2017/12/31

بدون قيد: لماذا هذا العمل جيّد؟
بدون قيد: لماذا هذا العمل جيّد؟

خاص بوسطة - بشار عباس

الشخصيّات الّتي تقود القصص الثلاثة لديها مواصفات مشتركة؛إنّها تتحطّم ولكنّها لا تنهزم،وهذا واحد من الملامح المميّزة للعمل،فالدّراما المحليّة أفرطتْ مؤخّراً بتقديم شخصيّات مأزومة،منهزمة،متذمّرة،تبرع في العثور على مبررات الرداءة الأخلاقيّة والسّلوكية،أمّا هُنا في فيلم أو مسلسل بدون قيد فلدينا ما هو جديد،على مستوى الشّخصيّات،وأيضاً على امتداد المراحل الإبداعيّة،والتي تتطلّب التوقّف عندها.

 

-1- القصّة - الشّخصيّة –  البناء - المقولة:

ضابط برتبة عقيد،أستاذ مدرسي،ومُهندسة زراعيّة؛ أو:المؤسسة الأمنيّة والعسكريّة،التّعليم والقيم،الأرض المهدّدة بالسّرقة؛هل يمكن القيام بإعادة ترتيب ثالثة ؟ عقيد يقدّس المبدأ يخسر عائلته بسبب مجابهته الفساد المافيوي،أُستاذ يتعرّض للاعتقال والتّعذيب من غير ذنب،ومهندسة زراعيّة تُطرد من العمل لأنها كشفت الفساد الذي يؤدّي إلى التصحّر،ثمّ تُسرق حقيبتها بما تحتوي على بطاقتها الشّخصيّة"هويّتها" ؛الشخصيّات تقدّم عيّنة قصصيّة جيّدة عن وضع البلاد.

تقاطعات الشّخصيّات،أو مبرّر أن تكون في قصّة واحدة – وليس ثلاث قصص منفصلة - تحدث كالتّالي:وفيق أثناء تفاصيل صراعه الوظيفي المرتبط برفضه الفساد والعبث " بالهويّات" تُراجعه المهندسة الزراعيّة ريم بخصوص إصدار هويّة جديدة،وهناك تلتقي بكريم المعتقل من الأمن،والذي يكون في نفس المكان ضمن مُجريات التّحقيق،تتبادل معه ابتسامات الإعجاب،لاحقاً يلتقي الثلاثة مصادفةً في النّهاية،الرجال هاربون والمرأة عائدة،تلك التقاطعات تحقّق للعمل وحدة الموضوع بين الشّخصيّات،ما يعني وحدة القصّة،وذلك بصرف النّظر عن الوحدة القصصية التي تؤمّنها وحدة الظروّف العامّة لهم.

الكاتب – أو الكتّاب - ليس متضمّناً في الحدث كمُشارك،وهذا ما يجنّبه أن يكون ذاتاً عارفة في المجال الأخلاقي،الأيديولوجي، أو المضاميني،بدلاً عن ذلك سيأخذ الكاتب مكاناً حيويّاً خارج الحدث،وسيكون مُدركاً وملاحظاً غير مبال،لكنّه – مع ذلك – لديه فهم للمعنى القيمي المتعلّق بالحدث،هو فقط يُشارك في اختياره،من الواقع،ومن لحظات يرى أنّها الأهمّ في مصائر الشّخصيّات،المقولة لا يجعلها على ألسنة الشّخصيّات في الحوار،بل يستعمل الحبكة والفعل الدّرامي لتقديمها،فيدع المقولة ناجمة في ذهن الجمهور بالمُشاهدة،الشخصيّات في هذا العمل أقرب إلى عدد من " المؤلّفين" قام الكاتب بالتّنسيق فيما بينهم كمايسترو،متّخذاً موقف أقرب إلى المؤرّخ منه إلى القاصّ،وهذه واحدة من سمات الكتابة الجيّدة.

