2015/04/04

رفيق سبيعي
رفيق سبيعي

السفير - سامر محمد اسماعيل

فناجين القهوة وعلب التبغ الموضوعة بالقرب من سريره في الغرفة 23 في مستشفى الطلياني بدمشق، توحي للزائر أن رفيق سبيعي يقضي فترة استشفاء عادية؛ فالرجل الذي تجاوز الثمانين بخمس سنوات من دون أن يصيبه سأم زهير بن أبي سلمى؛ كان قد خرج للتوّ لأداء صلاة الجمعة العظيمة مع الراهبات في الكنيسة المقابلة للمستشفى ـ هكذا أخبرتنا ممرضته وهي تدعونا لانتظاره ريثما يعود.
وبالفعل لم يتأخر فنان الشعب عن موعده مع «السفير». حيث بدا «أبو صياح» على كرسيٍّ متحرك تصحبه ابنته السيدة هبة سبيعي وبعض أصدقاء العمر.
من دون مقدمات ابتسم الفنان السوري القدير في وجه زواره، مرحباً بهم، ومتجاهلاً بضحكاته الأبوية تحذيرات الطبيبة المشرفة عليه من إجهاد نفسه في الحديث للصحافة، لكن حتى أنبوب الأوكسجين الموصول إلى أنفه؛ لم يمنع صوته الهادر من التعبير عن حزنه وخوفه على بلاده التي دخلت غرفة العناية المشددة منذ أكثر من أربع سنوات.
كيف لا أمرض وأنا أشاهد يومياً ما وصلنا إليه؟ ـ تساءل صاحب شخصية «طوطح» مضيفاً: «سنوات طويلة صرفناها أنا ورفاق العمر كي يصير الفن والفنانون مقبولين في مجتمعاتنا، لقد حفرنا بعيوننا وأعصابنا وقلوبنا كي ينتصر الفن في هذه البلاد. كيف لا أمرض وأنا أرى على الشاشات وأشاهد بأم العين ما فعله الطغاة بتمثال الزعيم إبراهيم هنانو، لقد حطموه، تخيل، فعل لم تقم به حتى سلطات الاستعمار الفرنسي والذي حمل الثائر السوري البطل بندقية الشرف في وجهها. اليوم هؤلاء الكفرة يحطمون التماثيل ويعتبرونها أصناماً، لكن هل هم مقتنعون بذلك؟ لا أظن، هؤلاء يستخدمون الدين الإسلامي وسيلة لتنفيذ مخططات تم تكليفهم بها كي يشوهوا هذا الدين».
يسترسل الفنان القدير في سرد ما آلت إليه الأمور في وطنه فيقول: «رجعتُ من بيروت بعد دعوتي من تكريم أقامه لي الرفاق في الحزب القومي السوري، وأدهشني حجم الاحتفاء والحب الذي قوبلت فيه هناك، كنتُ سأحزن كثيراً لو لم أحضر تلك الأمسية، فالحب لا يمكن إلا أن تلبي دعوته، ورغم تعبي صحياً آثرتُ أن أكون مع من يحملون سورية في عيونهم وقلوبهم».

الطليعة

يتذكر بطل «حمام الهنا» بداياته مع فن التمثيل، وكيف كان «المشخصاتي» منبوذا من مجتمعه خمسينيات القرن الفائت: «دفعنا ضريبة باهظة في تلك الأيام، أبو خليل القباني وحكمت محسن وعبد اللطيف فتحي ونهاد قلعي وآخرون، كانوا في مقدمة الطليعة السورية التي ناضلت طويلاً لتكريس الفن في مجتمعاتها، لقد كان الفنان محتقراً وقتذاك، لكن اليوم صار الفن مقبولاً والفنان محترماً بين أبناء قومه».
هذا ما يجهله الجيل الجديد من الفنانين الذين يعتقدون أن المسارح الضخمة والمؤسسات التي ترعى الفن في سورية من معطيات الطبيعة ـ يتابع سبيعي: «هم لا يعرفون أن هذه الأوابد الحضارية هي نتاج كفاح مرير وطويل خضناه أنا وأبناء جيلي من أجل الحصول عليها».
الفنان الذي خرج من جوقة منشدي الحضرات والأذكار في زاوية الشيخ محمد الهامشي، كان يصر منذ يفاعته على أن يكون حاضراً كمنشد لأشعار ابن عربي وابن الفارض في جامع نور الدين الشهيد: «كنتُ أطير فرحاً وبهجة كلما اصطحبني أخي الكبير توفيق إلى حلقات الذكر، حيث كانت بالنسبة لي المتنفس الوحيد؛ فأبي الذي كان القاضي الأهل في سوق البزورية بين تجاره كان غير راضٍ عن مزاولتي للفن، وكم من مرة طردني من البيت بسبب وقوفي على المسرح في فرقة عبد اللطيف فتحي. الطريقة الوحيدة التي كنتُ أدخل فيها إلى بيت أهلي كانت عبر القفز على أسطح المنازل المجاورة، فتهمة الفن وقتذاك كانت أمراً جللاً وغير مقبول، والفنان كان يُنظر في تلك الأيام له كقواد».

الشام حبيبتي

لا أستطيع أن أبتعد عن هذه البلاد، عمري كله قضيته مشتاقاً لنسمة من نسمات الشام ـ يضيف الفنان السوري ويقول بصوتٍ تترجرج نبرته الرجولية العذبة: «في جولة قمنا بها أنا والراحل فهد بلان إلى دول أميركا الجنوبية مقتبل سبعينيات القرن الفائت، أذكر أنني لم أحتمل البقاء حتى إنهاء الجولة، وقمتُ شخصياً بالتأثير على متعهد الحفلات كي أقطع الزيارة، وأعود إلى دمشق. الشام حبيبتي، أمي، أختي التي لا طاقة لي على مفارقتها، وعلى إطالة البعد عنها».
تنفر دمعة من عينيه فيمسحها برجولة ويتابع: «اليوم أشاهد بأم العين كيف يستفيق الواحد من نومه لينقض على أبناء جلدته كالوحش، أين الإنسان الذي كنا ننشده ونتوسمه في فننا وحياتنا العامة؟ الشر والحقد وحب الجاه والثروة والسلطة أعمت الجميع؛ لذلك أوصي السوريين ألا ينتظروا أحداً وأن يغيروا قدرهم بأنفسهم، وهم قادرون على مواجهة الظلام والظلاميين وكل غربان الأرض التي تحاول تمزيق وتدمير هذا الوطن العزيز الغالي، انظر أنا الرجل الذي بلغت من العمر عتياً أرغب أن أخرج وأقاتل هؤلاء الكفرة، فما هو شعور من هم في عمر الشباب وهم يشاهدون وطنهم تنهشه الذئاب؟».
للأســـف الشديد نحن شعوب تعبد المال ـ يعقب سبيعي ويضيف: «الأعمال التــلفزيونية التي يوصي بها الخليج ويمولها، هي لتشويه سورية والسوريين؛ هذه مأساة.. أنا أضع اليوم عيني في عين الله، أموت اليوم أو غداً هذا أمر تركته للخالق، لكنني اليوم غير قادر على محاربة كل هذا الظلام إلا بقلبي، صدّقني؛ لو كنتُ شاباً لما تفرّجتُ عليهم وهم يستبيحون بلدي وثقافته وفنه».