2016/08/18

حسن سامي يوسف ونجيب نصير: التّكامل الإبداعي
حسن سامي يوسف ونجيب نصير: التّكامل الإبداعي

 خاص بوسطة - بشار عباس

خمسة مسلسلات لعلّ تحليل نصوصها، واقتفاء أثر شخصيّاتها، أن يدنو شيئاً من فهم تجربة كاتبين كبيرين زوّدا الدّراما التّلفزيونيّة المحليّة بأعمال جيّدة لا تُنسى؛ وهي ( شجرة النّارنج 1989 –كتابة حسن سامي يوسف بمفرده) و(نساء صغيرات - 1999 كتابة حسن سامي يوسف ونجيب نصير) و (الانتظار 2006 للكاتبين معاً ) و ( زمن العار 2009 للكاتبين أيضاً معاً ) و ( النّدم - 2016 كتابة حسن سامي يوسف بمفرده ) فلماذا هذه العيّنة القصصيّة – الدّراميّة ؟

قبل الإجابة يجب الإشارة إلى أنّ ظاهرة الثنائيّة في الفنون لطالما ارتبطت بأفضل الانجازات الخالدة؛ في تاريخ الفيلم هناك الأخوان لوميير، وفي تاريخ الأغنية المعاصرة ببلاد الشّام نجد الأخوين رحباني، إنّ الثنائيّة الإبداعيّة عادةً ما يتوقّف نتاجها الإبداعي،أو يتحوّل عندما تنفصم، فلا يعود كما كان، فشتّان –مثلاً- مابين أعمال زيّاد الرحباني قبل وبعد جوزيف صقر، أو أعمال دريد لحّام قبل وبعد الماغوط؛ لقد صارت خلقاً، بعد أن كانت خلقاً آخر.

إنّ العيّنة القصصيّة من المسلسلات الخمسة السّابقة تبدأ بعمل كتبه أحد قطبي الثنائيّة بمفرده،وبعده بنحو من ربع قرن عاد وكتب أيضاً مسلسلاً آخر بمفرده،وبينهما ثلاثة نصوص كتباها معاً،وهذا يعني أنّ الأخيرة يُمكن أن تكشف ماذا أضافت تجربة الثّنائيّة هذه،وأيضاً الكثير مما صار ينقص المسلسلات المحليّة،وذلك بعد أن هبط مستواها مؤخّراً بسرعة دلو ممتلئ انقطع حبله في بئر ما له من قرار.

يوسف ونصير : البناء الملحمي والشخصيّات الروائيّة .

قبل الدخول إلى مزايا هذه التّجربة،لا بدّ من التوقّف بإيجاز شديد عند بعض الآراء التي تميّز بين أشكال ومضامين القصّ الوسيط والقديم ،وبين القَص الحديث والمعاصر،بين الملحمي وبين الروائي:

 المفكّر الفرنسي لوسيان غولدمان ( 1913- 1970 ) الذي يرى أن البرجوازيّة في حالة طموح دائم،فهي ذات وعي قائم تمارسه،ولكنها في الوقت نفسه ذات وعي طامح ترنو إليه،وتريد ترتيب العالم كما  تتصوّر،فالرواية الحديثة تعكس معاً واقع النشاط البرجوازي من جهة،والطموحات التي تصبو إليها من جهة ثانية،يمكن إيجاز رأيه عن الفرق بين الملحمة وبين الرواية هكذا:العالم القائم،والعالم المأمول .

أمّا الفيلسوف المجري جورج لوكاش ( 1885- 1971 ) فيرى أنّه مثلما قامت الأنظمة العبودية باقتراح الملحمة كنوع قصصي للهيمنة على المجتمع،ثمّ قامت الإقطاعيّة باقتراح الليجندة، فإنّ البرجوازيّة في صراعها مع الإقطاع والكنيسة،ابتكرت الرواية كسلاح؛ الرواية بالنّسبة إليه:ملحمة البرجوازيّة.

