2012/07/04

خيال الظل الفن الذي دخل القصور وطُرِد منها
خيال الظل الفن الذي دخل القصور وطُرِد منها


أمينة عباس - البعث

لم تكن محاضرة الباحث محيي الدين قرنفلة عن الحكواتي وخيال الظل التي ألقاها مؤخراً في مركز ثقافي المزة إلا محاولة منه لتذكير الحضور بفنين في طريقهما إلى الانقراض، مع قناعة البعض بأنهما يخوضان معركتهما الأخيرة للبقاء على قيد الحياة  في عصر الانترنت  والفضائيات، ولأن الحكواتي واحد من الشخصيات الشعبية التي عُرفت في مدينة دمشق وهو اسم لمن يحفظ الحكايات ويلقيها عن ظهر قلب أو من الكتاب، يبيّن قرنفلة أنه ظهر مع ظهور المقاهي في مدينة دمشق والتي كان عددها ينوف عن مئة بين صغير وكبير، صيفي وشتوي، داخل أحياء المدينة أو في أطرافها وذلك بعد النصف الثاني من القرن السابع عشر، حيث كان الناس يقضون أوقات فراغهم وسهراتهم في المقاهي للاستماع إليه وهو الذي كان يأتي إلى المقهى في وقت محدد لإلقاء الحكايات فكان يتخذ مكانه في صدر المقهى على سدة عالية من الخشب مجللة بالسجاد وحولها أصص نباتية، وقبل شروعه بالحكاية يحكي ما يسمى دهليز الحكاية وهو عبارة عن مقدمة يسردها ريثما يصل الجمهور المتأخر، وفيها يتحدث عن أمور ضاحكة وحكم ونصائح، كما كان بعض الحكواتية، كما يشير قرنفلة، ممن برعوا في إلقاء الحكايات والسير الشعبية يغادر السدّة وينزل إلى الجمهور وقد أمسك سيفاً أو خيزرانة يلوح بها ويضرب على الطاولات وكأنه هو نفسه بطل الحكاية أو السيرة مما يثير الحماس في النفوس، وأكثر ما يستدعي الانتباه برأيه هو استخدام الحكواتية لأكثر من لغة في سرد حكاياتهم مراعاةً منهم لنوعية المستمعين في مقاهي دمشق، خاصة وأن تأثير الحكواتي كان يقع على المستمعين من خلال وقائع قصته من ناحية، ونبرة صوته التي تتلوّن حسب وقائع الأحداث من ناحية أخرى، ويبين قرنفلة أنه غالباً ما يستخدم المثل الشعبي لدعم موقف ما أو التعبير عن رأي ما.. ويُذكَر أن سليمان ابن الحشيش –كما يقول البديري الحلاق صاحب كتاب حوادث دمشق- من أشهر الحكواتية وقد كان فريد عصره ووحيد أوانه، وكان يحكي سيرة الظاهر بيبرس وعنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن ونوادر غريبة باللغتين العربية والتركية، مع العلم أنه أمّي لا يقرأ ولا يكتب.


الكراكوزاتي أو خيال الظل


أما الكراكوزاتي، فيؤكد قرنفلة أن تأثيره كان أكبر بمشاهديه ومستمعيه من الحكواتي الذي كان تأثيره يقع على المستمعين من خلال وقائع قصته من ناحية، ومن نبرات صوته التي تتلوّن حسب وقائع الأحداث من ناحية أخرى، أما الكراكوزاتي بالإضافة إلى كل ذلك فكان يعرض صوراً لشخصيات قصصه المختلفة ويلوّن نبرات صوته من وراء الستارة مع كل شخصية بحيث تختلف من شخصية إلى أخرى.. وخيال الظل كما يوضح كان فناً مركَّباً ومعقَّداً، فالكراكوزاتي ومعاونوه كانوا ينصبون خيمة الظلال في المقاهي ويعرضون حكايات شخوصها بأنماط ثابتة، وحبكاتها مرنة، تتمدد بالارتجال والتفاعل مع المشاهدين، وكان ذلك يقتضي إضافة إلى تنوّع وتعدد المواهب تجهيزات وبراعات تقنية، أما أشخاص الكراكوز التي تظهر خيالاتها في كل فصل فهي كراكوز وعيواظ ثم المدلل وهو أصغر خيال في الخيمة، وقريطم الخيال الذي يمثل الرجل المصري بكلامه، وأبو أركيلة، إضافة إلى حمار الخيمة الذي يدعى كرش.. ويشير قرنفلة إلى أن القاسمي أدرج في قاموس الصناعات الشامية خيال الظل بين الصناعات أو الحِرَف التي كانت رائجة في مدينة دمشق أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وكان يشكل جزءاً من النسيج الاجتماعي للحياة المدنيّة، ويذكر قرنفلة أنه حين عيّن الوالي العثماني مدحت باشا على مدينة دمشق عام 1878 ونزل إلى المدينة ليتفقد أحوالها الاجتماعية والثقافية صدمته كثرة المقاهي التي تُمثَّل فيها حكايات كراكوز فانتقد وجهاء مدينة دمشق ولامهم لإقبالهم عليها فحاول مدحت باشا تغيير هذا الواقع فشجّع أبا خليل القباني على تنظيم تجربته وإقامة مسرح دائم في دمشق.

