2013/05/29

زمن البرغوت الانعتاق من الحارة الدمشقية الضيقة
زمن البرغوت الانعتاق من الحارة الدمشقية الضيقة


عمر محمد جمعة – البعث

لعلّ الفضيلة التي تتّسم بها تجربة أحمد إبراهيم أحمد الإخراجية هو مغامرته المدروسة واعتماده في غير عمل على أسماء جديدة دخلت فضاء الكتابة الدرامية الرحب والمخيف في آن معاً لأول مرة، كما في مسلسل "لعنة الطين" لسامر رضوان وبعده "سوق الورق" لآراء الجرماني، فيما قدّم لنا هذا الموسم الكاتب محمد الزيد في "زمن البرغوت" الذي يتناول مرحلة مهّمة في تاريخ سورية تمتد من عام 1915 حتى عام 1926 أي بداية التحولات السياسية المتمثلة بـ"الثورة العربية"، مروراً بخروج العثمانيين من دمشق ودخول الفرنسيين، وصولاً إلى قيام الثورة السورية عام 1925 وتداعيات تلك المرحلة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. مشيرين إلى أن "البرغوت" هو الاسم الشعبي للعملة القديمة التي كانت مستخدمة في فترة الحكم العثماني، وتزامنت مع أوضاع مادية صعبة وعسيرة عاشها أهل الشام في ذلك الزمان.

إذاً وفي تقييم أولي ومن العنوان والمقولة العريضة للمسلسل، نرى أن المخرج أحمد إبراهيم أحمد، كان في هذا العمل ينزع نحو إخراج مسلسلات البيئة الشامية من مستوى المكان والزمان الافتراضي إلى مستوى المكان والزمان الموثّق، وأكثر من ذلك تحرير الحارة الدمشقية من محدوديتها وحدودها الضيّقة انطلاقاً إلى فضاء أوسع يتعدّى سور دمشق، مؤكداً أن البيئة الشامية ليست فقط حارة داخل سور دمشق، وإنما هي عوالم غنية جداً على صعيد الدراما والعلاقات الإنسانية وطريقة استثمار المكان، فأحداث "زمن البرغوت" تقع خارج السور في حي الميدان ضمن حارة العيّاش، مستندة إلى حكايات وصور واقعية عن الحياة في ذلك الوقت، وخيوط درامية متشابكة ومحاور اجتماعية معقدة تطغى وتهيمن على التحولات السياسية التي ميّزت تلك الفترة الحافلة بالوقائع والأحداث.

في "زمن البرغوت" نقترب أكثر فأكثر من طبيعة العلاقة التي كانت تحكم الريف والمدينة، لنرى كيف كان يفد الريفيون والبدو إلى المدينة، ونتعرّف أيضاً على تفاصيل وعادات وتقاليد وقيم أصيلة. على أن هذا التركيز على الحياة الاجتماعية (كما كل أعمال البيئة الشامية) لا يبرّر تغييب الحياة السياسية بمشاهد يمرّ بها الكاتب والمخرج مرور الكرام على تلك الفترة، ولاسيما أننا شهدنا وعياً ثورياً متنامياً ومتعاظماً من الشرائح السورية المتعلّمة والمثقفة وحتى الشعبية التي جاهدت لتحرير البلاد من نير الاستبداد العثماني وبعده الانتداب الفرنسي، جازمين بأن إظهار الجانب الوطني مثلاً، عبر شخصية "هاشم أفندي" موظف السرايا والمشكوك بأمره من قبل بعض أهل الحارة بأنه جاسوس للسرايا، وهو في الحقيقة رجل وطني يكره العثمانيين ويتعاون مع بعض الضباط العرب الفارين من الجيش العثماني للعمل في الجمعيات الوطنية، أو دعم مختار الحارة "أبو وضاح" للثوار السوريين ضد فرنسا، أو مشاركة العكيد "أبو أدهم" بمقاومتهم، أو قتل دركي تركي هنا أو جندي فرنسي هناك، لا يفي ولا يعبّر عن الوعي السياسي الذي ساد تلك المرحلة وكان من أبرز قرائنها معركة ميسلون والثورة السورية الكبرى. أي كنّا نتمنى أن يوسّع المخرج والكاتب الدائرة قليلاً باتجاه الوقوف أكثر وإبراز المؤثرات والوقائع السياسية ودورها في صياغة الوعي الاجتماعي لسكان دمشق.

