2012/07/04

مسارح المهمشين.قراءة في تاريخ إنساني للغاية..!
مسارح المهمشين.قراءة في تاريخ إنساني للغاية..!

لؤي ماجد سلمان  - تشرين

استطاع بعض كتاب المسرح احتلال فسحة من الخشبة ليعرضوا عليها الوجه الآخر للمجتمع، الذي ابتعدت عنه الشركات التجارية والإنتاجية،

ومسارح الاستعراض. حيث لم يكن الإنسان همهم الأول إلا من خلال استغلاله كأداة ربحية، وبالرغم من ضيق هذه المساحة فإنها كانت محطة

قوية لتوجيه الرسائل الاجتماعية والإنسانية والسياسية بشكل شبه فاضح لما يحاول البعض أن يستره ويفصله عن نسيج المجتمع الكامل في

زمن تهدد الحضارة بإقصائه، والذي عرف فيما بعد عند بعض دول العالم «بمسرح المقموعين» الذي ضم بين طياته الأقليات من ذوي الاحتياجات

الخاصة،أصحاب الإعاقات النفسية والجسدية، والمسحوقات من النساء، وأصحاب البشرة المحمصة، والقابعين خلف قضبان السجون

ربما كان تشيخوف أول من أطلق الشرارة الأولى عندما رسم الصورة الواضحة للمجتمع الروسي من خلال الفلاح وعبوديته الذهنية، والفقراء عموماً

في قصصه ومسرحياته التي كافح فيها ضد القسوة والرجعية. ليأتي بعده العديد من الكتاب والمسرحيين والشعراء والمفكرين الذين اهتموا

بالوجه الآخر للمجتمع. ‏

ولعل مسرحية «وحيد» التي تروي قصة سجن الزعيم المهاتما غاندي للكاتب يعقوب أحمد يعقوب من النصوص التي تنطبق عليها دراستنا هذه،

حيث المبدأ الذي اتخذه غاندي والمسمى (أهمسا) يعني: ألا يُنزِل أحد الأذى بكائن حيّ، على ضوء ما كان يحصل من المستعمر البريطاني في

ذلك الوقت من استعباد وتنكيل. أيضاً موقفه من المنبوذين الذين قال لهم: إن اللعنة التي حلت عليكم هي من الأرض لا من السماء. ففي سنة

1932 وضعت السلطة البريطانية مشروع قانون يقضي بأن ينتخب المنبوذون نوابهم على حدة، وفي معزل عن الشعب الهندي، فعارض المهاتما

هذا المشروع معلناً أن المنبوذين مواطنون هنود، وانتصرت وجهة نظره بعد صيام كاد يودي بحياته. ‏

في الولايات المتحدة... ‏

في الولايات المتحدة انتشرت هذه الظاهرة المسرحية بشكل واسع، فالكاتب لان فورد ويلسون الذي حققت مسرحياته التسع والثلاثون نجاحاً

باهراً، ولاقت رواجاً جيداً والذي نال جائزة الإنجاز الفني الإبداعي في المسرح لعام 1980، أهم ما ميز أعماله أنها كانت ترسم الشخصيات بواقعية

نادرة وكان خير مثال عن كتابات تشيخوف حيث إنه كان يستمد موضوعاته من بيئته ولعل أهم أعماله المسرحية كانت مسرحية «الحرب في

لبانون» والتي عرض فيها ويلسون آمال جيله واحباطاته، و«مسرحية حماقات تالي» التي تحكي قصة رجل وفتاة التقيا في كوخ ريفي لقوارب

التجديف، والرجل «مات» الذي كان منبوذاً من المجتمع لأنه ينتمي للدين اليهودي، مستغلاً هذا النبذ للتسول حتى في علاقته مع حبيبته،

وتحكي المسرحية مشكلة الزواج بين الطوائف المختلفة، وأراد المؤلف أن يبين كيف أن نموذج المنبوذ موجود حيث توجد الأقليات العرقية، وربما

اختار نموذج الرجل اليهودي ليقنعنا أنه بالرغم من السيطرة الاقتصادية التي يتمتع بها اليهود في العالم فإنهم منبوذون. وفي «ولاية كنتاكي» قدم

المخرج «جون جوري» في مسرح الممثلين مسرحية «الخروج» التي كتبتها «مارشا نورمان» والتي تروي لنا قصة فتاة مسحوقة دخلت السجن

لمخالفتها القانون بسبب فقرها وحاجتها، لكنها خرجت من السجن إنسانة أخرى محطمة، المسرحية عرضت ظروف السحق الاقتصادي والقهر

الاجتماعي والجنسي الذي تعرضت له الفتاة الوحيدة المحرومة. كما كانت في النص شخصية رجل الشرطة الذي حاول اغتصابها بالقوة،

وشخصية الأم التي كانت تعاملها بقسوة قسريه فرضتها ظروف الحياة اليومية البائسة. أرادت الكاتبة أن تكون المسرحية ذات منحى اجتماعي

