2012/07/04

خـالد تـاجا.. استقام خطُّ القلب فقرّبوا مربط النعامة منه
خـالد تـاجا.. استقام خطُّ القلب فقرّبوا مربط النعامة منه


سامر محمد إسماعيل - تشرين


ينتمي الفنان خالد تاجا إلى سلالة خاصة من الممثلين، فلا يمكن حصره ضمن أية فئة من فنون الأداء سواء في تلك الأدوار التراجيدية المركّبة والصعبة، أو حتى ضمن أدوار الكوميديا الشعبية أو السوداء، وهذه الأخيرة تقدم لنا فهماً مختلفاً عن شخصية هذا المبدع الكبير؛

فرغم أن البعض يرى أن «تاجا» قد نجح في أدوار الميلودراما أكثر من أي شيءٍ آخر، إلا أنني أرى أن هذا الممثل الخاص استطاع -وبجرأة لافتة- أن يقدم سبقاً في عالم الدراما التلفزيونية، فالرجل يحمل كيمياء خاصة في الوجه والصوت، ويتمتع بمروحة متنوعة من أشكال الأقنعة المتبدلة في لكناتها ولهجاتها الإنسانية. لم يفرق صاحب شخصية «ابن عباد» أساساً بين الأنواع، ولا يعدّ الكوميديا نوعاً مضاداً للدراما، بل على العكس يعرف أن الكوميديا هي دراما أيضاً، بل هي الدراما بعينها، كونها تحمل في صميمها بذرة الفعل وردوده الخلاقة.من هنا تمكن تاجا من الإطلالة على ما قدمه هذا القارئ المتنوع عبر ثقافته العالية، ودرايته ودربته على الحياة، فهو ابن هذه الحياة قبل أن يكون ربيب غبار الكتب ووعثائها، شخصية جمعت تجاورات فنية عالية في جماليتها، ومتفردة في صنيعها أمام الكاميرا، إذ يقترب خالد تاجا من شفافية هائلة في التقاط موجة الشخصية والدور على حدٍ سواء، فيعرف أولاً أين يقف في العمل التلفزيوني، يعرف مساحته، ومتى يلعب، وكيف يلعب مع الممثل الشريك... موهبة نادرة في توليف راديو المشاعر وهيمنتها، ثم إنه عرف أكثر من غيره كيف يقدم مساحته الخاصة بالدور عبر معرفته المسبقة بالشخصية التي سيقوم بتجسيدها، وهو في ذلك لم يدّخر جهداً في تلحين ومؤاخاة النشازات الجوانية، وتدريبها على التفاعل مع الجوقة التي تشاركه اللعب، لاسيما في الكوميديا التي فهمها هذا الفنان وفق تنميط عالي المزاج للسخرية اللاذعة الممزوجة بمرارة الواقع الذي يريد تناوله, لقد كان الواقع الذي أراد هذا الفنان أن يقدمه لنا نقدياً و ليس واقعاً سطحياً، كما إنه لم يكن محاكاة برانية لمجموعة مواقف ملتبسة إنسانياً، بل هو رؤية جديدة لطالما استخدمها في تحريك دماه الشخصية. ‏

اعتمد خالد تاجا في أداء أدواره على ألبوماته الشخصية، ألبومات غالباً ما ضمت أرواح بشر تم تجفيفهم و تحنيطهم في المخيال الشخصي لهذا الفنان، فهو جامع «طوابع وطبائع بشرية» وُمصنف لأرشيف لا ينفد من دماء بشرية حارّة، بمعنى آخر هو -كما كان يطيب له أن يلقب نفسه وصرح عن ذلك في أكثر من حديث تلفزيوني وصحفي- «دراكولا يتغذى على دماء شابة» حيث تمتع الراحل بطاقة متجددة قادرة على الاستفادة من كل موضوع جديد، من كل الأطروحات الشابة، من أي شيءٍ يتمتع بيناعته وعنفوانه، لذلك تجددت دماؤه باستمرار، ولذلك أيضاً لم نضبط هذا الرجل «متلبساً» في أثناء «امتصاصه» النوعي للأشياء والأشخاص والمواقف من حوله، كونه كان موهوباً في نمذجة الكاركترات، موهوباً بتصوير ونسخ وطباعة الحياة وإبرامها ضمن مكتبته النفسية العامرة بالأنماط البشرية، ولا أبالغ إن قلت: إن هذا الممثل لم يُكتب له ما يستحقه باستثناء دوريه في «الزير سالم» و«التغريبة الفلسطينية», أما في الكوميديا إذا أردت التصنيف, كما يحلو للبعض، فقد كتب خالد لنفسه، حيث لم يقتنع بالكروكي الأسود للنص الخالي أصلاً من نكهة الأفعال وتراتبيتها... في الكوميديا كما في الدراما واظب أكثر فأكثر على قراءته النقدية الخاصة حد الغلوّ، فكان يعرف أن ترنيمته الذاتية لا تُعزف إلا على قيثارة من صُنعه، ولا يمكن في حال في من الأحوال اللعب بالمقادير، أو توقعها من الخواء، لأن فن التمثيل ليس فناً بمتناول اليد كما يظن البعض، بل هو فن صارخ في حرونه واستعلائه ومناعته، لأنه -وقبل كل شيء- يجب على الفنان تمشيط شعر دميته، وإلباسها ثوبها المناسب، ومن ثم اختيار النبرة الصحيحة، النبرة الدقيقة للانفعال والتلعثم والارتباك والكذب والتنصل, النبرة الموزونة وفق لازمة لا تنتهي في تلويناتها ومدادها الإبداعي.

