2012/07/04

غابي لطيف: استوديو الإذاعة أكثر مكان يشعرني بالأمان
غابي لطيف: استوديو الإذاعة أكثر مكان يشعرني بالأمان

  الشرق الأوسط لا تكاد تمر سنة دون أن تقطف الإعلامية غابي لطيف ثمار الغرسة الطيبة التي زرعتها وتعهدتها بالرعاية من سنوات طوال، منذ أن أطلت على الجمهور من شاشة التلفزيون اللبناني وحتى وصولها إلى أسماع العرب جميعا من خلال راديو مونت كارلو. إن الجوائز ولفتات التكريم لا تخطئ طريقها حين تتوجه إلى غابي، الإذاعية المثابرة التي لم تتكئ يوما على أمجاد الماضي بل ما زالت تستعد لكل برنامج تقدمه كأنها تجلس وراء الميكرفون للمرة الأولى. قبل أيام، نالت غابي جائزة «سفيرة الإعلام العربي لدي الغرب» لعام 2010، وهي جائزة تقدمها هيئة استشارية في ملتقى الإعلام العربي للعاملين في وسائل الإعلام الأجنبية، ضمن الجوائز التي تكافئ عددا من الشخصيات العامة والمسؤولين المتميزين الذين أسهموا بأفكارهم واستراتيجياتهم وقراراتهم في تقديم صورة إعلامية إيجابية. لكن مفاجأة غابي لطيف لهذا العام هي الكتاب الذي يصدر هذا الأسبوع وفيه تستعيد المذيعة والمحاورة المتألقة ذكرياتها وحواراتها مع مجموعة كبيرة من الأسماء اللامعة التي حل أصحابها ضيوفا على برامجها. وفي حديثها لـ«الشرق الأوسط» من مقر إقامتها في باريس، لم تخف المؤلفة أن من المهمات الصعبة التي صادفتها، عند تحضيرها للكتاب، مسألة اختيار الشخصيات التي ستشكّل المجموعة الأولى لإصدارها الأول، فهي خلال عملها الإذاعي حاورت الكثير من المبدعين الفاعلين على الساحة الثقافية والسياسية والفنية. إلى نص الحوار: * ما محاور مشروع «بيروت عاصمة عالمية للكتاب»؟ - مشروع «بيروت عاصمة عالمية للكتاب» فرض نفسه، فوقع الاختيار، بالتشاور مع رشا الأمير مديرة دار «الجديد للنشر»، على محاور أربعة يتجاور فيها رجال الدين مع رجال الفكر والشعر والفن. ولا شك أن تلك المقابلات كانت، في الماضي، جسرا ربطني بلبنان الحبيب وبالشرق الذي أتيته من الغرب ومن إذاعة مونت كارلو. وهي اليوم خيط من معدن ثمين يربطني مجددا بمديني بيروت. فهذا الكتاب ورموزه شهود على قرن عبر، كان يشارف على نهايته في انتظار الألفية الأولى. أما ما يكمن وراء الكلمات، خلف الوجوه والأصوات، وما هو أبعد من الزمان والمكان، فأسئلة أترك للقارئ ملء الحرية في أن يقرأها بين الإجابات ويتوقف عند مقاربة تلك الشخصيات للأوضاع السياسية والثقافية والإنسانية التي عاصرتها. * لكل إعلامي أسلوبه في استخلاص أفضل ما لدى ضيفه من أفكار ومعلومات، وسواء كان الأسلوب هجوميا مستفزا أو هادئا يستدرج الضيف إلى أن يفتح قلبه، كيف توصلت غابي لطيف إلى طريقتها الخاصة؟ - أنا أنتمي إلى مدرسة «الزمن الجميل»، وأراهن على عامل الثقة الذي أعتبره العنصر الأساسي في هذا النوع من المقابلات. وأنا أفهم الحوار الإذاعي على أنه لقاء تفاعلي، إنساني وفكري، يجري بين شخصين. ولا تُبنى هذه الثقة إلا على المعرفة. ومن البديهي أن يلم الصحافي بتفاصيل حياة وإنجازات هذه الضيف أو ذاك. ولاستخراج المعدن الخام، لا بد من الاسترسال في عالمه. فعندها يلتقط هو إشارات العين والتعجب والتشجيع والإصرار. ويحدث أن ألجأ إلى سؤال صامت، بعد الإجابة التقليدية، لا يصل إلى أذن المستمع، لكن