2012/07/04

طلال نصر الدين.. فارس نبيل ترجّل عن خشبة المسرح
طلال نصر الدين.. فارس نبيل ترجّل عن خشبة المسرح


أمينة عباس - البعث

لم يكن المسرحي طلال نصر الدين مجرد حالة مسرحية في مسرحنا السوري بل شكّل حالة مسرحية وإنسانية شديدة الخصوصية سيفتقد لها مسرحنا كثيراً بعد أن ودّع أوجاعه وأحلامه، وقد استحق لقب المناضل بكل جدارة، وهو الذي ظلّ يحارب حتى الرمق الأخير على جبهة المرض الذي ألمّ به منذ سنوات، وجبهة المسرح الذي لم يكن بالنسبة له إلا هاجساً تملّكه فعاش من أجله وقد صال وجال في فضاءاته تمثيلاً وإخراجاً وكتابةً، ولم يكن في كل هذه التجارب إلا المبدع المتمرد والمحرّض والرافض.

ولم يكن يهتم بأن يكون أولاً في أي من هذه الأنشطة لإيمانه بعدم وجود نظام تراتبي في الأنشطة الإبداعية، وكل ما كان يتمناه هو أن يكون له مكانه الذي يمكِّنه من أن يبدع فيه، لذلك حين قدّم تجربته الإخراجية المتميزة "حلم العقل" اعتقد البعض أنها التجربة الأولى له وفيها قدّم نفسه كمخرج في نص صعب وإشكالي، علماً أن إخراجه لهذه المسرحية كان مشروعه الإخراجي الثالث عملياً، حيث أخرج قبله "مأساة الملك كريستوف" كما شارك في إخراج "الدراويش يبحثون عن الحقيقة" مع فرقة شبيبة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ليكون "حلم العقل" مشروعه الإخراجي الأول في المسرح القومي، أما عن هاجسه ودوافعه لإخراجها فقد أشار ذات مرة وبكل صراحة إلى أنه كان قد قدم عدة مشاريع للإدارة المسرحية، ولأسباب لا يعرفها أسندت الإدارة إخراج هذه المسرحيات لمخرجين آخرين، فبدا له أن الأبواب تُقفَل في وجهه كمخرج، كما بدا له أنه تحول إلى قارئ نهم يرشح المشاريع الفنية ليُسنَد إخراجها لمخرجين آخرين

وحين وصل في كثير من اللحظات إلى حافة اليأس، خاصة وأنه لم تكن توجد مسارح قطاع خاص تقبل بمشاريعه انصرف لكتابة مسرحيته "نبوخذ نصّر" وبعد أن أتم الصياغة الأولى لها شرع بوضع مخطط لمسرحية "ارميا" كما أتم عدة فصول من رواية "دم شرقي" وكان قد قرر الانصراف نهائياً للكتابة والتمثيل عندما يُطرَح عليه دور ما يشجعه على ذلك، خاصة وأن مشروع الإخراج لمسارح الهواة والذي كان قد كرّس له سنوات من عمره هوى –برأيه- لمّا لم تعد هناك أية مؤسسة تقدم الحد الأدنى لإنتاج حتى مسرح هواة، وقد وصف تلك المرحلة بأنها مرحلة قلق وتخبّط وعزلة غير اختيارية له، إلا أن عودة الراحل فواز الساجر بعد حصوله على الدكتوراه بعث آمالاً طيبة بالعودة إلى العمل في المسرح فجاءت تجربة "القرى تصعد إلى القمر" التي وصفها نصر الدين بالمحبِطة للساجر وله.. وبعد فترة اطّلَع الساجر على مسرحيته "نبوخذ نصّر" وشرع في كتابة صيغتها النهائية إثر ملاحظاته، وكان أمله أن يخرجها الساجر شخصياً بعد مشروعه الثاني الذي يرغب بتقديمه وهو "العنبر رقم 6" إلا أن موت الساجر جاء مباغتاً، قاسياً ومؤلماً، ليس له فحسب بل لكل من عرف فواز الساجر .

ولأن مسرحية "حلم العقل" كانت صعبة وإشكالية وليست من النوع الذي يجتذب المخرجين لم تستطع الإدارة تكليف مخرج غيره لإخراجها، وقد تحمّس لها لتكون هدية ليس لفواز الساجر فحسب بل للمسرح عموماً .

