2012/07/04

دمشق تشرين الثقافي دراما سامر محمد إسماعيل شكّل المقترح البصري لحاتم علي في أعماله الاجتماعية هويةً مغايرة للمدينة السورية، مدينة ترسمها الكاميرا بتأنٍ لعائلة بدت في «الفصول الأربعة» وكأنها عائلة مصنوعة من الخزف، ألفة مدهونة بنعيم الكسل المنزلي، بعيدة كل البعد عن مشكلات العمل وفساده الوظيفي والإداري، صورة بيضاء تتناغم داخلها شخصيات مثالية عن الولاء للأسرة والاستمتاع بالنماذج الدخيلة على قصة عائلة تعيش هانئة في قلب العاصمة السورية، أسرة «مالك الجوربار»، بقايا البرجوازية التي أُقصيت في قراها السياحية الجديدة، مقابل أسرة «برهوم- أندريه سكاف» الشاعر الفقير، المثال الأكثر كاريكاتورية وتهكماً من شعراء يعيشون على موائد الأغنياء، فلول لنخبة البروليتاريا المحرومة والمضحوك عليها بالنظرية، فالشاعر في الفصول الأربعة مجرد مهنة لا تدر النقود، هذا الشاعر في نص كتبته «دلع الرحبي» سيكون أضحوكة ومدعاة للمسخرة رغم تخصيص مشاهد وحلقات لمأساته الفريدة..   هناك أيضاً أسرة «نجيب- بسام كوسا» الموظف في مصلحة الأرصاد الجوية، المثقف الفلكلوري الذي يعيش مع زوجته «ماجدة- مها المصري»، أنقاض الطبقة الوسطى، فقراء بلا قتامة، سعادة منشاة من الأمل، غيظ ونكايات هادئة ومضطرمة من مخملية «الجوربار» البراقة، تدعمها عشاءات وغذاءات لأفراد أسرة كبيرة تجتمع في بيت «الأب- خالد تاجا»، و«الأم- نبيلة النابلسي»، أبوان قادران على لم الشمل وفكفكة سوء الفهم بين أبنائهم مهما كان في أوجه، محبة لم يتركها «حاتم علي» على غاربها، ساعده في ذلك مثال عائلة المحامي «عادل- جمال سليمان» والمشكلات التي تتدخل أسرة «الفصول الأربعة» عبر قضايا محامي العائلة، والتي بدت كأنها مشكلات لعالمٍ آخر، افتراضية تلفزيونية غالت في تكوين مشهديتها الباذخة، لكنها كانت تعرف أنها تقدم المأمول، المتخيل عن مجتمع سوري يعيش جنباً إلى جنب بطبقاته ومشاربه المتعددة مع قليل من كوميديا الحقد الطبقي، عبرة في كل صورة عن لباقات وكياسات نفتقدها كبشر وصلنا تسعينيات القرن الفائت بلا أي شعور بالذنب، عادات كان «الفصول الأربعة» يهدينا إلى قيافتها.. عطلة نهاية الأسبوع، الذهاب إلى حفلات السينما والمسرح، الابتعاد عن الخرافي وشعوذاته المتأصلة في نفوسنا، صداقة الشاب والفتاة، صداقة الآباء والأبناء، النزوع إلى ضرب البطريركية في عقر دارها، الانفتاح على الآخر، التخلص من عقدة الأجنبي، تنوير تجنب الدواء المر، فلم يشأ الدخول في الواقعي وفجاجته، ساندته موسيقا قصور فيينا في كل مشهد كان حاتم يصوره على إيقاع كمنجات فيفالدي. طبعاً حظي المسلسل بنجاح كبير، فالذكاء بإدارة النصائح المُقدمة عبره الحكايات المتصلة المنفصلة داخل كادر ملفوف بكمانجات «طاهر ماملي» كان قادراً على تخطي عقباته الرقابية وحساسياته الاجتماعية، وصفة دقيقة للغاية بدأها «حاتم» بهدوء ودونما جلبة عن مشروعه المعادي لشتى أنواع الظلامية، إشارات كانت تنبعث برشاقة مرةً من خلال جمل واضحة لمتفرج محدد، وأخرى عبر تلميحات غاية في الجرأة لمُشاهد بملامح عامة لكنه يعرف نفسه جيداً.. حيث بدت عائلة الفصول الأربعة وكأنها تعيش وحدها في مدينة تستمع لسيمفونيات فيفالدي، وترفل بالوئام والدعة، لا ذئاب ولا غزلان، ولا غابة، إنما هو أقرب ما يكون إلى «شارع عشرون» في «افتح يا سمسم» شخصيات لطيفة وتروّح عن النفس، صراعات في سيناريو يحل حبكته على شكل أحجية أو مشكلة صغيرة، كزيارة إحدى الأسر المغربية لدمشق وبحثها عن أقربائها بمساعدة أسرة المسلسل، لنكتشف لاحقاً أن الرجل المغربي قاتل في حرب تشرين إلى جانب جنود الجيش السوري، وتعرض لإصابة في إحدى المعارك، تحديداً عندما أنقذه «نجيب- بسام كوسا» حاملاً صديقه الجريح من خلف خطوط العدو.. ثمة أيضاً حلقة غاية في الذكاء عن رحيل الشاعر «نزار قباني» والذي دمج فيها المخرج بين مشاهد حقيقية من جنازة الشاعر الراحل، وبين قصة حب تنشأ بين ابن مالك الجوربار وإحدى عاشقات الشعر القباني. لقد استفاد نص «الرحبي» من هذا اللعب الحر بين الواقعي الملطف والمعقم أحياناً، وبين الافتراضي الشفاف، فلم يكن المقصود تقديم النصائح الاجتماعية وحسب، بل الإطلالة على فرادة التنوع الأهلي من غير منغصات وبلا أي افتعال لأزمات عامة، كان يكفي الاشتغال على قصص خاصة بشخصيات المسلسل، يطل منها المُشاهد على دراما معافاة من الكدر والصراخ والزعيق. ‏   تابع «حاتم» فيما بعد صيغةً أكثر واقعية في رواية تلفزيونية أخذت شكلاً آخراً من الفرجة الأنيقة، ففي «أحلام كبيرة» استطاع أن يجد ضالته من غير الركون إلى مآثر العائلة وعظاتها، فالأسرة هنا تواجه ككيان مخاطر خارجية عديدة، والشخصيات أقرب إلى الواقع بكثير، لكن ما لم يتخل عنه صاحب الأحلام الكبيرة هو الرغبة في تقديم صورة محايدة، صورة غير فوتوكوبية عن مرارات نفسية وإنسانية تتراكم بمحاذاة مشاهد خاطفة للمدينة استخدمها «حاتم» للتأكيد على مصداقية شخصياته التلفزيونية، فهذه الشخصيات في «أحلام كبيرة» لا تعيش في واقع افتراضي، بل هي شخصيات حقيقية ملموسة عبر أزمات الحب والعمل وتحقيق الذات وصراع الناس على لقمة العيش، كل ذلك كان يجري وفق تراتبية صارمة للحدث، سياق أعمار الشخصيات ومصائرها المكتوبة، فالحب يذهب أدراج الرياح، والمرأة المحبوبة تصبح عبئاً ثقيلاً بعد أن تترك رسالتها الأخيرة قبل سفرها إلى أميركا، أما المرأة الزوجة فتموت أثناء الولادة، قصة فتنت لب «علي» وجعلته يقدم على تحويلها إلى فيلم سينمائي تحت عنوان «العشاق»، ليلتفت بعدها إلى «عصي الدمع» الذي خلص من خلاله إلى مفردات متقدمة في الرواية التلفزيونية المعاصرة، مفردات حاول هذه المرة أن يطوعها في مجابهة أكثر حدة لحساسيات غاية في الخطورة، حيث غيلان المال