يبقى سؤال مرتبط بنقطة الضّعف الأولى في البناء The structure،وهو:هل نقطة الضّعف تخدم المقولة ؟ ذلك أنّ ثلاث قصص كهذه لا تُعتبر أي قصّة منهنّ كاملة بمفردها؛ ثلاثون دقيقة لكلّ قصّة،وهذا زمن مثالي-قياسي لمرحلة البداية من فيلم طويل،إنّ قصّة العقيد تُنجز تماماً مرحلة البداية ولا تزيد عنها،وذلك على مستويي الزّمن الفيلمي،والمرحلة القصصية،إنّه الآن – تماماً - في في نهاية مرحلة البداية ( الشخصيّة في العالم المألوف The ordinary world ) وعند هروبه يكون على عتبة ( الشّخصيّة في العالم الجديد The new world)بينما قصّة ريم تتقدّم قليلاً على نقطة نهاية البداية،فتدخل قليلاً في مرحلة المنتصف؛نزوحها إلى لبنان هو نهاية البداية،تجربتها هناك تنتمي لعالم المنتصف القصصي،أو العالم الجديد للشّخصيّة،وقرار عودتها،وتنفيذ ذلك القرار ينتميان إلى مرحلة ولوج الكهف العميق Approach the inmost cave،والّتي تسبق الذّروة عادةً بقليل،أمّا بداية قصّة كريم فتنتهي قبل ذلك بكثير،فقد تمّ حرق مراحل ضمن البداية،ليصل إلى نهاية البداية،وذلك للتّعبير عنه كعيّنة قصصيّة تمثّل أصدقائه الّذين تقطّعت بهم السّبل،وتجمّدوا،أحدهم لا يفعل إلّا تدخين " النارجيلة" في مهجره.

أين تقع ذروة المنتصف بالنّسبة للقصّة المشتركة بين الثلاثة؟إنّها مؤجّلة للمستقبل،فالشخصيّات لا اكتمال لها إلّا بالتّجاور،علاقاتهم أحدهم بالأخر هي ما يجعل كلّ قصّة مكتملة بالنّسبة للأخرى،ومبتورة من دونها،كريم والأخّ الشّهيد الّذي تبيّن أنّه لم يمت،أحدهما أو كلاهما،سيشكّلان الذّروة بالنّسبة إلى ريم،أو يُساهمان فيها بوصفهما شخصيّات داعمة لريم في صراعها المرتقب مع خالها عمران،والّذي يشكّل شخصيّة مضادّة،كما أنّ العقيد وفيق هارب الآن من وجه شخصيّات مضادّة تستجلب ظروفاً مضادّة،ومثلهما كريم الذي يتّضح في مواجهته لشخصيّة المحقٌّق أنّ الأخير هو المضادّة؛إنّ الجواب على سؤال: هل نقطة الضّعف – على مستوى البناء – تخدم المقولة؟ هو: نعم،فالصّراع الّذي تخوضه الشّخصيّات ليس فرديّاً،بل جماعي،يتطلّب تعاوناً،وتلك واحدة من مقولات القصّة.

نقطة الضّعف الثّانية ستبدو مُبرّرة،وأقلّ نفوراً؛إنّ إجبار الحبكة،ودفعها دفعاً في سبيل المقولة،وفي سبيل البناء من أجل العثور على نهاية مشتركة،وذلك من خلال الصّدفة الّتي تجمعهم كلّهم في محطّة البنزين،تبدو كمتوالية من الصّدف الفائضة عن التّصديق أو القبول القصصي؛مستوى الشّخصيات والعناية الاحترافيّة بتقديمها يتفوّق بكثير على مستوى الحبكة،ولذلك فإنّ الإبهار بواقعيّة الشّخصيّة،ينجح في التّغطية على نقطة الضّعف في البناء.

إنّ وثاقة ارتباط الشّخصيّات بالظّروف يحقّق الاندماج بين التّاريخي والقصصي،وهذا يعني أنّه يجب لإنهاء القصّة – نهاية مغلقة- أن تنتهي الظروف،والظروف لم تزل مستمرّة،لأنّها ببساطة هي الحرب القائمة الآن،ولذلك كان خيار النهاية المفتوحة جيّداً،وحتميّاً.