المسرح أولاً وأخيراً

وما بين التمثيل والإخراج والكتابة المسرحية نتساءل : هل كان نصر الدين ممثلاً أم كاتباً أم مخرجاً؟ هنا يوضح في أحد حواراته أنه قبل دخوله الجامعة كان قد كتب مسرحيتين، إحداهما قُدِّمت على مسرح الشبيبة، والثانية ضاعت بين يديّ مخرج، وقبل أن يصبح طالباً حقوقياً عمل ممثلاً في فرقة المسرح الحر في مسرحيتين، ثم كانت دراسة المسرح ومن ثم التخرّج وإخراجه عدة مسرحيات للهواة، وكان نصر الدين يجزم أن مشروعه يكمن خلف هؤلاء جميعاً، وبعبارة أخرى قال ذات مرة : "إن مشروعي هو المسرح أولاً وأخيراً" ولم ينفِ أنه وفي كثير من المقابلات كان يظن نفسه هذا أو ذاك، إلا أنه كان يرجّح الكاتب على الاثنين غالباً، وربما كان هذا الترجيح بسبب الصعوبات التي واجهته كمخرج أو كممثل.

ومن المعروف أن الراحل طلال نصر الدين لم يكن ممن يدعون إلى نوع مسرحي بعينه، أو إلى شكل مسرحي محدد، ولو أنه شخصياً كان يميل إلى المسرح الواقعي انطلاقاً من إيمانه أن المسرح يجب أن يكون منفتحاً وقادراً على استيعاب التجارب المتعددة، ولكن ما كان يرغب به هو ما يرغب به الكثير من المسرحيين، وهو تجذير تقاليد مسرحية قادرة على الإنتاج، وبالتالي الفعل في الوعي والضمير الجمعيين، وهذا يستلزم بدوره الاهتمام الفعلي بالمسرح والمسرحيين وتقديم الحوافز لهم للعمل والسعي إعلامياً لجعلهم واحداً من المظاهر الثقافية الفاعلة في المجتمع .

الديك

وعلى الرغم من أنه قدّم أكثر من عمل في المسرح القومي بعد مسرحية "الديك" إلا أن هذه المسرحية تُعتَبَر الأبرز من بين مسرحياته برأي الكثيرين من خلال نص يدخل إلى وجدان إنساننا بطريقة لائقة، وتنبع خصوصيته من طرق تنفيذه بالدرجة الأولى، حيث قُيّض لهذا العمل فريق عمل وكادر فني جيد، فكان عملاً مثالياً بكل معنى الكلمة، وربما تكون قلّة عدد الممثلين لعبت دوراً في ذلك، وهو من الأعمال التي نضجت بهدوء، وما كان ناضجاً فيه بالدرجة الأولى أداء الممثلين، واعترف نصر الدين أنه لولا الممثلين لسقط العمل سقوطاً كبيراً، بدليل أن بعض المخرجين تناولوا النص في الجزائر والأردن ولم يلقَ الصدى نفسه .

أما في مسرحيته "موت عابر" فتطرق نصر الدين إلى بعض القضايا الاجتماعية حين دخل إلى مناطق حزام الفقر، وهذا ليس جديداً عليه لقناعته أن المسرح يتوجه من حيث الخطاب إلى الإنسان في الزمان والمكان، أي إلى شخوص الواقع، وإحدى مهام المسرح أن يتوجه إلى الواقع، ولكن ليس معنى ذلك أن يتخذ كل مفرداته، فهو قد يلجأ إلى الماضي والمستقبل المتخيَّل، ولكن ما يرغب به المسرح بالضرورة هو التأثير في الواقع بكل وسائله .

أما في مسرحيته "ملك الخواء" فقد خرج نصر الدين من أسر المكان التقليدي للعرض المسرحي إلى الفضاء المفتوح، مع أن البعض رأى أن هذا الإجراء كان شكلياً ولا تفرضه طبيعة المسرحية، كما انتقل في مسرحية "تشيخوف" إلى أجواء مختلفة عما اعتاده الجمهور منه، مع أنه رفض الإقرار بأنه انتقل فيها إلى عوالم مختلفة ليبيّن أن مسرحية "تشيخوف" تنتمي إلى الواقعية الجديدة، ولا يراها مختلفة كثيراً عن مسرحيته "الديك" مع الإشارة إلى أنه لا يفكر أن يمَدْرِسَ ما يكتبه، فهو لا يقرر عن سابق إصرار وتصميم وتخطيط أنه سيكتب عملاً رومانسياً مثلاً، وقد أوضح أنه أراد أن يقول من خلال "تشيخوف" أن هكذا واقع يطرد الناس الجيدين من حياتنا لأنه ليس تربة صالحة لازدهار المواهب والطاقات، وفي هكذا واقع علينا أن نقاتل القبح ليصبح عيشنا لائقاً بحدود دنيا.

