربي السوري.   استعد .. استعد .. عشر ثوان للإرسال .. انتبه .. انتبه .. موسيقى ابدأ .. كاميرا .. خذ .. .. ثم بدأت مرحلة التلفزيون في حياتنا..   البداية في الحقيقة لم تكن في الساعة الثامنة من مساء 23 تموز 1960 البداية كانت قبلها بيوم.. بأربع وعشرين ساعة أو أقل.. تعالوا نشهدها .. هذه البداية كما وقعت وكما انفعل أبطالها وصانعوها.. حتى قبل أربع وعشرين ساعة كانت هناك بعض الأجهزة البسيطة يجري تركيبها. وحتى قبل أربع وعشرين ساعة كانت هناك أفلام وبرامج لم تصل بعد، تأخرت بها الطائرة وعلى ضوء ذلك انقلبت البرامج الموضوعة رأساً على عقب، وتقرر في الساعة الواحدة صباحاً أن يوضع برنامج جديد تفتتح به برامج التلفزيون. ووضعت البرامج على الشكل التالي: ·        الافتتاح بالقرآن الكريم. ·        كلمة الافتتاح للدكتور صباح قباني. ·        نشيد وطني الأكبر. ·        نادي الأطفال. ·        استراحة. ·        نشرة الأخبار. ·        برنامج ((أرضي)) لعبد الهادي  البكار. سبع مواد يستغرق إرسالها ساعة ونصف الساعة تقرر أن تفتتح بها برامج التلفزيون في يومه الأول.. وكل منها يحتاج ((إخراج)).. حتى الاستراحة لا تستثنى من ذلك فهي تحتاج إلى جهد وعمل وذوق وأعصاب. وباستثناء "وطني الأكبر"  و"أرضي" كانت البرامج ستذاع على الهواء مباشرةً، من غير تسجيل ومن غير بروفات.        ودق جرس الهاتف في منزل هيام طباع .. كانت الساعة الواحدة والنصف .. كان المتكلم الدكتور صباح قباني .. قال لها بهدوء: "استعدي لتقديم نادي الأطفال غداً على الهواء.." ووضع الدكتور صباح سماعة الهاتف .. وتساءلت هيام بذهول: "ماذا جرى .."  كان مقرراً تقديم البرنامج بعد ستة أيام.. وقد أعدته على هذا الأساس.. بل إنها اعتادت أن تجري بروفات الأطفال كل يوم إلا يوم السبت فقد طلبت إليهم ألا يأتوا.. وأن يستريحوا.      وبدأت العملية الشاقة.. عملية جمع الأطفال من بيوتهم.. طلبت ممن استطاعت الاتصال بهم أن يبلغوا من لم تبلغهم هي، ونسيت في غمرة العمل طفلة لم تتذكرها إلا بعد إذاعة البرنامج!! وفي الساعة العاشرة من اليوم التالي اجتمعت إلى مخرج البرنامج عاطف حلوة، أبلغته بما جرى وطلبت إليه أن يضع المفاجآت الجديدة في حسابه عند إخراج البرنامج. وفي نفس الوقت كان سعيد النابلسي منهمكاً في إعداد الديكورات اللازمة للبرنامج في شكله الجديد، وفي الساعة السابعة والربع أي قبل ساعة فقط من إذاعة البرنامج بدأت هيام في عمل البروفات لكنها لم تكملها، فقد طلبوا إليها إخلاء الأستوديو مع (أطفالها) لإعداد الديكور للمادة الأولى من البرنامج.      ونعود إلى الباقين .. إلى الدكتور صباح قباني وعبد الهادي البكار وعادل خياطة وسامي جانو ومحمد الرواس وباقي الذين قدموا برامج اليوم الأول. ·        عبد الهادي لم ينم.. كان مع الدكتور صباح يتذاكران في الهيكل الأخير للبرنامج. ·   عادل.. كان يعاهد نفسه عهداً.. قال لنفسه أنه لو أخفق فسيكون الغد، الذي لم ياتي بعد، آخر عهده بالتلفزيون والإذاعة.. ·        محمد الرواس.. مدير التصوير في التلفزيون يعيد للمرة الألف ترتيب الأضواء في ذهنه.. استعداداً للغد.. كلهم لم يناموا تلك الليلة .. كان القلق والأعصاب المشدودة والتساؤل عما سيأتي به الغد يذهب بأي رغبة في النوم عن عيونهم..      