2012/07/04

«مرة أخرى»يعيد الروح إلى السينما السورية
«مرة أخرى»يعيد الروح إلى السينما السورية

ماهر عزام - الثورة ابن ضابط سابق في الجيش العربي السوري العامل في لبنان، يحب امرأة لبنانية عاملة في بنك جديد في دمشق، قبيل اعتداء تموز 2006 وبعيد خروج الجيش العربي السوري من لبنان... هل يمكن إنجاز فيلم سينمائي وسط كل تلك الألغام؟‏ هذا ما يحاول المخرج جود سعيد أن يجيب عنه في فيلمه الروائي الأول الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما بالاشتراك مع شركة سورية الدولية، وحصل على جائزتين في مهرجان دمشق السينمائي السابع عشر، كأفضل فيلم عربي، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة. ومؤخراً بدأت عروضه الجماهيرية في أربع صالات بأربع محافظات دفعة واحدة «دمشق، حلب، اللاذقية، حمص»، وهي المرة الأولى التي يتم تسويق فيلم السوري بهذا الزخم، خاصة وأن الفيلم لم يمض على الانتهاء منه سوى بضعة أشهر. إنها حالة من إعادة الفيلم السوري إلى الحياة الثقافية والفنية والجماهيرية. نأمل أن تتبعها خطوات مماثلة، بحيث يصبح الفيلم السوري جزءاً حقيقياً من حياة الناس.‏ يبني المؤلف والمخرج جود سعيد «خريج أكاديمية لوميير للسينما- فرنسا» عمله في هذا الفيلم على مستويين من الحكاية؛ الأول: المروي عبر الأحداث والآخر المتواري خلف الصورة، وهي أسلوبية سينمائية امتاز بها الفيلم السوري الذي يريد أن يقول دون أن يتورط في التصريح، وهي ميزة لم تدرس تحليلياً حتى الآن على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والفني خلال مسيرة السينما في سورية.‏ أدوات تشويقية جديدة‏ سردياً يسير الفيلم في خطين متباعدين في الزمن، الأول هو الطفل، والثاني هو الشاب وقد أصبح مهندس معلوماتية؛‏ في المستوى الأول.. نتابع تفاصيل حياة الأب الضابط وعناصره وعائلته التي تذهب فيها زوجه ضحية قنص كان يستهدفه شخصياً، فيعيش الابن «مجد» في المحيط العسكري للأب الذي أوكل رعايته لأحد المساعدين، فيسليه ويلاعبه في بيئة تملأ تفاصيلها الأسلحة، والتي يكون نتيجتها عبث الابن بأحد تلك الأسلحة، فيصاب بطلق ناري يرقد على أثره فاقداً الوعي في مشفى للراهبات في لبنان لسنوات، ولا يصحو إلا عندما يسمع حركة مسدس فوق رأسه وكأنه يحيا بالأسلحة. وهذا ما نلحظه عندما يكبر ويصبح مهندساً للمعلوماتية في بنك خاص، حيث نراه يمارس هواية ألعاب الفيديو القائمة على القنص، وكأنه أدمن الأسلحة؛ لكن هذه المرة أسلحة افتراضية، وهو مسار معاكس للواقع، إذ يبدأ الأطفال بإدمان الأسلحة الافتراضية وينتهي بهم الأمر إلى أن يستخدموا الأسلحة الحقيقية. وفي هذه المسيرة المعكوسة يريد أن يقول المخرج بأن الحياة رغم ما يمكن أن تنشئ الفرد عليه إلا أنها تملك فرصة أن يرفضها الإنسان، ويختار البدائل الأقل ضرراً على النفس وعلى الآخرين.