وعلى ما نظنّ فإن ماساهم بنجاح هذا العمل، فضلاً عن اختلاف الحكاية والرؤية الإخراجية المتقنة، وجود ثلاثة من نجوم الدراما السورية (سلوم حداد، رشيد عساف، أيمن زيدان) إضافة إلى عبد الهادي الصباغ وعبد الفتاح مزين وصباح الجزائري وسواهم.. غير أن تألّق الفنان المبدع سلوم حداد الذي أدّى شخصية مختلفة كلياً في تاريخه الدرامي الطويل، والمتمثلة بالرجل البخيل "أبو نجيب" الذي يعشق المال، حتى أن زوجته تموت من الفقر المدقع والجوع، قد استوقف المتابعين أمام هذا "الكاركتر" المذهل الذي يؤكد حِرَفية حداد وفهمه العميق للطبيعة النفسية لشخصية البخيل، ولاسيما في طريقة كلامه وحديثه ونطقه، والعرج والمشي المضطرب، والتعاطي مع الآخرين، والمواقف التي تُبكي وتضحك في آن معاً، وتذكرنا حتماً بـ(آرباغون) بخيل الكاتب الفرنسي موليير في مسرحيته الشهيرة، إذ يختزل موليير وعلى طريقة سلوم حداد في "أبو نجيب" بخل الشخصية ونذالتها ووضاعتها أمام المال والمكاسب بالكثير من الملامح الطريفة والنادرة. ففي حين نرى (آرباغون) يتحدث عن خطة يضعها للتقليل من مصروفات ونفقات الزواج أولاً ولكسب مزيد من المال ثانياً، فيتقدّم بمشروع للزواج من (ماريانا)، وهي فتاة فقيرة، على أن يعطي ابنته إلى (آنسالم)، وهو رجل كبير في السن لكنه غنيّ، تماماً كما فعل "أبو نجيب" الذي أودع ابنته بعد وفاة أمها عند أخيه، ليطلب حتى أجر إبقاء ابنته في بيت أخيه، وبالمنظور ذاته نرى (آرباغون) الغني الأرمل الذي كان يدفن في حديقة بيته صندوقاً من الذهب خوفاً عليه من السرقة، وهو الأب المتسلّط عديم الرحمة، و"أبو نجيب" الغني الذي ترمّل بسبب امتناعه عن إحضار الطبيب لزوجته المريضة.. بل يجبر ابنته على غربلة تراب الحديقة بحثاً عن "برغوت" ضائع!!.. وكما (آرباغون) يقتصد في كل شيء بدءاً بالأموال وانتهاءً بشُربة الماء حين يطلب من طباخ العرس التقليل من الهدر، نرى "أبو نجيب" لا يوفر وليمة أو عرساً أو نذراً في حارة العياش إلا ويكون أول الحاضرين فيها.

أخيراً يمكن القول: إن "زمن البرغوت" الذي غامر بالخروج من سور دمشق العالي، يعدّ من علامات نجاح الدراما السورية هذا الموسم في حفاظه على المكانة التي أسّست لها خلال العقود الثلاثة الأخيرة، واستطاع أن يرفع سقف المنافسة في صنع عمل درامي موثق يأخذ بالأحداث والوقائع الحقيقية، وخاصة في مجال أعمال البيئة الشامية التي سبحت طويلاً وقفزت في الهواء أكثر من مرة!!.