2013/08/18

دريد لحام وقصي الخولي في «سنعود بعد قليل»
دريد لحام وقصي الخولي في «سنعود بعد قليل»

 

محمد حسين – الوطن السورية

 

 

«أبو سامي» دريد لحام.. حرفي موزاييك دمشقي.. سامي - راجي – دينا – فؤاد – كريم – ميرا.. هي شخوص مسلسل «سنعود بعد قليل» على تنوعها وإن كانت نمطية في أغلب الأحيان إلا أنها محكومة بمصالحها الآنية.. ليس لها هدف سوى الحفاظ على توازنها الهش.. بانتظار الفرج أو المصيبة القادمة..

 

وقد يكون هذا مبرراً في زمن الهروب حيث الأمان المفتقد وشعار الجميع «يا روح ما بعدك روح».. فتصبح الأخلاق الضحية الأولى تليها الأخوة والعائلة بمفهومها الأسري الضيّق وكذلك الوطني الأعم.. وصولاً إلى العادات والتقاليد وكذلك المبادئ.. وهذه الشخصيات في حواراتها المكتوبة بعناية فائقة تكتب نشيجها المرّ وهي تبحث عن الخلاص.. ولكن الخلاص ما؟!! يبقى هو السؤال الأهم الذي يفترض بالمشاهد البحث عن إجابة عنه.. كي تكتمل الدائرة ويصبح للمسلسل بعده الإبداعي الصرف.. في ملامسة أزمة لا تزال فصولها تتالى يومياً.. والزمن يمضي ثقيلاً مضمّخاً بالدم والوجع والأنين..

 

وقد يكون هذا هو سبب هذه الملامسة الخجولة لما يجري في بلدنا التي تبدت في مرايا الشخصيات المهشمة أصلاً بفعل التنافر والهروب.. ولم تدخل إلى مرايا الروح المتعبة.. وكأن الأزمة ليست على مرمى الجراح بل في بلد الواق واق البعيدة..

وفي الحلقة الأخيرة ظهر ذلك بكل وضوح.. فجميع الشخصيات التي تشكل (العائلة) أو (الوطن) افتراضياً كان لها موّالها الخاص المتعدد والمتنوع.. كررت هروبها الأول من بلدها بهروبها الثاني من المشفى حيث يرقد رب العائلة في العناية المركزة..

فالأخ الأكبر سامي (السياسي) مشغول بمؤامراته السياسية والعائلية الصغيرة التي تضمن مصالحه الشخصية الضيقة.. وكذلك الأخ الأصغر كريم (الإعلامي) انشغل بتضميد جراحه الأخلاقية التافهة التي أوصلته إلى خسران عائلته الصغيرة التي دفعت زوجه «الشخصية الأكثر إيجابية في المسلسل» التي كان همها مساعدة النازحين السوريين إلى العودة على الوطن برفقة ولدها..

أما «رجل الأعمال» فؤاد (ابن النظام الحقيقي) فالأزمة قادته إلى دبي ثم إلى بيروت حيث تحالف مع الشياطين المالية كي لا يخسر فهو يبيع ويشتري «للنظام والمعارضة» على حد سواء وكأنه يمشي على حد السكين ليجني الأرباح ليس إلا.. ومن المحزن أن أخته الصغرى ميرا (طالبة التمثيل) هي من أهدته طوق النجاة من مصيره المحتوم وهو الموت.. ولكن على حساب حياتها هي على أيدي مجموعة من المسلحين الذي يبدو أنهم متشددون (إسلاميون)..

وطوق النجاة هنا هو مجموعة من الأفلام التي قام بتصويرها صديقها السوري (يوسف) القادم من أميركا ليخرج فيلماً عن الأحداث التي تجري في «بلدنا» وكما يبدو فهي تدين لأطراف النزاع لذلك يمكن بيعها للجميع – كما قيل –.. وكان في ذلك رسالة واضحة أن مصير الأحداث التي تجري بعيداً عن التوصيفات (ثورة – حراك شعبي – أزمة – مؤامرة – حرب كونية) «التي تحدد خانة مطلقها فقط» أصبحت بين أيدي تجار الدمّ (المافيا) ومنهم رجل الأعمال هذا الذي فرّ عائداً إلى دبي تاركاً «أخته» بين أيديهم..