المفكّر واللغوي الروسي ميخائيل باختين ( 1895- 1975) يرى أن صورة العالم في الملحمة مُنجزة،ولكنّها في الرّواية صورة جدليّة تتطوّر؛لفهم كلامه يمكن النّظر في ملحمة جلجامش:إنّ تصوّر بطل القصّة عن العالم،عن الطبيعة والمجتمع،لا يختلف عن تصوّر أنكيدو،ولا عن تصوّر غريمته عشتار،أو سيدوري التي قدّمت إليه النّصائح،أمّا في رواية مثل (أوليفر تويست – ديكنز) فإنّ تصوّر تويست عن العالم يختلف تماماً عن تصوّر الخادمة شيرلوت التيّ تقدّم له لحماً من بقايا طعام للكلب؛إنّ رأي باختين في توصيف الفروق بين الملحمة والرواية،هو:عالم مُنجز،وعالم لم يزل يُنجز .

وكذلك يُضيف باختين فرقاً جوهريّاً على سمات الشخصيّة في الرواية:إنّها شخصيّات قاع المجتمع،اللغة (الحوار The dialogue ) شعبيّة،سافرة،يوميّة،وليست متحفّظة أو أدبيّة .   

المؤرّخ والنّاقد الإنكليزي إيان واط ( 1917- 1999 )يذهب أنّ الفرد الذي لم يعد مضطراً للعمل في مهنة زراعيّة أو حرفيّة مفروضة عليه،وبات بإمكانه أن يختار عمله،يُعتبر من أهم ملامح الرواية الحديثة،أي: الفرديّة،وأيضاً وضع المرأة التي بخروجها للعمل امتلكت نوعاً من الاستقلاليّة  .

حسن سامي يوسف: بناء الأسرة الملحمي.

في شجرة النارنج الذي كتبه بمفرده:أب ثري لديه كنز،ابن جشع،ابن آخر عاق يسرق مال ويسافر،يعود في نهاية القصّة،وفتاة مهيضة محطّ قلق وخوف من أبيها،وهناك شخصيّة " اللقيط " التي تتبناها أسرة أرملة الأخ الجشع،اللقيط سيكون له أهميّة كبيرة في مسلسل الانتظار لاحقاً .

في "الانتظار" الذي كتباه معاً:أب ثري لديه كنز( محل الحلويّات) الذي يعمل فيه ابناه، يظهر الجشع والعقوق منهما معاً بالمماطلة والتأفّف من شراء بيت للأخت( سميرة – يارا صبري) لكي تتخلّص من الحيّ العشوائي،الأخت تنطبق عليها جزئيّاً سمات البنت المهيضة محطّ قلق أبيها،وهي في زواج غير مثالي و في حيّ عشوائي،إنّها قويّة شيئاً،تبدأ القصّة ومخاوف أبيها عليها متحققة سلفاً،كونها في زواج غير مستقر،وغير راضية عن سكنها،والأب يحاول إخراجها من الحيّ الذي تقيم فيه.

 في "زمن العار" الذي كتباه معاً: هناك كنز مؤجّل يتحقّق ببيع البيت،صراع مالي، الابن الجشع والعاق يبتزّ الأب، أمّا البنت المهيضة ( بثينة – سلاف معمار) فتتعرّض لغواية من الجار المتزوّج، مع فارق عن شجرة النّارنج أنّه لا يتقدّم لطلبها ويُرفض ثم تهرب معه، بل يتزوّجان بالسرّ ببيت في حيّ عشوائي، وسرعان ما تنفصل عن زوجها كما في شجرة النّارنج، وكما في "الندم" لاحقاً،مع فارق عن "الانتظار" أنّها أوشكت على الطّلاق،ولكنّه توقّف في اللحظة الأخيرة . 