وتسابقت عقارب الساعة تطوي الزمن طياً بسرعة لم يعهدوها من قبل.. واصبحت الساعة الثامنة إلا دقيقتين.. جلس عادل على مقعده أمام أجهزة المراقبة. راح محمد الرواس ينسق الأضواء بقدر ما سمح له الوقت، ومساعدوه الأربعة يبادرون إلى تنفيذ تعليماته بسرعة. ودار الدكتور صباح قباني في أرجاء الأستوديو القائم على قمة جبل قاسيون.. كأن أشبه بربان سفينة مقبلة على معركة.. يوجه التعليمات.. ويشدد العزائم.. ويشحذ الهمم .. وفي العمل التلفزيوني.. يبدأ المخرج عمله قبل دقيقتين من بدء العمل.. وسيطر الصمت فجأة على كل أرجاء الأستوديو .. فلا تسمع إلا أصوات الآلات وهي تجهز.. وكان مفروضاً أن يبدأ الإرسال بمشهد قرآن كريم مفتوح، ويدار شريط مسجل بسورة الفاتحة، وفي نفس الوقت تظهر كلمات السورة الكريمة متتابعة فوق المشهد السابق. وفي الصمت الثقيل الذي سيطر على الأستوديو ارتفع صوت عادل يقول بكل هدوء: دقيقتان للإرسال .. الكل استعداد .. دقيقة واحدة للإرسال .. مدير الأستوديو استعد .. أستوديو استعد .. صوت .. استعد .. استعد للظهور بكاميرا (1) و(2).. استعد .. عشر ثوان للإرسال .. انتبه .. انتبه .. خذ .. موسيقى .. ابدأ .. كاميرا (1) .. خذ ..       ومع الكلمات الأخيرة دبت الحركة فجأة في الأستوديو الصامت بدأ الإرسال.. أشرقت بضعة آلاف شاشة في المدينة .. ارتفع صوت النشيد الجمهوري معلناً الحدث العظيم .. معلناً بدء مرحلة التلفزيون في حياتنا، ووقف سامي جانو يفتتح البرامج.. باسم الله .. وباسم كلماته الكريمة.. وظهرت على الشاشة صورة القرآن الكريم مفتوحاً وبدأت التلاوة.. ولكن ..رباه.. إن الورق الذي كتبت عليه كلمات السورة لا يدور بوساطة اليد التي صنعت له.. هل نعدل عن إظهار الكلمات ونكتفي بمشهد القرآن الكريم.. وبدون وعي سارع عبد الهادي البكار وسعيد النابلسي يديران الورق بيديهما.. وسارت الأمور على خير ما يرام.. وظهر الدكتور صباح، كما تعرفون وانتهت كلمته.. وبدئ بعرض فيلم وطني الأكبر.. وفجأة، تطلعوا جميعاً إلى بعضهم .. وارتسم على وجوههم سؤال: ـ هل هذا صحيح ؟.. هل بدأنا؟.. هل يرى الناس عملنا؟.. هل نجحنا؟.. كانت الفكرة واحدة .. وكان الانفعال بها واحداً أيضاً.. دموع..دموع الفرح ..والفخر .. والكبرياء.. كثير من الكبرياء.. انهمرت من العيون .. قبلات وعناق تبادلها الجميع.. ـ الدكتور صباح تغطي عينيه غشاوة من الدمع يشد على أيدي الجميع واحداً واحداً.. مهنئاً .. شاكراً مشجعاً.. ـ عبد الهادي يمسك بمنديله ولا يرفعه عن عينيه.. ـ عادل العصبي جداً أصبح هادئاً.. يرسل تعليماته وهو يشعر أنه لم يكن أقرب إلى الله منه في يوم من الأيام منه مثل هذا اليوم.. ـ سعيد يشرف على تهيئة ديكورات نادي الأطفال ويمسح الدموع من عينيه بين الفينة والأخرى.. ـ محمد الرواس يعمل ويوجه التعليمات، وخيطان طويلان من الدموع ينسابان على خديه ببطء. وحل موعد نادي الأطفال.. ودخل الأطفال "البلاتو" وليس لديهم أية فكرة عن المواد التي سيقدمونها.. صحيح أنهم تمرنوا عليها في السابق.. وصحيح أنهم وعوها وحفظوها .. ولكنهم لم يكونوا يعرفون أي مادة سيقدمونها.. وسار البرنامج.. والأعصاب، أعصاب الجميع مشدودة  شداً عنيفاصً.. القلوب تكاد تكاد تقف عن الخفقان.. كل ثانية كانت تمر يتردد فيها اسم الله ألف مرة على شفاه الجميع .. هناك في ذلك الأستوديو القائم على قمة جبل قاسيون.. أنواره ترى من بعيد.. ولا يعلم أحد، من الذين تزاحموا أمام أجهزة التلفزيون إلا جزءاً مما يدور فيه..   ·        قلت لهيام: ألم تخافي وأنت تقدمين النادي بهذه الطريقة ؟ ·        قالت: لا .. ·        قلت: غير معقول .. ·   قالت: بل معقول جداً .. لسبب بسيط .. هو أنني كنت قد نسيت نفسي تماماً.. وكان اهتمامي كله موجهاً إلى تفادي الأخطاء بقدر الإمكان .. وسارت الأمور على النحو المعروف.. نشرة الأخبار قدمها عبد الهادي وأخرجها عادل.. ثم برنامج " أرضي" الذي أخرجه عبد الهادي.. ثم .. كانت المفاجأة بالنسبة للمتفرجين.. انتهت برامج يوم الافتتاح.. لماذا؟ .. السر بسيط جداً..      برامجنا كانت ساعة ونصف الساعة.. وغيرنا بدأ برامجه بساعة واحدة في اليوم.. وغيره بدأ برامجه بنصف ساعة.. وبلاد أخرى كانت تعمل يوماً وتتوقف يومين.. ونحن لا نريد لتلفزيوننا ذلك. ونحن نريد لتلفزيوننا أن يبدأ بساعة ونصف ثم يزداد شيئاً فشيئاً حتى يصل إلى خمس ساعات أو عشر، بدلاً من أن يبدأ بعشر ساعات ويتدنى فيما بعد إلى ساعة أو نصف ساعة..      والتلفزيون ليس لعبة للأسف إنه كما قلت عمل.. وجهد وأعصاب وعرق.. يضاف إلى ذلك مال كثير يستهلكه في كل دقيقة، بل في كل ثانية.. وتصور.. أن برنامج "أرضي" الذي رأيته في ربع ساعة استهلك أكثر من شهر كامل عمل فيها عبد الهادي البكار ليل نهار.. قطع فيه بضع مئات من الكيلومترات. وتصور.. أن نشرة الأخبار التي تشهدها في نصف ساعة استهلكت جهود مئات من الأشخاص المنتشرين في جميع أنحاء العالم.. وقطعت آلاف الكيلومترات وركبت عدة طائرات لكي تصل إليك بكل بساطة وأنت جالس بالبيجاما في منزلك وقد تشهدها وأنت تتثاءب. وتصور.. أن كل ثانية من برامج التلفزيون التي تشهدها تستهلك من أعصاب المسؤولين عنها جانباً يكفي لإصابتهم بانهيار عصبي ومع هذا فهم يعملون ويعلمون، من أجلك.. دون أن يقولوا لك حتى كيف يعملون.. وهم يريدون، عندما تزداد ساعات الإرسال، أن يفعلوا ذلك ببطء وروية وعناية ودراسة.. واخيراً.. نكذب على أنفسنا، ونخدعها، لو قلنا أنه لم تقع أخطاء.. لقد وقعت أخطاء.. نعم.. ولكنها أخطاء تافهة جداً لا توازي المجهود الجبار الذي يبذل لأداء هذا العمل العظيم.. وكما قال الرئيس أكثر من مرة إن الذين يعملون هم – وحدهم – الذين لا يخطئون.. وأسرة التلفزيون تعمل.. ومن أجل هذا تخطئ أحياناً... ولسوف يتناقص هذا الخطأ يوماً بعد يوم. بل ساعة بعد ساعة..- فإن كل "تلفزيونات" العالم العريقة تخطئ أيضاً – والعبرة ليست في الأخطاء الطفيفة بقدر ما تتمثل في الإطار الذي يقدم فيه العمل.. وعلم الله أن تلفزيوننا يقدم في إطار من التفاني والتعاون والإخلاص.. ليس بعده مزيد.. وبعد.. فقد نجحت التجربة الجديدة التي خضناها.. وأصبح لدينا تلفزيون، وليس أدل على النجاح من أن طلبات الأجهزة قد تضاعفت في اليوم التالي مباشرة. وإن برقيات ورسائل وهواتف التهاني لم تنقطع حتى هذه اللحظة.. رغم أن ما رأيناه ليس سوى غيض – كما يقولون – غيض، من فيض... وفي جعبة إدارة التلفزيون العجيبة.. كثير، كثير جداً، من المفاجآت..         المصدر: مجلة هنا دمشق ـ العدد 172 ـ السنة السابعة ـ 1 آب " أغسطس " 1960 ـ ص 8 .