أما الفنان التشكيلي راجي فانشغل أيضاً بمطاردة السيارة التي خطفت (حبيبته) قبل أن يكتب كتابه عليها..

والأخت الكبرى دينا لها أيضاً قصتها والأزمة أيقظت قصة حبها الأولى على شكل سجين سياسي سابق أصيب بالعجز الجنسي فوقعت في مطبّ الخيانة أمام نظر ابنتها الوحيدة وكل ذلك تزامن مع عودة زوجها من دبي ليكتشف مصادفة ما حدث فيصاب بالعجز عن اتخاذ أي قرار بينما ابنتها تتحول إلى مدمنة..

ومن المحزن أن كل ذلك يجري والأب يرقد في المستشفى.. فيستيقظ فجأة ليكتشف أنه وحيد وأن عصافيره أصبحت غرباناً فيقرر الموت في مشهد رومانسي «جارح» قاده إلى أزقة دمشق القديمة وشوارعها الجريحة.. ليظهر اسم المسلسل (سنعود بعد قليل) معلقاً على الواجهة الزجاجية المحطّمة لمحل الموزاييك الخاص بالبطل.. وهنا تظهر بوضوح الدلالة الرمزية للاسم ولحرفة البطل في انعكاس جلي للموزاييك السوري بتعدده وتنوعه إضافة إلى حالة الأمان المفتقدة التي كنا نعيشها وكانت أول ما خسرناه.. حيث كان الجميع يكتفي بترك محله وثروته خلف حاجز بلوري هش معلناً أنه سيعود بعد قليل.. لكن هذه المرة يبدو أن هذه «القليل» طالت واستطالت ومرشحة للاستطالة أيضاً..

 

أسماء بلا معنى أو دلالة

 

ولابد من التذكير أن أسماء الشخصيات لا معنى ولا دلالة لها ما كسر حدّة النمطية بشكل كبير وقرّب الشخصيات من المتلقي.. حتى البطل دريد لحام ليس له اسم بل هو أبو سامي فقط.. بينما كان الوفاء معنى واسماً هو الغائب الحاضر الأكبر.. فهو اسم الأم المتوفاة وكذلك «الوفاء» المفتقد عند للشخصيات فهنا يحضر الاسم بكل دلالاته اللغوية والمعرفية والأخلاقية.. أما أولاده فلا يكنون بأسماء أبنائهم بل مجرد شخوص مجللة بالخزي والعار وكأن الكاتب والمخرج يريدان لنا أن نقول ما قاله تشيخوف ذات مرة «انظروا إلى أنفسكم ما أشدّ بشاعتكم» وهو ما أعلنته صراحة زوج الإعلامي في إحدى الحلقات «المهم ما يجي يوم يسألك ابنك فيه شو عملت وقت اللي كان بلدك عم يحترق» والشخصيات قالت وفعلت فما الذي سنقوله نحن لأحفادنا وأولادنا قبلهم؟

 

شخصيات قلقة لكنها محورية

 

بائعة الورد «مريم» صبية في مقتبل العمر قذفتها تداعيات الأزمة السورية إلى شوارع بيروت لتبيع الورد متنقلة بين السيارات العابرة متحمّلة غلاظات المارة والعابرين بثياب الصبيان التي تخفي أنوثتها..