المواهب المسرحية الخلاقة كالطفرة الوراثية

ومن المعروف أن معظم العروض المسرحية التي أخرجَها كانت عن نصوص كتبها بنفسه، وكان دائماً يبرر سبب لجوئه إلى الكتابة بعدم وجود نص قادر على التعبير عنه، والمشكلة برأيه كانت أن الساحة الثقافية المسرحية تفتقد للكتّاب المسرحيين، ومن كان يكتب للمسرح من أصحاب الطاقات الخلاقة والموهوبة تركه واتجه إلى التلفزيون، ولذلك كان يطالب باتخاذ إجراءات لوقف نزيف المواهب من المسرح باتجاه التلفزيون من خلال إعادة الاجتذاب للمسرح ووضع ضوابط بسيطة كتحديد جوائز معينة للمسرحيين المتميزين وتشجيع طباعة النص المسرحي والتخفيف من القيود عليه.. وعن قلة عدد الشغوفين والمهتمين بالمسرح كان يجد ذلك أمراً طبيعياً باعتبار أن المواهب المسرحية الخلاقة لا تتكرر، فهي كالطفرة الوراثية، وبالتالي فإنها تستلزم الكثير من الوقت والمخاضات الاجتماعية لتولد في حياتنا، فإما أن تزدهر أو لا .

إذاً فالموهبة المسرحية كما كان يؤكد نادرة واستثنائية، والأهم أن تجد هذه الموهبة التربة الصالحة لتنمو وتزدهر، وإن كان لا يعتقد أن هناك مجتمعاً خالياً من المواهب، ولكنه كان متأكداً بأنه ستظهر مواهب تلبي حاجات مسرحنا وهي تحتاج لرعاية ووضع خطط عمل مخدَّمة إنتاجياً، ودون ذلك فسيكون مصيرها التلفزيون الذي أغرى الجميع إلى درجة أن تواجد نصر الدين فيه كممثل كان اضطرارياً بعد أن أصبح معظم الممثلين مشغولين بالتلفزيون، وبعضهم يرفض أن يشتغل بشروط المسرح السائدة، وفي مسرحية "تشيخوف" دعا عدداً كبيراً من الممثلين ليؤدوا الشخصية التي أداها فرفضوا حتى استقرت الشخصية عنده ليتواجدَ مع مجموعة من الهواة، ولم يرَ في ذلك أي إحراج، خاصة وأنه عمل مع هواة بعضهم حصل على جوائز عديدة وكانوا بالمستوى اللائق .

لم يكن الراحل مع الذين يقولون إن دور المعهد العالي للفنون المسرحية يقتصر على تهيئة الظرف المناسب فقط وإنه غير مسؤول عن الحركة المسرحية، في حين كان يرى أن مهمة المعهد في جوهرها تقوم على تربية طلابه تربية تليق بأن يشكلوا حركة مسرحية، وأن مهمة المعهد ليست في تعليم التمثيل فقط لأن التمثيل كان قبل المعهد وكان الممثلون كافين لسد حاجة الحركة الفنية، وهؤلاء هم نجوم اليوم الذين يشتغلون بالطرائق ذاتها التي يشتغل بها الخريجون، والأمثلة على ذلك كثيرة، وبالتالي كان الراحل مؤمناً بأن وظيفة المعهد ليست فقط تعليم تقنيات التمثيل لأن هذا غير كافٍ، بل وظيفته أن يؤسس لحضور مسرحي في الوجدان الجمعي، وأن يطلق الشرارة والمبادرات والطاقات القادرة على امتهان المسرح وتعليم هؤلاء أولويات تفعيل أنفسهم مسرحياً، خاصة وأن المعهد ومنذ فترة طويلة أخذ يخرِّج ممثلين تلفزيونيين بعد أن تراجعت مهمته في تربية الموهوبين ليصبحوا ممثلي مسرح أولاً وقبل كل شيء، وهذا يعني أن المعهد تحول إلى معهد تمثيل وليس إلى معهد مسرح، وهذا فرق كبير لأن أي أستاذ أو مخرج يستطيع أن ينشئ معهداً لتعليم التمثيل، لذلك كان الراحل يعتقد أن على المعهد أن يعمل على إيجاد النواظم التي تخرجه من هذه الشرنقة .