على مستوى آخر خبِر خالد تاجا منذ بداياته مقدرات خاصة لامس عبرها المجاميع، و ذلك بالعزف التلقائي على أوتار جمهوره، فليست أدواته الطيعة في فن الأداء إلا دليلاً على نقمة مستطيرة من الأنانية والفساد الأخلاقي داخل النفس البشرية، الضحك أيضاً لدى هذا الرجل على خلاف ما يظنه البعض كان منضوياً دائماً على تهكم عال من خنوع البشر لذلِّهم اليومي، ومن تنزيههم المطلق للألم والحسرة والوجد السطحي، فالفنان الذي قرأ قصائد الشعراء الرعويين الإنكليز لطالما حلُم بأداء بالملك لير، إذ كانت قدراته في نمذجة أدواره تراكم خبرات تنتظر اكتشاف خباياها. ‏

نظرة خاطفة لأدواره في أعمال من قبيل «أيام شامية- دنيا-يوميات مدير عام- قانون ولكن -أيام الولدنة» ستعرّفنا أكثر على جرأة كبيرة اتسم بها هذا الرجل في مواجهة تعقيد الشخصية ونوعها، ملابسها، وقفتها، نحنحاتها، تملصها، حيرتها، مداورتها، غشامتها، غلاظة قلبها، طراوتها الوجدانية، جشعها، حسيّتها، نرجسيتها الكاذبة، تأتأتها؛ كل شيء يقترب هنا من صفات عدة تمكن تاجا من توليفها على مقاس قامته المديدة، و فوق كل ذلك قدرته المدهشة على الانسحاب من النمط الذي كتبه لنفسه قبل قليل، إذ كان يحتاج خالد إلى الممثل الشريك القادر هو الآخر على اللعب معه داخل اللقطة, ولاسيما في المشهد والعمل ككل، يحتاج إلى «لعيبة» إلى محركي دمى قادرين على مجاراة خدعه وتشكيلاته الأدائية، فالتمثيل لديه يعني تفريخاً لأفعال متتالية، متزامنة مع التشريح النقدي للأنموذج الذي يؤديه أمام الكاميرا، التشريح الذي يأتي على هيئة إشراقات متتابعة يلحنها من الداخل، هنا مربط الفرس، فخالد تاجا لم يكن يؤدي أدواره بشكل براني على الإطلاق، بل كان يشعر ويحس بكل ما تمليه عليه الشخصية، اللعب هنا ليس لاستجداء الضحك أو التعاطف، بل هو لعب على توضيح البعد الدرامي للكاركتر، البعد النقدي لباقة متنوعة من بشر خزّنهم في مخيلته، ومن دون أي شفقة كان ينقضُّ هذا الفنان على هتك نفاقهم الاجتماعي والتمثيل بخيباتهم عبر محاكاتهم في كل نأمة وإشارة والتفاتة، وفي كل لعثمة يمكن أن يلاحظ المشاهد أنها ليست عفو الخاطر، إنما هي إشارة ألمعية للتدليل على عادات وطواطم مجتمع بأكمله. ‏

هذه الخفة الرائعة في إخراج أرانب الضحك ولحظات البكاء من أكمام الشخصية لم تأتِ عن طريق المصادفة، كانت ولعاً غريباً بالمحاكاة الساخرة أكثر منها خداعاً بصرياً، في تقمص أثواب مختلفة تحت يافطة التنكر، فبطل فيلم «سائق الشاحنة» لطالما أتقن التخفي جيداً داخل الصناديق المغروسة بسيوف حواة السيرك، لكنه في الوقت ذاته كان يتقن ترويض نفسه على التعدد، ولمعرفة ذلك تمكن ملاحظة الفرق الهائل بين «ابن عباد» المفجوع بموت ابنه و«أبو عبدو» الشخصية الشامية اللائبة خلف شوارب «محمود المسروقة»... يمكن اكتشاف الغنى الفني في شخصية هذا الرجل عبر المقارنة بين أدوار الجِّد والهزل لمعرفة تفانيه في مقاربة الأصوات، ورسم الموديل، وتعرية الخبل الاجتماعي والنفسي للشخصيات المكتوبة، مثلما تمكن قراءة المسافة الشاسعة بينه وبين شخصيات الكوميديا والدراما على سبيل المثال، موهبة حقيقية خاطت تفاصيل مروّعة واستنطقت لسان حال الشخصية، ومعالجة أزماتها، ومن ثم تكييفها مع المزاج العام للعمل الفني، ولهذا كله, لم يدخلنا تاجا في المتوقع عندما كنا نشاهده رغم ضحالة النصوص وندرة الجيد منها، فهو الممثل الذي كان يمثل بأسنانه، بجلده المحمر، بتجاعيد وجهه الأصلية، بزمجرته وصوته المستعار من نساءٍ أحبهن، تخنيث الصوت والنبرة الوجدانية، ومسخ القالب البشري ومعاينته من جوانياته جعل خالداً في مقدمة ممثلي العالم، محلية مغرقة في عالميتها، عالمية مغرقة في محليتها، كل هذا وأشياء أخرى تمكن قراءتها في فنانٍ كان صادقاً في كذبه حد الخرافة، لا ليس أنطوني كوين العرب كما لقّبه محمود درويش عن دوره «ابن عباد» في مسلسل «الزير سالم» إنه خالد تاجا ذاته الذي سيأتي يوم يطلقون فيه على نجمٍ من نجومهم: «خالد تاجا هوليوود» لكن خط القلب استقام. ولم يتبق لجمهوره سوى تلك الصرخة التي أطلقها يوماً على لسان شخصية «ابن عباد» عندما يُقتل ابنه فيقول غاضباً مطالباً بفرسه الأصيلة لأخذ الثأر: «قرّبوا مربط النعامة مني».