ورغم صغر سنّها حمّلها الكاتب تعابير وجملاً أكثر من طاقتها على التحمل صابغاً عليها صفات استثنائية تتسم بسعة المعرفة والاطلاع وصولاً إلى الحدس والفراسة.. وكأن نار الأزمة فتحت لها طاقة المعرفة عوضاً عن الألم النبيل رغم خطـّها الدرامي الذي مرّ بمراحل قاسية جداً فقدت فيها عائلتها ثم تعرضت للاغتصاب ما حوّلها إلى شخصية كرتونية ورقية (سوبر وومن) لا تتأثر بما يجري لها فخرجت أيضاً من دائرة التأثير في المتلقي وخسرت تعاطف المشاهدين معها ومع قضيتها..

رغم قدرة الممثلة التي لعبت الدور بحرفية عالية على التنقل بين مراحل تطور الشخصية إلا أن التصعيد اللغوي أفقدها الكثير من المرونة.. فبدت كأنها تتحدث بلسان الكاتب لا لسانها هي..

فلا يعقل أن ترفض صبية أن تتزوج برجل كبير لأن في ذلك خيانة لدماء أهلها وبالمقلب الآخر تتعامل مع اغتصابها وكأنه حدث عادي جداً مرّ مرور الكرام تحت ذريعة أن وجعها الشخصي يهون أمام أوجاع الوطن ورغم أن الكاتب حاول تبرير توازنها النفسي وسعة درايتها بأنها كانت (شاطرة بكتابة المواضيع الإنشائية) ومدرّسة اللغة العربية في مدرستها توقعت أن تصبح كاتبة قصصية.. إلا أن هذا التبرير بقي مجرد كلام إنشائي في سياق مبالغ فيه حدّ السأم.. ولم يشفع لها أنها الشخصية الأقرب إلى الأزمة السورية من باقي الشخصيات في العمل كمتظاهرة ثم كلاجئة..

راجي.. علبة الألوان كما سمته العائلة في صغره.. فنان تشكيلي طرقت الأزمة بابه وهو في مرسمه بضواحي دمشق على شكل صبية مطاردة تسقط ضحيّة مطارديها على باب مرسمه ويسيل دمها إلى الداخل أمام جبنه وعجزه عن مساعدتها.. مصادفة أيضاً تقذفه إلى بيروت وهناك عمل في الرسم التزييني لكسب قوت يومه.. بينما يحل كابوس الصبية القتيلة ضيفاً دائماً على بابه حرمه النوم وراحة البال وأدخله حالة العطالة الإبداعية.. إلى أن يلتقي «مريم» وهي تبيع الورد ثم تعرضها للاغتصاب وذهابها إلى حيث يقيم حيث وجدها مغمياً عليها أمام منزله..

وهنا تبدأ العلاقة الغرائبية إلى حد بين الاثنين صبية مطاردة ومقبلة على الحياة وفنان عاجز يعيش يومه بيومه فتبدأ قصة الحب الصامتة حتى مع عودة حبيبة القبل الدمشقية إلى عالمه بعد طلاقها من زوجها المؤيد (شبيح) وعودتها إلى بيروت لتمارس معارضتها للنظام.

يوسف إحدى أهم الشخصيات في العمل التي تسبح عكس التيار.. فبينما تدفع الأزمة أكثرية الشخصيات للهروب يقوم بالعودة إلى موطنه من أميركا حيث يتابع دراسته في الإخراج.. وبعيداً عن رأينا فيما قاله وما قام به من توثيق لما يجري على الأرض وصولاً إلى لقطة الختام المفترضة التي تحدث عنها الكثير والتي ترصد ما يقوم به القناص لحظة إطلاق رصاصته صوب (الضحية) أو حتى العدسة المصوبة إليه.. في إشارة بالغة الدلالة لدور الفن في الكشف والتعرية..

إلا أن إظهاره كهاوٍ يعمل منفرداً كان مطباً في التطور الدرامي لهذه الشخصية مهّد الطريق لكي يكون إنجازه الإبداعي «كنزاً» يصلح للمساومة في بازار الفضائيات وتجار الأزمة.. والدور الذي قام به ممثل شاب بكل إتقان وحرفية عالية خففت من حدّة الخطابية المعلنة في حواره.

