2012/07/04

ريما ابنة الكبيرين عاصي الرحبانـي وفيروز.. (صارت حكاية)
ريما ابنة الكبيرين عاصي الرحبانـي وفيروز.. (صارت حكاية)

دمشق
صحيفة تشرين
ثقافة وفنون
الأحد 20 كانون الأول 2009
سلمى قصاب حسن
حين بثت إحدى محطات التلفزيون اللبنانية عام 1998 أمسية قدم فيها الأستاذ الكبير الراحل منصور الرحباني مع السيدة فيروز مقتطفات من مسرحيات الأخوين رحباني، مع بعض أعمال زياد والياس بقيادة غدي وإخراج مروان وكلهم من الرحبانة، لم أدهش من الإتقان في الموسيقا والنصوص والرقص والتمثيل والإضاءة والديكور والإخراج المسرحي لأن هذا الإتقان هو ما اعتدنا عليه في أعمال الرحبانة. لكن تعرّفي على تفوّق ريما الرحباني ابنة الفنانين الكبيرين عاصي وفيروز في إخراج هذا العمل تلفزيونياً هو مابهرني. ‏ فريما التي عرفتها في مراحل طفولتنا صغيرة خجولة رقيقة بل هشّة في التعامل معنا، أخرجت المسرحية بتمكن وحرفية أضافتهما لما هو متوقع من ورثة هذين العبقريين من إحساس بالكلمة والنغمة والحركة والتكوين، فجاء رقي تقديم العمل تلفزيونياً بمستوى ما نراه بالتلفزيون من أعمال تقدم في مسارح عالمية كبرودواي والأوليمبيا.

 

‏ في محاضراتي عن الموسيقا حين أتحدث عن الجودة في العمل عموماً وفي العمل الموسيقي على وجه الخصوص، اعتمد دائماً على نماذج من هذا الإخراج التلفزيوني لريما وأقرنه بنماذج من الإخراج التلفزيوني الراقي لحفلات فرقة «River Dans» أو المسرحية الغنائية الفرنسية (أحدب نوتردام) وغيرها. ثم أقدم نماذج من أعمال موسيقية لا مجال لذكرها الآن، فشلت تلفزيونياً، رغم جودتها، بسبب ضعف إخراجها تلفزيونياً. ‏ لقد باعدت السنوات والمشاغل بيني وبين ريما، لكن هذا العمل الذي رأيته عام 1998 عرفني بعبقري آخر في هذه العائلة المبدعة التي ما عرف التاريخ لها شبيهاً حتى في عائلات مثل عائلة باخ الألمانية وسكر السورية وغيرهما إذ اقتصرت علاقة أفراد هذه العائلات بالموسيقا على جانبيها التأليفي والأدائي مثل كبار الموسيقيين (يوهان سباستيان) وابنه (كارل فيليب ايمانويل باخ) أو عبد الفتاح وابنه عاصم سكر. ‏ أما العائلة الرحبانية ففيها على حد علمي المؤلف والمغني والعازف وقائد الأوركسترا وكاتب الكلمات وكاتب النصوص ومخرج المسرحيات الغنائية ومهندس الصوت ثم من هي مجال حديثنا الآن المخرجة التلفزيونية للأعمال الموسيقية، ريما الرحباني.

 