الضيف يلتقطه وينتبه إلى أنه لم يُرضِ فضولي، فيتابع السرد حتى لحظة الحقيقة. وهنا أسمح لنفسي بالقول إن عصارة التجربة لا تأتي في بداية اللقاء، بل غالبا ما تظهر في نهايته. وأذكر أن الملحن الفنان زياد الرحباني قال لي في نهاية اللقاء: «هيدي مقابلة أو تحقيق؟». * بعد أن برز اسم غابي لطيف في بلدها، اضطرتها الحرب إلى الانتقال من بيروت إلى باريس، كيف تصفين عبورك من الشاشة إلى المذياع ومن لبنان الجريح إلى باريس عاصمة النور؟ - تركتُ لبنان مبللة بالحزن على بلد يحترق وعلى مهنة أحببتها وأحبتني. وكان لا بد لي من أن أصنع قدري في البلد الغريب. ومن عمق المعاناة الطويلة مع التأقلم ومع الهوية الجديدة وأسلوب العمل المختلف، كانت دروب طويلة من الدموع والعذابات المشروعة في حياة كل مقيم على أرض جديدة. من إذاعة مونت كارلو انطلق صوت غابي، دون صورتها الصبوح، ليتواصل مع المستمعين في البلاد العربية بلغة أنيقة لا تمنح مفاتيحها لأي شخص كان. ومَن عمل مع غابي أو حل ضيفا عليها، يدهش للشخصية المهنية المتمكنة التي تتلبسها حال اشتعال الزر الأحمر في الميكرفون، كأن هذه المرأة خُلقت لهذا العمل، لا لغيره. وعما أعطتها إياه إذاعة مونت كارلو الدولية تقول: «لقد فتحت لي أبواب المعرفة والتواصل، فأعددت وقدمت البرامج التي كنت أرنو إلى تقديمها على الشاشة في لبنان، لو لم يحدث ما حدث. فعقارب القدر توقفت عند إقامتي الباريسية لعقدين ونيف، تقريبا، حيث تفاعلت مع هذه الإذاعة العريقة التي كانت تستهويني كمستمعة. ولما جئت إليها بأحلامي منحتني فرصة تحقيقها، فمنحتها بالمقابل خبرتي وحساسيتي التلفزيونية/الإذاعية في زمن كان لبنان يحتل فيه بؤرة العمل الإعلامي العربي. إنها الإذاعة التي فتحت جسور التواصل بين العالم العربي وأوروبا، وهي مدرسة أثرت في المشهد الإعلامي العربي كما تدرب على أسلوبها وتأثر بها عدد كبير من الإعلاميين العرب». * ماذا تتذكر رائدة العمل التلفزيوني غابي لطيف عن الإمكانيات التقنية لفترة بداياتها. وكيف كان المذيع أو مقدم البرامج يعمل ضمن تلك الحدود؟ - لعل الجيل الجديد من أبنائنا لا يدرك أن البث الفضائي لم يكن متاحا في تلك الفترة، وكان تلفزيون لبنان هو الشاشة الوحيدة في الأجواء اللبنانية، مثلما هي الحال مع محطات التلفزيون المحلية في الدول العربية الأخرى. وتتذكر غابي التلفزيون الذي كان بالأبيض والأسود، وتتذكر أيضا أنها قدمت أول البرامج التلفزيونية بالألوان مع زميلتها القديرة نهى الخطيب سعادة، عام 1974، فعاشت تلك النقلة التاريخية التي تغير فيها وجه الشاشة. وتضيف: «من المفارقات، أنني كنت، ولكسر حاجز الخوف من هول القصف والراجمات والقنابل، أطلب أحيانا من الطاقم التقني أن يقوم بالتلويح بيديه أمام ناظري كي تنفك أسناني وتنفرج لشدة ما كنت أشعر بالتشنج، فأنا لم أنعم إلا بسنتين من السلام في بداياتي التلفزيونية، وبعدها اندلعت الحرب عام 1975، ومعها بدأت مأساة العاملين في القطاع الإعلامي الذين كان عليهم كسر جدار الخوف والخروج من ملاجئهم للالتحاق بالعمل والإيحاء إلى المواطن اللبناني بأن كل شيء سيكون على ما يرام. لقد كانت تلك الفترة التي دامت أحد عشر عاما نوعا من الثنائية الانفصامية التي أمضيتها بين البسمة والقلق، بين الخوف