إنساني يدين وضع السجون في الولايات المتحدة والسجن الأكبر الحياة البائسة للمجتمعات الفقيرة. ‏

مسرح الطرشان.. ‏

من الأنماط التي سادت أيضاً في العالم وفي أمريكا خاصة مسرح الصم، الذي كان مسرحاً اجتماعياً درامياً ناجحاً، ولاسيما أنه عالج مشكلات

الإعاقة وكان البديل الأمثل لجمهور المعوقين عمن يتحدث عنهم. وتشكل مسرح خاص للصم سمي «المسرح القومي للصم» بعد تجمع عدد من

الممثلين الطرشان الذين أخذوا مكانهم على الخشبة المسرحية بعد أن كان يقوم بأدوارهم ممثلون يسمعون بشكل جيد. وأرادوا أن يثبتوا للعالم

أن هذه العاهة طبيعية ولا تحول بينهم وبين ممارسة الحياة الطبيعية والفن ولاسيما أن الصمم وفقدان حاسة من الحواس ليس نهاية الحياة بل

هو بداية لحياة جديدة. وقد لاقوا الدعم الكامل من المخرج المسرحي «غوردون دافيسون. وعالج أيضاً مشكلة الأقليات كالزنوج والهنود والشيكانو

«المكسيكيين» ومسرحية «زوت سوت» للكاتب «فالديز» التي عالجت مشكلة الشيكانو قد أثارت ضجة كبيرة، وجذبت للمسرح جمهوراً كبيراً من

الناس الذين لم يعتادوا ارتياده. ‏

مسرح يدين المملكة المتحدة.. ‏

بريطانيا كانت كالولايات المتحدة، النموذج المسرحي الناجح فيها ما يقدم صورة إنسانية غريبة أو شاذة أو معوقة ولعل السبب الرئيس أن هذا

النوع من المسرح كان يهز الاستقرار الاجتماعي، ويبين الوجه الآخر للمجتمعات، الوجه الذي لا تقدمه شركات الإنتاج التجارية. ومسرحية «الرجل-

الفيل» الواقعية، التي كتبها «برنارد بوميرانس» وأخرجها «جاك هوفسيس» والتي تحكي قصة شخص يدعى «جون ميريك» قضى في أحد

مشافي لندن ما يقارب الأربع سنوات حتى وفاته. كان لهذا الرجل حدبة وشكل يشبه الفيل وكان مجتمعه يشمئز من رؤيته ويرتعد الجميع حين

مشاهدته، إلى أن تحول إلى نجم اجتماعي لامع، بعد أن تحولت عاهته إلى مشروع تجاري في سيرك يدر المال عليه وعلى مستثمريه، حيث

بات له الكثير من المعجبين والمعجبات اللاتي يلاحقنه لأنه يملك المال. كانت هذه المسرحية اجتماعية ناقدة بشكل حاد وجريء للأسس

الإنسانية التي تقوم عليها العلاقات الاجتماعية، وتصور استغلال البشر كأداة للربح من ناحية، وابتذال البشر لذوي المال والمكانة من ناحية أخرى.

وكانت في وقتها بمنزلة إدانة واضحة للمجتمع البريطاني بشكل كامل. ‏

ايطاليا نصبت الخشبة في السجون.. ‏

قدم المخرج الإيطالي «أرماندو بونزو» مشروع عمل مسرحي مع سجناء في سجن فولتيرا الإيطالي، واقتبست عنه الفكرة الفنانة والمخرجة

اللبنانية زينة دكاش، حيث كرست حياتها للعمل مع الأشخاص الأقل حظاً «المنبوذين» وقدمت عملاً مسرحياً داخل جدران سجن رومية في

بيروت «الذي يعد نزلاؤه من أخطر السجناء في لبنان» بعنوان «12 لبنانياً غاضباً» والنص مقتبس أيضاً عن المؤلف الأمريكي «ريجينالد غولد» وكان

أبطال العمل من بعض السجناء الأميين والمحكومين بالإعدام الذين وجدوا للمرة الأولى في حياتهم منبراً للتعبير من خلاله عن أنفسهم ولو من

خلف القضبان. ‏

مصر اختارت المتشردين.. ‏

وفي مصر قدمت عدة أعمال مسرحيه كان الممثلون فيها أبطالاً حقيقيين من أرض الواقع، وليسوا من الممثلين، كمسرحية «طلب إحاطة» التي

تناولت مشكلات ومعاناة المعوقين. ومسرحية «شقاوة زهور» التي استعرضت مشكلات الأطفال المتشردين الذين يساقون للعمل في سن

مبكرة، وأسندت أدوار البطولة فيها إلى أطفال الشوارع الذين يتخذون من الجسور غطاءً ومن الأرصفة فراشاً. ‏

المغرب عالج قضايا المنبوذين أيضاً ‏

وقدم محمد أغربي في المغرب مسرحية «يوميات مجانين» والتي تدور أحداثها في أحد المصحات النفسية ليبين لنا من خلالها كيف أن المرضى