‏ ومؤخراً بثت محطة تلفزيون المشرق العرض الأول لفيلم عن حياة عاصي الرحباني بعنوان «كانت حكاية» قُدِّم له بنشرة الأخبار عبر مقابلة صوتية مع ريما تحدثت فيها بلهجتها الواثقة المباشرة عن عفوية العمل وصدقه وعن نجاحها في إقناع السيدة فيروز بالخروج بعد أكثر من عشرين عاماً عن صمتها. فالسيدة فيروز الملقبة بسفيرتنا إلى النجوم والتي قدمها لنا الأخوان رحباني على صورة الصبية الطفلة الخجولة هي مغنية متمكنة وممثلة من الدرجة الممتازة يضيء صوتها صباحاتنا الدمشقية بأغاني الحب البريء كما نتذكر أغنياتها في كل لحظة من حياتنا، فالأخوان رحباني طرحا عبر صوتها الرائع، فلسفتهما في كل نواحي الحياة. ففي مسرحية «الليل والقنديل» يتحدثان بصوتها عن حب الخير حتى للغرباء: (ضوي يا هالقنديل عبيوت كل الناس... عسطوح حليانة دواليها، عضياع ما بعرف أساميها..) وفي مسرحية «جسر القمر» عن مساعدة الجيران والأصحاب: ((عنا جارة زرعت حبقة شورح تعمل فيها، ما في عندا مي منبقى من عنّا منسقيها..)) وحين يذهلنا حجم الدمار في الأرض المحتلة نسمعهما يقولان عبر صوتها في مسرحية «جبال الصوان» (أبي قاللي قبل ما يموت، الحق ما بيموت) فنقف من كبوتنا.. ونتابع. ‏ فيروز التي ما سمعناها يوماً تتحدث إلا بالأفكار الأخوين رحباني، فوجئنا في الفيلم بالشعر الذي انهمر من فمها مشرقاً بالحب والتقدير لزوجها عاصي في لحظات، وتهادى حزيناً في لحظات أخرى، فلمعت عيوننا من الفخر والإعجاب بقدرات تلك السيدة الرائعة.. ومن دموع التأثر بمضمون حديثها من القلب عن زوجها الراحل عاصي الذي دخلت في عالمه ومازالت عالقة فيه لا تريد الخروج. ‏ والآن لنتحدث عن الفيلم: تستعار أحياناً بعض المرادفات التي تخص حقلاً ما لتسقط على كل المجالات الحيوية، فالإيقاع مثلاً هو عنصر أساسي من عناصر الموسيقا، فهو نبضها الذي من الممكن أن يكون سريعاً، بطيئاً، حيوياً متدفقاً، انسيابياً، متوتراً، رتيباً، متسرعاً، متباطئاً، مرحاً، ثقيلاً إلخ... لكننا نستعير صفات الإيقاع فنقول مثلاً: إن إيقاع حياة فلان من الناس رتيب حين تأخذ حياته شكلاً روتينياً لسنوات وبما أنني أعمل في الموسيقا فسأستعمل تعابيري الموسيقية في وصف ما شاهدت وانطباعي عنه. ‏ وهنا أقول: إن إيقاع فيلم «كانت حكاية» كان انسيابياً كما الماء الذي نسكبه عفوياً فيتدفق حراً في رسم مجراه. ‏ واللحن هو العنصر الثاني الأساسي في الموسيقا، وفي الفيلم تناوبت الموسيقا بين صوتين قادرين، فصوت فيروز نادر بطبيعته، مساحته واسعة وإطلاقاته متعددة، فيه القوة والمد وفيه العذوبة والانسكاب، وأداؤها قمة في جودته تمرست في كل أساليب الغناء من شرقي وغربي وجاز بلفظ واضح، ولغة سليمة،و... و.... ولهذا كله هي الأسطورة في الغناء. وصوت عاصي رافقنا في عدد من الإلقاءات الشعرية قوياً هادراً وعاطفياً معبراً كما البحر في سكونه وهياجه، فانسكبت في الفيلم موسيقا صوتي فيروز وعاصي في قلوبنا عذبة، دافئة ورصينة. ‏ يدخل الهارموني وهو عنصر ثالث هام من عناصر الموسيقا، ولغوياً يعني التآلف والانسجام، في التكوين النفسي للأخوين رحباني، فهما في كل إنتاجهما واحد، لم يستطع إنسان يوماً أن يعرف من مِنَ الأخوين كتب كلمات هذه الأغنية أم وضع لحنها، وفي هذا أكبر دليل على أخلاقهما الرئعة. ولقد حزّ في نفسي حين سمعت الجميع في المقابلة الصوتية مع ريما يتحدثون عن عاصي فقط كما لو أنه لم يكن يوماً نصفاً متوازناً للعملاقين الأخوين رحباني، لكني حين شاهدت الفيلم غيرت من موقفي فلقد رأيت فيه ابنة وزوجة محبتين تتحدثان عن فقيدهما بخصوصية لطيفة ما تعدت على أحد ولا أخذت حقه، فالحديث عن العم أو أخي الزوج لا يمكن أن يكون بحرارة وخصوصية الحديث عن الذكريات مع الأب والزوج، والهارموني في الفيلم كان في الانطباع الصادق لريما الصغيرة والصبية والناضجة عن الانسجام في الحياة العائلية وفي العمل الذي كان بين عاصي وفيروز. ‏ لقد جاء فيلم ريما تدفقاً طبيعياً لفرط حبها لأبيها امتلأ به قلبها ففاض بحراً، وهي التي أجابته يوماً على سؤاله حين كانت بعد طفلة في حضنه يتناجيان على الشرفة: كم تحبينني يا بابا؟.. فأجابته: شايف البحر شو كبير... كبر البحر بحبك... ‏ ويومها من جوابها الطفولي الصادق ولدت الأغنية الرائعة... واليوم، من حبها القوي العميق ولد هذا الفيلم الرائع. ‏