حجم الصّراع وفداحة الخسارة بالنّسبة لوفيق تجعله أقرب إلى البطولة،ريم لديها صراع ضد خالها،في البداية،وفي مستقبل القصّة  The future of story ،وفرصتها بالانتصار أصبحت أكبر الآن مع أخّ وحبيب؛محوران من محاور القصّة يندمجان الآن: كريم وريم،ويبقى وفيق على قارعة الاحتمال واقفاً،محنة خلدون -صديق كريم-  لم تكن لتشكّل حبكة داعمة Subplot  بالنّسبة لكريم،بل ظروف circumstances  وظيفتها أن تدفعه للاعتقال ثمّ للهرب، بالنسبة إلى ريم: مسألة الأرض تحقّق لها فرضيّة الهدف الرئيس للشخصيّة Main goal، أمّا وفيق،عند المقارنة معهما،فهو حائز بالكامل على مواصفات البطل التّراجيدي الكلاسيكي،ولكنّه وإن كان كلاسيكيّاً كمواصفات شخصيّة،إلّا أنّ إطاره العام ( صراعات قاع مجتمع وعلاقات مافيويّة كأنموذج قصصي حداثوي وما بعد حداثوي) ووجوده في موقع سلطة – جميع أبطال القصص الكلاسيكيّة من جلجامش حتّى مآسي شكسبير الخمسة كانوا في موقع سلطة – وفداحة ما ينتظره في حالتي مواصلة الهروب أو العودة لاستئناف الصّراع،كلّ ذلك يؤهّله لزعامة القصّة بلا منازع،كما أنّه يمتلك حبكة داعمة بوضوح،الابن المقتول،حبيبة الابن المسافرة،تلك قصّة فرعيّة متكاملة،وهي لا توجد عادةً إلّا بجوار البطل،أمّا الأحداث الفرعيّة الّتي بجانب كل من كريم وريم،فهي لا تتجاوز الظروف،الأهداف،أو الموضوعة المضادّة Theme antagonist  ليس إلّا.

ولذلك فإنّ الخيار الّذي يُتيحه العرض على يوتيوب ( اختر بأية قصّة تبدأ) لم يكن موفّقاً البتّة،وليس للجمهور أن يفعل ذلك،الواقعيّة المفرطة للقصّة تحتّم عليها أن تُسلَّم للجمهور وفق عبوة زمنيّة محدّدة ومُنجزة،ثباتها جزء أصيل من ماهيّتها.

-2- الإخراج :

الكاستينغ – إدارة الممثّل:

إنّ جودة عمليّة الكاستينغ جعلت من الشّخصيّات الدّراميّة أقرب إلى شخوص فيلم وثائقي،عبير الحريري الّتي تؤدّي شخصيّة ريم تؤهّلها ملامحها إلى تسليم أنواع متضاربة من المشاعر: الظّلم والضياع والتعرّض للاضطهاد، الرومانس في ابتسامات الإعجاب المتبادلة مع كريم، العزم والتّصميم عند رفضها بيع الأرض وعند قرار عودتها،وأيضاً ينال منصور الذي يؤدّي شخصيّة كريم لديه ملامح لطيفة مُسالمة تلائم أن يُسحق بالاضطهاد ويهرب،وملامح رافي وهبي ،عمره،مع  بنيته الجسمانيّة، تفي  تماماً بشخصيّة وفيق،وجوه الممثلين تعطي إيحاء بوثاقة الصّلة بينهم وبين المكان،مع انطباع قوي بأنّ هذه الوجوه سوريّة.

إنّ مستوى الأداء التمثيلي الرّفيع قائم على جودة كتابة الشّخصيّات في النصّ؛الشخصيّات المكتوبة لا تدرك أنّها شخصيّات،مما يجعل الحفاظ على هذا الشرط ممكناً أمام الكاميرا،لا انفعال فائض،لا مبالغة لفظيّة في تسليم الحوار،وليس هناك حركات غير ضروريّة،الموقف التّمثيلي من الكاميرا يجنح إلى الخيار الأصعب من بين الخيارات الأربعة الأدائيّة الكبرى،وهو تجاهلها تماماً،يُساعد ذلك ما يوصف " بالجرأة" في الفعل الدرامي ( مشهد التّقبيل) وفي الحوار عبر ألفاظ غير مألوفة بالشّاشة المحليّة،الشّخصيّات تتكلّم بطريقة واقعيّة دون إحراج من الكاميرا،وهذا يعني تجاهل الجمهور،فيشعر الأخير أنّه يختلس النظر إلى عوالم القصّة،من غير أن تضبطه الشخصيات متلبساً بالمشاهدة،فهي غافلة عن وجوده،وذلك من أهمّ أنواع التّشويق.

-3- الإخراج : خيارات الكاميرا:

غلبة المشاهد النّهاريّة على العمل،واعتماد الإضاءة الطبيعية،سواء بالاستفادة من ضوء الشّمس في الأماكن الخارجية،أوالشّمس مع الإضاءة النّهاريّة الصُنعيّة في الدّاخليّة،قد ساهم بشكل جيّد في خدمة واقعيّة القصّة،والتي كانت ستُضعفها إضاءة فاخرة،أو ذات مزاج نفسي – لوني مُحدّد.