‏ قارن.. ثم قارن.. ثم قارن تستمتع بالسينما أكثر‏ التداخل بين زمنين يسير منذ اللحظة الأولى للفيلم، الأمر الذي يربك المتلقي، لكن سرعان ما تتضح الصورة لتتحول هذه التقنية المتوازية سردياً إلى تقنية تشويقية. والأهم من ذلك أنها تقنية ذات بعد دلالي في الفيلم، حيث يؤسس جود سعيد فيلمه على ثنائية مفتاحية يمكن أن نطلق عليها ثنائية المقارنة، إذ لا ينفك المتلقي يجري المقارنات طيلة الفيلم، وهي التي ستقوده إلى العيش في أدق تفاصيل العمل، ومن هذه المقارنات:‏ «بين حياة العسكريين الحقيقية في أبنية مؤقتة ومتقشفة بلبنان، وبين الوهم بالترف الذي يتوقع المرء أنهم يعيشونه.‏ المقارنة بين حياة المرأة اللبنانية وحياتها الجديدة في دمشق.‏ المقارنة بين حقيقة وجود الجيش السوري وتصورات اللبنانيين عن هذا الجيش وأبنائه...».‏ ما الهدف من كل تلك‏ المقارنات المضمرة والمعلنة؟‏ هذا الفيلم بأسلوبيته تلك يجعل وعي المشاهد حاضراً طيلة الساعة والنصف زمن الفيلم، وهي حالة تهدف إلى أن يعيد المتلقي سرد الفيلم داخله محاولاً الإجابة عن تلك المقارنات، وبالتالي يدخل الفيلم بكل تفاصيله في عمق الذاكرة ويلعب بها كل على طريقته. وهذا لم يرق للبعض، فخرج من الفيلم نافراً من أسلوب المعالجة المهجوس بخلق مبررات لكل فعل، وكأن همّ الفيلم تصحيح الكثير من الآراء المسبقة لدى غير السوريين، ما أوحى بأن جمهور الفيلم الافتراضي ليس المشاهد السوري، إنما اللبناني، فوجهة الخطاب تذهب نحو هدف غير محلي، هدف يخص الزمن والتاريخ.‏ المتلقي لفيلم «مرة أخرى» صدم برؤيا باردة لموضوع إشكالي وحار في وجدان الناس.. جود سعيد يحول فيلمه هذا إلى مطرقة في وجه الجميع، لأنه لا يريد للماضي أن يأكل المستقبل. يقول للجميع لنجعل من الحب بابنا للغد، فهو أحد الأبواب النبيلة للخروج من الماضي بكل حساسياته القاتلة... وهو إذ يقول ذلك، إنما يحاول أن يكون صورة عن رؤيا الجيل الجديد ليس في السينما السورية وحسب، إنما في الحياة.‏ المقارنات الكثيرة تفتح الفيلم على ما هو خارجه، وهذا يعني أن الفيلم لا يمكن أن يقرأ إلا وفق سياق تاريخي مرتبط بما جرى خلال زمني الفيلم من أحداث.. ولعل في ترك المخرج الفيلم مفتوحاً، يؤكد تماسك أسلوبية المخرج التي لا تفتح الأسئلة من جهة وتغلقها من جهة أخرى.‏ ينتهي الفيلم بحوار أجساد على جسر معلق على الحدود بين سورية ولبنان أثناء محاولة إعادة السيدة اللبنانية وأختها إلى أهلهم في بيروت أثناء اعتداء تموز.. هذه النهاية المفتوحة ذات الدلالة الفكرية والبصرية هي رؤيا تحريضية للمتلقي لأن يبدأ قراءة الفيلم من هذا المشهد، فالجسر عادة للتواصل أما في فيلم «مرة أخرى» فجعله متأرجحاً بين مكانين وبين رؤيتين إحداها حقيقية هي مجد، والأخرى مليئة بالمواقف المسبقة والواهمة هي الأرملة اللبنانية جويس.‏ اختار جود سعيد لفيلم عن الحرب والعسكر والأسلحة موضوعاً مناقضاً هو الحب، وهي معادلة فيها الكثير من المجازفة في فيلم أول، إلا أن وضوح الرؤيا جعل من الأمر ميزة لصالح الفيلم، فأي المحورين هو الأساس أو صاحب البنية المهيمنة في الفيلم.. الحرب أم الحب؟ أسئلة تُطرح على امتداد الفيلم، فأيهما يلتهم الآخر أو يقصيه؟‏ دراسة متأنية لمصائر الأحداث تكشف لنا أن الحرب هي التي تقصي الحب وتنحيه، لكن دراسة مسار ومصائر الشخصيات تؤكد عكس ذلك، وانطلاقاً من مقولة أن الحدث منته وثابت في الزمن، وأن الأشخاص هم المتحول، نصل إلى أن المستقبل هو للأشخاص وللحب. وهذا ما يريد جود سعيد التأكيد عليه، لكن بما أننا أمام فن سينمائي فكيف استخدم المخرج أدواته للتأثير على المتلقي؟