والتظاهر بعدم الخوف. وهي مرحلة قاسية تركت آثارها على الكثير من أبناء جيلي وعلى الكثير من عائلاتهم، كنا خلالها نتأرجح بين الهلع وبوارق الأمل التي كنا نتمسك بها مرارا. حتى إن إحدى الرصاصات لامست رأسي وأنا أدخل ذات يوم مبنى التلفزيون في الحازمية، فتكسر الزجاج بعد أن مررت أمامه وأغفلني قطار الموت». وفي خضم تلك الأجواء تدربت غابي لطيف وتدرجت مع أصحاب الخبرة في عالم التلفزيون. وقد أكسبتها الشاشة هوية اجتماعية لاءمت شخصيتها، لكنها تصر على التأكيد بأن جذورها العميقة كانت وما زالت في تعلقها بالأدب وبالأجواء الثقافية بأشكالها المتعددة، مع حاجتها المستمرة لأن تعيش التفاعل مع الأحداث وصانعيها. وهو ما مارسته، لاحقا، في باريس بعد بيروت. * كيف تشعرين في أثناء البرامج المباشرة التي تبث على الهواء، ويحدث أن يتأخر أحد الضيوف على الموعد؟ - من البرامج المباشرة التي استمتعت بتقديمها «الطاولة المستديرة» التي أدرتها في «المقهى الأدبي» لمعهد العالم العربي في باريس. وكانت اللقاءات مباشرة على الهواء، عالجت فيها موضوعات ثقافية تشكل جزءا من المشهد الثقافي الفرنسي بالإجمال. أما بالنسبة إلى البرامج المسجلة، فهي أسهل من ناحية التنفيذ، لأن إمكانية التكرار أو الإعادة متاحة والأخطاء تخضع للمقص في المونتاج والإخراج، إضافة إلى أنها تسمح بمسح التكرار وضبط الإيقاع. ومع التجربة، لم أعد أتهيب من المقابلات المباشرة، واعترف بأنني عندما أجلس في الاستوديو لا يخطر في بالي أي شيء ولا تحضر صورة أي من المستمعين، بل أترك العنان لسجيتي ولعقلي الباطن وللمخزون الذي أحمله في ثنايا روحي. وتتلبسني تلك الحالة التي أصفها بأنني «أدخل في انخطاف أو في نيرفانا اسمها اللحظة، ويتبدد حولها كل شيء في داخلي ما عدا ذلك الضيف الذي أشاركه رقصة التانغو». * مع وفرة الإذاعات والمذيعات ومقدمات البرامج اليوم، هل تشعر غابي لطيف بأنها متفوقة لأنها إعلامية «ذات ماضٍ» ثري؟ - لم أشعر يوما بالتفوق، بل على العكس، يراودني الإحساس بأني لم أنجز ما كنت أطمح إليه. ففي مرحلة أول الشباب كانت أحلامي تتمحور حول الكتابة والدراسة في مجالَي الفلسفة وعلم النفس. ولعل هذا المنحى طغى على أسلوبي في الحوارات الإذاعية. فما يهمني هو الطريق الذي سلكه ضيفي للوصول إلى ما وصل إليه. إن التجربة الإنسانية هي الأساس. أما الماضي فأراه ثريا بالتأكيد، لكن هذا الثراء لا بد أن يلقي بظلاله على صاحبه، فيلجأ إلى المقارنة وإلى استذكار مرحلة ولّت دونما رجعة. وتضيف: «كان لي الحظ أن أكون جزءا من المشهد الإعلامي اللبناني في فترة الزمن الجميل. وما يعزّيني هو أني استطعت أن أضيف لمسات من الحداثة على المشهد الإعلامي من ناحية الأسلوب المحكي والمشهدي». * أين يكمن سرها؟ في الموهبة، الخبرة، الاستعداد الجيد، أم في الصوت الحسن؟ لا شك أن اجتماع كل هذه الأمور صنع هذه المرأة ذات الابتسامة الشقراء التي تشعر بأن استوديو الإذاعة بيتها والمكان الأكثر أمانا بالنسبة إليها. ومن يعرفها يدرك أنها ضحت بالكثير في سبيل مهنتها التي هي حبها الأكبر. لذلك ترى من الصعب رسم حدود هذه «المهنة الفاضلة» أو تفسير تأثيرها في الناس. وتختم بوحها بعبارة فلسفية: «السر يكمن في عدم تحديد الأسرار وإلا فقد السر سحره».