2013/05/29

عبد المنعم عمايري فنان يعيد التكتيك إلى فوضى المسرح
عبد المنعم عمايري فنان يعيد التكتيك إلى فوضى المسرح


سامر محمد إسماعيل  - الوطن السورية

درس عبد المنعم المرحلة الابتدائية في مدرسة البرامكة بدمشق، وتعرف عن كثب عبر مكتبة والده مدرّس الفلسفة إلى ابن رشد والفارابي وماركس وعبد الناصر، حيث كان هوى الأب ناصرياً؛ ليقع بين يدي الفتى اليافع كتاب جان بول سارتر «الوجود والعدم» الذي هزه وجدانياً؛ وبما أن الفتى هو سر أبيه وجد الفتى نفسه مدفوعاً نحو حلم غامض يبرق بين رفوف مكتبة أب كان يصرف عليها كل مدخراته.

من هنا تأمل الشاب في عالمه المتخيل، معايشاً حارات الشام مع ترعرعه في حي البرامكة وانتقاله من مدرسة جودت الهاشمي إلى فايز منصور حيث أخذ شهادته الإعدادية ليدخل بعدها إلى ثانوية الأندلس ويواجه الأب من جديد، لكن هذه المرة كمدرس له في مادة الفلسفة. لم يخيب الابن أباه إذ نال شهادته الثانوية عام 1989 ليذهب نحو هاجسه الأول؛ مرسلاً أوراقه إلى جامعة بوخارست للحصول على منحة لدراسة الإخراج المسرحي، إلا أن انهيار نظام تشاوشيسكو واحتراق مكتبة الجامعة هناك حال بينه وبين حلمه، فما كان منه إلا أن يسجل في كلية الأدب العربي بجامعة دمشق.

مرة أخرى سيضجر الشاب العشريني من قتامة المناهج الدرسية ليرسل أوراقه هذه المرة إلى جامعة بيروت العربية لدراسة الحقوق، حيث ترفع إلى السنة الثانية. في هذا الوقت كان عبد المنعم يشارك في عروض المسرح الجامعي فقدم مسرحية «المؤامرة» لمخرجها أكرم تلاوي عن نص «فلاديمير لوكاتش»، مشاركاً في مهرجان حلب للمسرح الجامعي.

كان الشاب مواظباً على حلمه؛ يقدم لامتحانات القبول في قسم التمثيل بالمعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، إلا أن لجنة التحكيم لم تقبله إلا في السنة الثالثة من تقدمه، فبإصرار غريب للدخول إلى معهد التمثيل درس عمايري على يد خيرة من أساتذة المسرح في سورية، ليتخرج عام 1996 على يد أستاذه «غسان مسعود» في عرض «ريما» الذي أعده آنذاك الراحل «ممدوح عدوان» عن نص للشاعر الإسباني «فريديريكو غارسيا لوركا».

لم يصدق عبد المنعم أن الخمسة عشر مشهداً تلفزيونياً التي أعطاه إياها المخرج «هيثم حقي» كأول دور له بعد التخرج سيكون لها هذا التأثير في الجمهور، إذ قام بأداء شخصية «وفائي» في مسلسل «الثريا» عن نص للروائي الحلبي «نهاد سيريس» لكن ما لم يصدقه أيضاً هو أن النجاح في التلفزيون لم يكن يعني شيئاً لما يدور في كواليس الوسط الفني، فلم يتلق بعدها أي دور آخر لمدة أربع سنوات، ليتفرغ خلالها كمدرّس لمادة التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية؛ ويسافر بعدها إلى تونس لاتباع دورة هناك بإشراف المخرج المالي الكبير «بكاري سنجاري».

سحرت تونس عبد المنعم التي تعرّف فيها على التجربة المسرحية التي كانت في أوجها على يد «فاضل الجزيري» و«توفيق الجبالي» و«فاضل الجعايبي» أقانيم المسرح الجديد، إلا أن عمله مع «بكاري سنجاري» المساعد الأول للمخرج الإنكليزي الكبير «بيتر بروك» جعله أكثر قرباً من الحداثة المسرحية العربية، ليعود بعدها إلى دمشق محمّلاً برغبات فنية أخرى كان من الممكن أن تبعده عن التلفزيون لحساب مشروعه المسرحي، حيث اشتغل مع غسان مسعود في مسرحية «كسور» عن نص «الشقيقات الثلاث» لتشيخوف.

لم يحظَ بعدها بفرص كثيرة للظهور على الشاشة الصغيرة إلا بأدوار خاطفة لكنها كانت مؤثرة، هذه المرة في ذاكرة المشاهد السوري حيث أدى شخصية «رضا» في مسلسل «أسرار المدينة» عن نص للكاتبين نجيب نصير وحسن سامي يوسف وشخصية «عبادة» في مسلسل «ياقوت الحموي» إخراج «محمد فردوس أتاسي» إذ كان شغله المستمر على فنون الخشبة وكيمياء الممثل يأخذانه نادراً إلى فسحة الضوء التلفزيونية بأدوار وصفت حينها بالخاطفة لكنها كانت كافية ليحفظ الجمهور اسمه وطريقته في الأداء ووقوفه أمام الكاميرا بملامح مؤثرة لفتت إليه انتباه الكثيرين.