‏ رغم أن الفيلم يعرض للحرب وما تستتبعه من قتل، ولنتذكر أن العرب كانت تسمي الحرب: الكريهة.. إلا أن ما شاهدناه هو أن السوري كان ضحية القتل في أكثر من مشهد، بدءاً من قنص زوجة الضابط الأب مروراً بإصابة الأب نفسه، مروراً بعمران تلميذ الضابط الأب المطلوب منه أن يحمل على عاتقه مهام الدفاع في الجيل التالي، إلا أننا نرى كيف أصيب وبترت ساقه في صراع مع المهربين.‏ المعادل البصري‏ بما أن الفيلم قائم على فكرة الثنائيات والمقارنة، كان يمكن اعتماد التمايز البصري- اللوني مثلاً- داخل الكادر بين زمني السرد! لكنها طريقة بدائية ومستهلكة واتكالية، لم يلجأ إليها المخرج، إنما ترك الزمنين دون تمييز على مستوى الصورة، وهي من الأدوات الأسلوبية المميزة لخلق التشويق وبناء الإيقاع الخفي للفيلم.‏ الكادر مبني بصرياً بدقة، لكن بسيط وشديد الاقتصاد كما يبدو للوهلة الأولى، إلا أنه مكثف ويحتمل أبعاداً دلالية على شكل طبقات، فالأمكنة العسكرية وتوزع الإضاءة مدروس بشكل يعطي إحساساً للمشاهد بأن هذه الأبنية مؤقتة وعلى الهيكل ومتناقضة مع سحر الطبيعة في لبنان. وفي دمشق أبرز الحياة المدنية المعاصرة من بنوك ومسابح وديسكو، مروراً باللباس والشوارع، وصولاً إلى قطع الديكور والأثاث الحديثة في كل الأمكنة، فتأثيث المكان يعطي للتأويل بعداً إضافياً. هذه البنية البصرية المتساوقة مع طبيعة الشخصيات والأحداث، تؤكد أن المخرج لديه القدرة والموهبة على ضبط كادره بأسلوبية متقنة.‏ الممثل حامل الجمال والعبء‏ قدم لنا جود سعيد في هذا الفيلم عدداً من الوجوه، بطريقة لا يمكن إلا أن تعترف بجدتها، فمهندس الصوت جوني كوموفيتش قدم شخصية الضابط الأب بكل توازنه وثقته بأهمية الدور العسكري في حياة الأسرة، هذا الدور المنذور للتضحية على امتداد الحياة وصولاً إلى نهايته على طريقة الساموراي.. الموت هو أقل وأسهل الخسائر في حياة المقاتلين في سبيل الجميع.‏ عبد اللطيف عبد الحميد في دور المساعد الحاضن للابن، هو الحاضن لبذرة الحياة قدمها عبد الحميد بكل شغف وانضباط، وقد ساهم أداؤه في تعميق مفهوم الأبوة غير الطبيعية المتغلغلة في نسيج الفيلم عبر أكثر من محور وأكثر من شخصية، أداء صادر عن حرفة وحب وصل بمهارة وحب.‏ ويؤكد الممثل قيس الشيخ نجيب قدرته المميزة في توظيف أدواته لمنح الدور ما يستحق من حياة. أما الممثل عبد الحكيم قطيفان، فيبدو أنه دخل منطقة التنميط، وهذه عتبة التقدم نحو الخلف، بينما يملك قطيفان ما يجعله أفضل من ذلك بكثير. في حين لم تضف الممثلة اللبنانية بياريت قطريب أي بعد إضافي على الدور.‏ أخيراً: فيلم مرة أخرى يمنح مشاهده الكثير من التحريض للتفكر في الماضي والمستقبل، بقدر ما يمنحه فسحة أمل جديدة في الجيل القادم للسينما في سورية. وهذه خطوة تحسب للمؤسسة العامة للسينما، وهي تتبنى الأصوات الشابة في الإبداع، وتعرف كيف تعطيهم فرصة لأن يؤكدوا أهميتهم، وهذا يذكرنا بكل العلامات الفارقة في مسيرة السينما في سورية، والتي لم تكن لتغدو علامات فارقة لو لم تمنح الفرصة الأولى ليعبروا عن أنفسهم.‏