ويوضح قرنفلة قِدم هذا الفن في البلاد العربية، إذ وردت أول إشارة إليه في كتابات الديارات للشابشتي، فالشاعر دعبل وهذا يعني برأيه أن هذا الفن كان معروفاً في بغداد منذ القرن التاسع الميلادي، ويبين أنه كان مزدهراً أيام الفاطميين وأن صلاح الدين الأيوبي دعا القاضي الفاضل عام 1171 لرؤية عرض من عروض الخيال، ورغم هذا التاريخ الهام لهذا الفن يستغرب قلة النصوص التي بقيت متناثرة هنا وهناك وكأن هذا الفن برأيه كان يتلف تراثه كلما انطفأت القناديل التي تضيء شخوصه، وإلا فأين ذهبت آلاف التمثيليات التي يُفتَرَض أنها أُلِّفت وسُجِّلت وعُرِضت طوال هذه القرون؟ ومع هذا يعتقد قرنفلة أن السبب في ذلك قد يعود إلى خوف أهل هذه الصنعة من سرقة صنعتهم أو بسبب ازدراء الأدب الرسمي لهذه الأعمال، إضافة إلى شيوع الأمية وصعوبة الكتابة .

ويؤكد قرنفلة أيضاً أن النزر اليسير الذي وصلنا عن هذا الفن لا يساعدنا على ترتيب أية صورة تقريبية لتطوّره وللسياق الذي اتخذه منذ ظهوره قبل عشرة قرون وحتى انطفائه في النصف الأول من القرن العشرين، إلا أنه يبيّن ومن خلال دراسة المسرحيات الظلية التي وصلت إلينا والتي لا تمثّل القيمة الحقيقية لهذا الفن بأنها كانت تتناوب في العطاء والرد على شكل مقالب مستمرة لا تختلف أو تقل في التأليف والتمثيل عن مقالب غوار إلا من حيث البيئة والمكان الذي أثر في كل منها لتلائم نفسية المجتمع الذي يشاهدها، وبالتالي فمن يقرأ فصل الحمّام للمستشرق أدمون سوسة، موضوع كتاب مسرح عربي قديم كراكوز للأديب عادل أبو شنب يجد أن توزيع الأدوار والشخصيات واحد، وهكذا يرى قرنفلة أن الأصل الشعبي للإقبال الكبير على مسلسلات «حمّام الهنا» و«مقالب غوار» في وقت قريب مضى ما هو إلا امتداد باقٍ في النفوس لتأثير فصول خيال الظل التي لاقت الإقبال نفسه من الشعب الرازح تحت نير الاستعمار العثماني والذي لم يجد وسيلة تعبّر عن حياته ورغباته سوى الاستماع ومشاهدة فصول خيال الظل وهي تمثّل تمثيلاً دقيقاً حياته وتفكيره ونفسيته في الفترة التي لازمته قرابة أربعة قرون فأصبحت فصول خيال الظل شغل الناس الشاغل ومسرحاً لنكاته وتمثيلياته، ويختم قرنفلة كلامه مؤكداً أن هذا الفن دخل القصور وطُرِد منها وازدهر مع الشعب أحياناً، ولوحق أحياناً أخرى، إلا أنه عكس دائماً الأحداث الهامة والمجريات اليومية، وخسارة كبيرة أن يتبدد هذا التراث .