مرة أخرى يقف تحت إدارة «هيثم حقي» في مسلسل «ذكريات الزمن القادم»، لكن كيف استطاع عبد المنعم أن يحقق نجوميته؟ ربما كان إيمانه بمشروعه المسرحي يقف جنباً إلى جنب مع أدواره النوعية في التلفزيون، فتصديه لإخراج أول عمل مسرحي كتبه إثر تجربة شخصية مؤثرة كان كافياً للفوز بأدوار الصف الأول، بعدها كان الحب وكانت المرأة وكان عرض «صدى» لتنقلب أدوار الأستاذ والطالب بحكم ديمقراطية المسرح الذي كان وما يزال يحلم عمايري بإنجازها، هذه المرة كان «غسان مسعود» وإلى جانبه «سلافة معمار» تحت إدارة «عبد المنعم»، ليسافر بعد عرضه للجمهور السوري وبإقبال منقطع النظير إلى مهرجان قرطاج المسرحي ويأخذ هناك جائزة أفضل عرض جديد وجائزة أفضل ممثل لغسان مسعود.

هذا النجاح لم يأتِ من فراغ، فالحلم الذي ثابر منعم على كتابة أنفاسه كان نتيجة منطقية لعذابات متواصلة، مرةً في الحب، وأخرى عبر البحث المضني عن نافذة واحدة تخرج المسرح السوري من أشكاله المستعملة حد الاهتراء.

كان منعم يدرك منذ البداية أنه لا بد من تحديد وعي خاص بكل فن، فبالنسبة لأدواره التلفزيونية كان هناك حساسية تتعلق بصناعة اللقطة ورشاقتها، وعفويتها، أما في المسرح فكان يصر على نبض الشارع الذي يكتب عنه متحاشياً النبرة الأيديولوجية والانسياق نحو السياسي العابر، فعمايري من الممثلين السوريين القلائل الذين استطاعوا أن يوفقوا بين مسرح عال في جماليته وعمقه الفني من جهة، وأدوار شعبية استطاع أن يختفي خلفها بكل طاقته الوجدانية والمعرفية ليتابع بعد ذلك مشواره بتجربة مسرحية «فوضى» سيأخذ عليها أفضل عرض متكامل في مهرجان القاهرة التجريبي 2005 والجائزة الذهبية في مهرجان طهران للدول الإسلامية؛ حيث كان العرض الذي كتبه وأخرجه بمنزلة صدمة للجمهور وللمسرح السوري كان يعاني ركوداً على مستوى الشكل والموضوع مما يقدمه مخرجو المسرح القومي بعيداً عن أي مغامرة جمالية.

هذا كله سيساهم في تكوين ملامح نجم جديد يعيش من التلفزيون من أجل المسرح، دون أن يحتقر ما يقدمه لجمهور الشاشة، إذ ستشكل نجومية عبد المنعم ظاهرة خاصة يلتقي من خلالها جمهور النخبة المثقفة بجمهور التلفزيون العريض، وسيكون لزاماً على هذا الفنان المجتهد والقلق دائماً أن يكون ممثلاً حقيقياً رغم تصريحاته للمقربين منه بأنه سيعتزل التمثيل في التلفزيون في أقرب فرصة ممكنة، فالمعرفة التي كونها والتجارب التي عاشها يوماً بيوم تجعل منه موشوراً إنسانياً حقيقياً يعكس من خلال سطوحه المتباينة حساسيات مجتمعه، فلا ينقطع بعدها عن زيارة مكتبة يحيى التي تربى بين رفوفها وورقها الأصفر، مشكلاً بمشاركاته العديدة بعد ذلك ببطولة معظم الأعمال الدرامية السورية علامةً فارقة في فن الأداء، فعمايري المأخوذ بفن الصورة سيكون له بصمة جادة وبتواتر زمني متصاعد استطاع من خلاله أن يثبت ما يقوله عن فن التمثيل كأصعب مهنة صنفتها منظمة اليونيسكو بعد مهنة عمال المناجم، هذا الفهم سيتبعه بمشاريع أخرى يحاول من خلالها اليوم تحويل عروضه المسرحية إلى أفلام سينمائية وأعمال درامية وفق وصفة دراماتورجية تختص بنوعية كل فن على حدة.

مشروع العمايري لفن الخشبة السورية لم يتوقف عند مشاريع منعزلة، فكل مرة كان الرجل يصر على أن يقول لمنتقدي تجربته إن مشروعه الإبداعي يمتد على مساحة أكثر من عرض هذا ما يبدو واضحاً في مسرحيته «تكتيك2008» التي زاوج من خلالها بين أنماط متعددة من الفرجة، دامجاً بين الحكاية المسرحية من جهة، وبين سينوغرافيا باهظة يتحرك الممثلون تحت أضوائها ككائنات ترمز إلى قيم الفرجة الجديدة.

«سيليكون» عرض آخر سينتصر فيه لمسرح الكلام على مسرح اللغة-السلطة، دافعاً بهذا الكلام لإنتاج الفعل على الخشبة، جاهداً للتخلص نهائياً من وحدة الأسلوب الإخراجي، بل إلى صدام أساليب متعددة راهن من خلالها للخلاص إلى نموذج جديد لعروض تخرج طلبة التمثيل، واضعاً طلابه هذه المرة وجهاً لوجه مع التجريب على أعلى مستوياته، وذلك دون أن ننسى تجربته الوحيدة مع مسرح المونودراما في عرضه الخاص «جان جنين- سينوغرافيا الموت» التي أعدها عن نص جان جينيه الشهير «أربع ساعات في شاتيلا» حيث عمل العمايري في هذه التجربة وكعادته على تفجير الجسد وإطلاقه بتعاون فني لافت مع الراقصة السورية يارا عيد، من هنا لم يركن هذا الفنان إلى صياغة جاهزة، ولا إلى حواضر البيت، بل كان في كل مرة يفاجئ جمهوره المحتشد لحضوره بجماليات جديدة، لا تدعي حداثة الأدوات في الاستربتيز التكنولوجي؛ بقدر ما تراهن على الممثل وحيداً كسلطان على الخشبة لا شريك له..