والبرجوازية المزيفة ومحدثي النعم، إضافةً إلى التعصب والتطرف، إلقاء نظرة على شريحة مموهة من شرائح المجتمع، محاولة فهمها ومناقشة أفكارها، ردتها غير المسبوقة إلى الاحتماء من المدنية بالتقيات المزيفة، مواجهة مرت بسلام، لم تناكف أحداً بقدر ما عرضت لظواهر خفية من حياة السوريين، لاسيما في معالجتها الناعمة والمستترة لأسباب الظاهرة، مع تدعيم ذلك بأصالة التعايش وتنزيهه عن كل البدع المارقة في الحياة الاجتماعية الصاعدة. لقد أدرك «علي» أن مشروعه بدأ بالازدهار والتأسيس صار ممكناً لإستراتيجية إنتاج لا يحتقر التلفزيوني، بل يعتبره أداة فعالة في البحث عن مزايا استثنائية لحياة الصورة الدرامية، روائية انقطعت أخبارها فيما بعد في «على طول الأيام» والذي لم يحقق نجاحاً كسابقيه من الأعمال التي حركها حاتم إلى ذروة المشهد الدرامي، لاسيما بعد انصرافه إلى التاريخي، وتحقيقه لنجاحات متتابعة في «الزير سالم» و«صقر قريش» و«ربيع غرناطة»، لنرى تلك التجربة على منعطفات المال الخليجي في «صراع على الرمال» نقلة عجيبة غريبة من التنويري إلى البداوة، بعد أن بلغت التجربة قمتها في وثيقة درامية كـ«التغريبة الفلسطينية»، لقد بات كل شيء على مفارق عدة، فمن جهة هناك ندرة في النصوص التي تيسر لكاميرا «علي» ما تريده، ومن جهةٍ أخرى هناك السوق التي اتسعت وازدهرت هي الأخرى، بعد أن استطاع المال أن يفرض المزاج والأفكار، لا ضير من التصدي لأعمال المشايخ، ولاحقاً يمكن التفكير في تصنيع البيئة البصرية لشتات من أفكار قبلية تتنكر باستمرار لأية محاولة في بناء مدينة عربية معاصرة بالمعنى الحقيقي للكلمة، حتى ولو كان ذلك من خلال الدراما، وبات سهلاً إلباس كل الأثواب البصرية المتقنة من غير ضرورة النص الذي أمسى في آخر سلّم الأولويات. ‏   بين التاريخي المشغول بحرفية عالية، وبين البدوي المصنع افتراضياً انسحبت مشاهد الشارع اليومي من التجربة الحاتمية، وبقيت أسيرة لمزاج البورصة النفطية، واكتفى «علي» بما قدمه ليفاجئ الجميع بعد غياب في مصر وشغله على فيلمي «الليل الطويل» و«سيلينا» بعودة إلى نسخة سورية مُعدة عن سلسلة مكسيكية من تسعين حلقة، تقوم شركة «صورة» بإنتاجها، وليأخذ حاتم علي دور المنتج المنفذ لمزاج السوق الذي هلل لتجربة التركي المدبلج، وكفى المؤمنين شر القتال، فبعد أن أُتيحت الفرصة أخيراً لقول كل شيء في سينما قطاع خاص يمتلك هامشاً معقولاً من الحرية والعطاء المادي، لم يعد مغرياً إلى حدٍ كبير تحميل الصورة التلفزيونية سوى وظيفة الترفيه، لم يعد شهياً أن نثقل على جمهور فتنه «وادي الذئاب» وأخبار المافيا وقصص غرام في اسطنبول بلهجة شامية، أما ما حاولته الكاميرا في الفصول والأحلام وعصي الدمع، فقد كان من قبيل تمشية الحال، لأن الصراخ في حفرة الدراما، أفضل من الصراخ على الملأ عن أذني الملك اللتين تشبهان أذني الغزال..