2012/07/04

شكري الريان أن تستعيد ولو جزءا من ذكريات زمن مضى، كان فيه المهرجان مهرجانا فعلا، فهذه أمنية لم نيأس من تحققها بعد. وربما ما حدث مساء يوم الخميس السادس من نوفمبر/تشرين الثاني، وبعد العرض الأول للفيلم السوري "مرة أخرى"، وهو الروائي الثاني من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، كان نوع من الدعم النفسي لأولئك اللذين ما زالوا يقاومون اليأس.. واحتمالات الموت خنقا بالشعارات، حتى ولو أتى من بوابات الجنة.. مجد (قيس الشيخ نجيب، مجد بعد أن يصبح رجلا، وبأداء مميز جدا) طفل نشأ في ثكنة عسكرية.. هكذا يبدأ الفيلم مع طفل فقد أمه برصاصة قناص على طريق بيروت، وهي تصطحبه للعلاج هناك. ولا يجد الأب (جوني كوموفيتش) الضابط السوري العامل في لبنان في ذلك الوقت، لا يجد حلا إلى بتقسيم عالم ابنه إلى قسمين. الأول في مدرسة تابعة لدير للراهبات، خلال أيام الدراسة. والثاني في ثكنته العسكرية وبين جنوده، خلال العطل. وبين هذين العالمين وما فيهما من تناقض ينشأ مجد متكئا على حب أبو سعيد (المتألق عبد اللطيف عبد الحميد)، وهو مساعد لأبيه وجزء من أسرته ومن المشهد الأول الأكثر حميمية في الفيلم، الذي لا يهتم كاتبه ومخرجه (جود سعيد) بتوضيح طبيعة العلاقة التي تربط أبو سعيد بأسرة مجد، وهي، أي العلاقة، تفصح عن نفسها حبا من اللحظة الأولى إلى نهاية الفيلم، وهذا كاف لنعرف من هو أبو سعيد.. ولكن حب أبو سعيد وحده لا يكفي طفلا بحاجة إلى أمه مهما كان عالمه منوعا ومختلفا عن العالم الطبيعي للأطفال. ففي نهاية الأمر هو عالم للكبار وفيه من "الألعاب" ما هو خطير على جميع أنواع الأطفال.. ويحدث مما ليس من حدوثه بد.. يصيب الطفل نفسه بطلقة في الرأس، وهو يلعب ببندقية منسية في سيارة، ويبقى في غيبوبة ثلاث سنوات ليخرج منها معافى إلا من فقدان ذاكرة. وأيضا لا يهتم جود سعيد في أن يوضح لنا إن كان مجد (الكبير) قد شفي فعلا، أم أعاد تشكيل ذاكرته لاحقا بشكل إرادي انعكس فيما بعد على سلوك بدى في معظمه غريبا وغير مفهوم، وإن لم تنقصه الجاذبية (نعود إلى أداء قيس المميز فعلا).. يكمل الفتى طريقه حسب المتوقع منه، وهو المتفوق دراسيا منذ البداية. ولكن وخلال مرحلة التطور السريع يموت الأب، ليظهر لمجد أب جديد. أبو لؤي (عبد الحكيم قطيفان) وهو ضابط زميل للأب وعمل تحت إمرته، وإن اختلف معه حول رؤيته لمفهوم أن يكون المرء جنديا. لنرى لاحقا توضيحا لهذا الخلاف فيما آلت إليه أحوال أبو لؤي وبعد نهاية الخدمة. إذ يصبح رجل أعمال مرموق وبنفوذ كبير. وإن بقي الدخول إلى دائرة "النفوذ" أمرا محفوفا بالغموض الدائم عند جود، إلا أنه في دائرة "الحب" بقي واضحا وصريحا وحتى خانقا أحيانا كثيرة وعلى طريقة أبو لؤي الآمرة التي لا تترك شاردة وواردة في حياة مجد الشاب والرجل فيما بعد، دون التدخل فيها ومحاولة تقويمها حسب رؤية أبو لؤي، الذي وبالرغم من كل غموضه يبقى واضحا في شيء واحد.. ليس له إلا مجد، وبالتالي على الأخير أن يحتمل عبئ حب لم يطلبه يوما... تسير الحياة كما هو متوقع منها هذه المرة، شاب مترف ولا مشاكل لديه من أي نوع، حتى جنسيا.. وهو من هذه الناحية عنده وفرة فائضة عن الحد، ككل شيء محيط به، باستثناء ذاك الحب الذي لا يمكن لأبي سعيد وحده أن يعطيه كفايته منه.. إلى أن تظهر جويس (بياريت قطريب ) في حياة صاحبنا مجد. وجويس هي المديرة اللبنانية لفرع البنك الذي يعمل فيه مجد بصفته مسؤولا عن الدعم التقني. والبنك وفرعه وفروعه كلها جزءا من الإمبراطورية التي بناها أبو لؤي وهو في طريقه لتحويلها بالكامل إلى مجد. ولكن يبدو أن الأمر الذي يعرفه الجميع، ويهاب مجد بسببه بالذات، لم يكن من معنيات جويس التي تتعامل مع مجد