ولا بد من الإشارة للدور الإيجابي لهذه الشخصية في انتشال الابنة الصغرى للعائلة من عالمها العفن الذي كانت تعيش فيه قبل الأزمة وأثناءها.. ولا بد من الإشارة أن الحل الذكي الذي يكرس أن الكاميرا تقاوم الرصاصة كما أن العين يمكنها أن تقاوم المخرز.. كان في النهاية المفتوحة على كل الاحتمالات للشخصيتين (يوسف) و(ميرا).

 

رأي

 

«سنعود بعد قليل» عمل جدي تناول قضيّة موجعة بأدوات بسيطة غير متكلفة وديكور مريح عكس جواً طبيعياً ما أفسح المجال لكي يتحرك الممثلون بخفة وليونة أمام عدسة كاميرا بطيئة متقنة بعيدة عن التصنّع والتهور الإبداعي فظهر الممثلون يتحدثون ويتحدثون ما قد يظنّه البعض عيباً ولكنه ضرورة المسلسل يتحدث عن أزمة ولا يعيشها أو يعايشها إلا من خلال حوارات الممثلين وقدرتهم الإبداعية على نقل الحالة التعبيرية وهنا لابد من الإشارة إلى أنه لا بطولة في العمل سوى للنصّ والكاميرا.. والمخرج استخدم أدواته بأقصى طاقتها لكي يخرج العمل كما رأيناه بهذه الجودة، ساهم في ذلك إلى حد كبير نخبة من الممثلين القديرين على المستويات ويستحقون أن ترفع القبعة لهم فرداً.. فرداً ولا نقلل هنا من أهمية الكادر الفني من إضاءة وإكسسوار وصوت وجهد متميز للمخرج.. الذين صنعوا البيئة الملائمة لكي تظهر الشخصيات من لحم ودم كما شاهدناها.. بعيداً عن رأينا فيما تتحدث عنه أو تقوم به من أفعال..

ولكل ذلك ولكل ما سبق لا يشكل العمل إضافة للدراما السورية فقط بل للعربية أيضاً في وقت راهن فيه الكثيرون على انهيار درامانا بسبب الأزمة وحتى قبلها..

 

الخلاصة

 

وخلاصة العمل تؤكد أننا نعيش أزمة يدفع ثمنها ويكتوي بنارها الفقراء والبسطاء ويحتار المثقفون في توصيفها وربما يتعاركون على الشاشات بلا خجل.. بينما يبيع ويشتري فيها تجار الدم ومافيا الأزمات.

 

ختاماً

 

من الطريف أن الممثلين القديرين دريد لحام وعادل إمام اللذين لم يلتقيا أبداً في عمل درامي واحد وهذه السنة جمعتهما ليالي رمضان الدرامية في عملين مختلفين لكنهما يتشابهان كثيراً.. وخاصة في مقومات الشخصية الرئيسية والموضوع.. فكما يتحدث «سنعود بعد قليل» عن تداعيات الأزمة على عائلة سورية تدفع الأب للقيام بجولة لزيارة أبنائه وربما وداعهم قبل الموت.. يتحدث العمل المصري «العراف» عن رجل «نصاب روبن هودي» يحاول استعادة عائلته ولم شملها قبل الموت.. وكأشقائهم السوريين لا يعرفون بعضهم رغم أنهم عاشوا معاً وجمعهم منزل واحد.. بينما المصريون لا يعرفون بعضهم سلفاً ويختلفون حسب البيئة والذهنية التي طبعت شخصياتهم بالكثير من النمطية والفعل الدرامي ينتهي بالأزمة المصرية على عكس السوري الذي يبتدأ بها..

ثمة الكثير من التشابه في العملين حجبته تفاصيل الخصوصية المحلية وبعض الحيل الإخراجية وهي تحتاج لوقفة متأنية للمقارنة والدراسة.