حركات الكاميرا ابتعدت عموماً عن الشاريو يمين،والشاريو يسار Truck right - left التي تستعمل بإفراط – وهو إفراط أصبح مستفزّاً– في الشاشة المحليّة،فلم تظهر إلّا بالكاد،وبدلاً عنها كان هناك استفادة كبيرة من البان Pan البسيط الّذي كثيراً ما ينتقل بين تفاصيل الشخصيّة نفسها،من يد وفيق – مثلاً-الّتي تُخرج الصّورة من جيبه إلى وجهه والطاولة،أو بين وجهين لشخصيّتين،وأيضاً ثمّة اعتماد واضح على القطع المونتاجي باعتباره نوعاً من أنواع حركة الكاميرا.

الاعتماد الزّائد على الكاميرا المحمولة،الاهتزاز،الاضطراب،واللّهاث خلف الفعل الدرامي،بأسلوب يُحاكي الأنموذج الوثائقي – الريبورتاجي في التّصوير،خدم الواقعيّة المُفرطة للقصّة بشكل فعّال،في هذا العمل القصّة هي السيّدة – كما ينبغي لأي دراما جيّدة أن تكون- وكل تفصيل آخر هو في خدمتها أيضاً؛المواقع،الديكورات،الملابس،الميك آب.

هناك أيضاً استعمال جيّد للقطة وجهة النّظر Point of view،الشخصيّة تنظر،ثمّ ننتقل إلى لقطة تُظهر ماذا يرى من وجهة نظره،الجمهور يرى بعيني الشّخصيّة،ويندمج أكثر في موقفها.

-4- تقطيع الصّورة:

المونتاج ينصرف بدرجة كبيرة إلى تحقيق المعيار المونتاجي الثّالث،وهو تحقيق الإيقاع – معدّل تعاقب الأطوال الزّمنية بين أكثر من قَطعتين متواليتين –هناك اعتناء في المعايير الأخرى كتسليم القصّة،و توريط الجمهور بمشاعر محدّدة،غير أنّ بناء الإيقاع هو الاهتمام الأكبر الّذي سعى إليه المونتاج،ونجح إلى حدّ كبير في تحقيقه،رغم أنّه في مرّات قليلة،كان يفيض عن الحدّ الإيقاعي،فيصل حدّ الإرهاق البصري،ولكنّه سرعان ما يعود للمحافظة على معدّل الإيقاع.

مونتاج قصّة ريم كان الأصعب،وأتى مختلفاً عن قصّتي وفيق وكريم،فقصّتها تتضمّن على الكثير من عناصر القصّة العائليّة،ومن حين لآخر تنتقل إلى نوع الحركة والتّشويق،وقد كان الانتقال بين الإيقاعين موفّقاً،يبقى الأنموذج الثالث المونتاجي – الرومانسي،عند تبادل نظرات الإعجاب مع كريم،وقد نجح بتخفيض سرعة الإيقاع فجأة،ثمّ العودة إلى الخطّ العامّ.

في مراحل المطاردات،والتتبّع،مثل بداية قصّة كريم،أو فراره،يستعمل المونتاج خيار القَطْعة القفزة Jump cut ليس بمعنى القطع من حجم لقطة كبير إلى حجم أصغر من نفس الموضع،بل بمعنى حذف مقاطع زمنيّة من استمراريّة المادّة البصريّة ( على طريقة أفلام الموجة الفرنسيّة الجديدة) وهُنا تظهر مهارة مقبولة في تنفيذ ذلك،ولو أنّها أحياناً تتسبّب في قفز عن لحظات مهمّة من القصّة،فيسبق الإيقاعُ المونتاجي الإيقاعَ الدرامي السّريع الموجود أصلاً في النصّ المكتوب،مثل مرحلة حزن وفيق على ابنه،وبعدها زوجته،وأيضاً مرحلة التوقيف على الحاجز التي سبقها مشهد اكتشاف وفيق للأغراض في التّابلو.

العمل بلا شكّ نقلة جديدة في الدّراما المحليّة،وإن كان من المبكر تحديد إذا كانت نقلة كهذه تُحسب لصالح صناعة الفيلم المحلّي،أو لصالح صناعة المسلسل المحلّي،الاحتمال الأوّل هو الأوفر حظّاً،على العموم هذه نقلة تُحسب للشّاشة المحليّة ككل،سينمائيّة كانت أو تلفزيونيّة.