بطريقة مختلفة كليا عن الجميع. إلا أن طريقة تعاملها المختلفة لم تكن السبب الوحيد الذي يجعل من مجد منجذبا تجاه هذه الصبية لدرجة يضع كامل اتصالاتها عبر النت، وبسبب موقعه في البنك، تحت رقابته المباشرة، مما يجعله، ويجعلنا كماشهدين معه، نعرف تلك الخلفية التي أتت منها جويس.. والتي يمكن القول أنها، وبدون تفاصيل "شائكة" تعمد جود سعيد عدم الخوض فيها كثيرا محيلا إلى ذكاء المشاهدين، خلفية مناقضة تماما للخلفية التي أتى منها مجد.. وكما هو متوقع، فإن تجاذب الأضداد يبدأ بلعب لعبته.. ولكننا بهذا سنظلم جود وفيلمه إن قلنا أن الضدية وحدها هي من كانت السبب في انجذاب غامض.. كان هناك الكثير مما يمكن أن يقال.. إنه التشابه والضد في آن.. وربما هذا ما يعطي الفيلم بعدا إضافيا مطلا على عمق يبقى فعلا من مميزات الفيلم الذي أراده صاحبه صادقا قبل أي شيء آخر. وبهذا استطاع أن يترك مساحة كافية للمشاهدين ليدخلوا إليها بكل "محمولاتهم" عن تجربة ما تزال طازجة إلى الآن. فبيروت كانت حاضرة، عبر المقارنة بدمشق والقول أن الاختلاف بين المدينتن هو البحر فقط.. ولكنه لم يكن كذلك قط عبر فيلم، أجمل ما فيه أنه لم يسع إلى مصادرة رأيا آخر، ومع ذلك عبر عن رأيه.. بيروت كانت "رائحة" عبر حضور أنثوي مميز (بياريت قطريب)، وعبر ثقافة ولغة مختلفة تماما.. وعبر ذكريات حرب ما يزال السؤال فيها عن الجلاد والضحية مرفوعا طالبا إجابة، وهي حرب احتار أطرافها وللآن في تسميتها.. وأجمعوا على أنها أهلية في النهاية، مختارين أبشع إسم لأبشع حرب.. وهل كانت الحروب جميلة يوما؟!!!.. يدخل جود ضمن حقول ذكرياته (ذكرياتنا) والألغام تحيط به، والمشاهدين متربصين عبر انشداد إلى الشاشة، عز كثيرا في أيامنا هذه.. يسأل بدوره عن الجلاد والضحية.. ويسأل عن علاقة الضد بضده، معيدا من خلال السؤال نفسه طرح مفهوم الضدية ليجد فيه أكثر من... تطابق في أكثر من موضع.. حتى اختلاف دمشق عن بيروت لا يلبث أن يذوب هو الآخر في لحظة، اختريت بذكاء زمني وبصري وإنساني على حد سواء، ومن خلال لقطة واحدة كانت تغني عن ألف كلمة بالفعل.. لحظة كان مصير عائلة جويس (أمها وابنتها.. فجويس مطلقة) مجهولا بسبب حرب تموز 2006، لم تجد الأخيرة إلا كتف كندة (كندة علوش، أعطت للتألق من خلال أدائها معنى جديدا) لتسند رأسها إليه.. وكندة بالذات حكاية داخل الفيلم، نكتفي هنا بالقول أنها كانت مشروع حب لمجد كان في طريقه إلى الاستقرار لولا ظهور جويس المفاجئ في حياة الاثنين.. وكندة تكون الضحية ولكنها تحاول أن تلعب دور الجلاد كاشفة لجويس أن مجد كان يتجسس على كامل اتصالاتها، مما يؤدي إلى أن تقطع جويس علاقتها بمجد.. ولوهلة تشعر كندة أنها حققت انتقامها ومن الاثنين معا. ولكن هذا كله لا يلبث أن يذوب لحظة تلجأ جويس إلى كندة.. والأخيرة لا تجد إلا حلا واحدا لتصل جويس إلى عائلتها في لبنان والحدود مغلقة.. إنه مجد... وهنا نرى وجها آخر لكندة بعيدا عن الجلاد والضحية وكل الأسئلة أعلاه.. إنه تلك القدرة النادرة على الحب.. وهنا نفهم جيدا لم طالبنا جود، قبيل عرض الفيلم، وبإلحاح (كان لطيفا ككل ما يتعلق بهذا الشاب) بأن نشاهد الفيلم بقلوبنا، وليس بعيوننا فقط.... الحميمية التي انتقلت عدواها إلى الجمهور، بقيت مصاحبة لهم وهم في طريقهم إلى خارج الصالة.. وهناك كان الجو دافئا بالرغم من برودة الليلة الشتائية.. وربما مصدر الدفئ كان ذكريات أعادها لنا جود عبر فيلمه.. ليس فقط، عن الحرب وأسئلتها المعلقة.. والحب واحتمالاته المفتوحة.. والحياة ومفاجئاتها المدهشة.. بل أيضا عن شيء أبسط بكثير.. عدنا إلى ليلة نادرة من ليالي مهرجان دمشق السينمائي التي طالما اشتقنا إليها.. وشاهدنا فيلما سوريا....