النفسيين في المجتمع يتعرضون للسخرية والاستهزاء من قبل مجتمعهم بشكل عام والمشرفين على رعايتهم وعلاجهم بشكل خاص كشخصية

الطبيب والممرضة في المسرحية. وقدم عزيز بلحرش مسرحية «مملكة المشردين» التي صورت لنا بشكل مأسوي كيف أن الأطفال اليتامى

والمشردين والمنبوذين يستغلون من قبل رجال مشردين ومنبوذين أيضاً، ومعاناتهم من الجوع والمرض بينما مَنْ يستغلهم يصرف ما يجنونه على

المخدرات وغيرها من الموبقات. ‏

المسرح الأمازيغي.. صراع إنساني ‏

المسرح الأمازيغي فرض نفسه على خشبة المسرح، من خلال صراع الإنسان الأمازيغي مع المجتمع من أجل إثبات وجوده وهويته. وقد عبر من

خلاله عن الأنماط المختلفة لصورة الإنسان وسماته الشخصية والنفسية، وطبائعه الأخلاقية والثقافية. فقدم صورة الإنسان الضائع والمهمش في

بلاده وإحساسه بالإقصاء والنبذ بسبب هيمنة الاستبداد السياسي. كمسرحية «الشمعة» للمخرج عبد الواحد الزوكي والتي قدم من خلالها

إيقاعا تراجيديا سوداويا يعزف على نقرات اليتم والظلمة وانهيار الإنسان الأمازيغي وسقوطه في عالم الظلمة والموت، والذي أشار إلى أن الإنسان

الأمازيغي يعاني من الوحدة والتهميش والتغريب والعزلة والإقصاء والظلم. وتحضر صورة الإنسان الأمازيغي المهمش، والمقهور، المظلوم الضائع،

الذي يعاني من البؤس والفاقة والفقر والبطالة والضياع والتغريب. في مسرحية «عباس الحارس» من تأليف فؤاد أزروال. وتتجسد الصورة ذاتها

كذلك في مسرحية «الفقير في البحر» للمؤلف نفسه ومسرحية «الجراد» التي جسدت هشاشة الإنسان الأمازيغي وضآلته الوجودية في

مجتمع القهر والتعسف والاستبداد السياسي والتفاوت الطبقي. وقدم أيضاً المسرح الأمازيغي صورة الإنسان المهاجر هرباً من الفقر والبؤس

محاولاً أن يتخلص من إفرازات التفاوت الاجتماعي والصراع الطبقي بحثا عن القوت اليومي والحريات العامة والخاصة، ورغبة في الاستمتاع بحقوقه

باعتباره ذاتاً إنسانية. كما حاول أن يقدم كل ما يكفل له أن يكون من نسيج المجتمع المغربي، فقدم صورة الإنسان المتشبث بالهوية والأرض،

والحالم والعاشق والمقاوم والمتمرد. ‏

المرأة أيضاً حاضرة كعادتها... ‏

لا بد لنا عندما نتكلم عن المنبوذين والقسوة من أن تطل علينا الأنثى العربية والغربية بقوة، من خلال ما كانت تعانيه من تهميش وإذلال وتغييب

فكري واجتماعي. ولا يمكن ذكر كل المسارح التي ناصرت قضيتها، لأن الأغلبية من غير تحديد تبنت القضايا المختلفة لنصرتها. نذكر على سبيل

المثال لا الحصر، مسرحية «تمرد امرأة» من المسرح المغربي الأمازيغي نظراً لجرأتها وواقعيتها للمؤلفة والمخرجة ماجدة بناني. والتي صورت لنا

معاناة المرأة وصراعها مع الرجل المستبد الذي لا يتورع عن إذلالها وقهرها وتعذيبها في بعض الأحيان. وتقوم أحداث المسرحية على الثورة على

واقع المرأة البعيد عن المساواة، وتطرح قضايا العنف الجسدي والنفسي، والاغتصاب التي من شأنها أن تجعل المرأة تثور على واقعها أولاً وعلى

الرجل الذي يحكمها بالعادات والتقاليد البالية التي تزدريها وتحط من كرامتها دونما اعتبار لآدميتها، أو ما تتحلى به من أفكار ومشاعر. ‏

إلا أنه لا يمكننا أن نجزم أو نؤكد على أي تغيير حصل من خلال هذه العروض المسرحية، ولاسيما في الوقت الحاضر الذي انعدمت فيه العروض

الجادة والهادفة. وعلى الرغم من احتلال المنبوذين جزءاً من المسرح لكن أصحاب شركات الإنتاج وأصحاب رؤوس الأموال استطاعوا تحرير المسرح

من الكراسي المتحركة وذوي العاهات ليحل مكانهم أصحاب الوجوه المحشوة «بالبوتكس» والملونة بالأصبغة، وبقيت الصرخات مدوية في عالم

آخر، لا تقوى على الخروج من بين الصفحات الصفراء ولا عن حيز الخشبة الركحية.‏