في الندم، الذي كتبه حسن سامي يوسف بمفرده:حضور قوي لنفس سمات الأسرة،مع ردّة أكثر إلى الأنموذج الأُسري الملحمي؛ أب ثري يوّزّع المال، ابن جشع ولكن ليس كثيراً، ابن عاق ولكن طيّب، لا يسرق المال ولكنّه على وشك؛ إنّ توقّفه على شفا حافّة السّرقة، ثم امتناعه، يحقق شرط ومفهوم السّرقة وتداعياتها الخطيرة في البناء الأسري، وهناك فارق تبادلي بين هذا وبين مسلسل شجرة النارنج، في الأخير لا نراه يسرق ولكنّنا نعرف أنّه سرق، أمّا في الندم فنرى الخزنة والمال وإيحاء بالسّرقة، ولكنّها لا تقع؛بالإضافة إلى البنت المهيضة محطّ قلق الأب؛ ترتبط بخطوبة  وتنتظر سنوات طويلة خطيبها الذي في الاعتقال، الأب يشتري لها الذهب خوفاً عليها من المستقبل،على طريقة الانتظار في شراء بيت للبنت .

يمكن-بصرف النّظر عن  نساء صغيرات - اقتراح مُختصر قصّة عريض جدّاً للبناء الأسري – الملحمي - الكلاسيكي في القصص الأربعة السّابقة؛ أب ثري بجانبه ثروة نقديّة أو عينيّة، يخشى على ابنته المهيضة فتتحقّق خشيته أو لا تتحقّق، يعاني من جشع وعقوق الأولاد الذّكور، فما هي الفروق الواضحة في المسلسلات نتاج الثّنائيّة ؟

نجيب نصير : إضافة الشخصيّات الرّوائيّة .

إنّ اللقيط الذي كان شخصيّة ثانويّة في "شجرة النارنج" وملتحق بعالم الأسرة الثابت،سيغدو في الانتظار( عبود – تيم حسن ) بطلاً للقصّة،منقطع عن  كلّ سياق،إنّه ملمح واضح لنظريّة باختين( شخصيّات قاع المجتمع )مع استحضار لأجواء رواية مغامرات روبن هود – للروائي الأمريكي هاورد بيل – روبن كان يسرق الأغنياء لصالح الفقراء،مع مجموعة من فئة( اليومن)وهم تعبير عن الطبقة دون الوسطى في بداية ظهورها،وسوف يكون لها ما يشبهها من شخصيّات قاع المجتمع؛أخَوان يعملان في جلي البلاط،شرطي قادم من الريف،مدمن دوائي،وعصابة أشرار تقوم على التّضاد مع الشخصيّة الرئيسة؛كلّ ذلك بجانب البناء الأُسري الواضح لعائلة والد  "سميرة"المستقرّة،إنّها مندوبة الطبقة الوسطى مؤقّتاً في حيّ العشوائيّات،هنا تحضر نظريّة غولدمان:عالم قائم،وعالم مأمول.

في "نساء صغيرات " الذي كتباه معاً،هناك في اسم العمل،وعدد الشخصيّات،وغياب الأب محاكاة لرواية نساء صغيرات تأليف الأمريكيّة لويزا ماي آلكوت (1832-1888)،الفكرة سوف تتكرّر –تقريباً-  في "الانتظار"مع البنات الأربعة لعائلة (أبو أسعد –عمر حجّو) لقد عادت الكبيرة بعد الطلاق وتبدأ علاقة حب جديدة،وأُخرى تعمل في محل الحلويات،وتتزوّج بالسرّ لقاء الحصول على بيت،وثالثة توشك على العمل في ملهى،ورابعة تقوم هي بالتحرّش بابن الجيران واعتراضه،يُضاف إلى ذلك شخصيّة المرأة(سهيلة- سمر سامي) في "زمن العار" التي تقوم بإغواء الأب للزواج،ومعها يصعد خطّ الحبكة،إنّها قويّة،واثقة،تعرف ماذا تريد،بعيدة عن أوهام الرومانس،النّساء السّابقات يحققن ملمح روائي مهم وفق إيان واط:استقلاليّة المرأة .

بناء الأسرة الملحمي ماثل في كل من الانتظار وزمن العار،ولكنّه يتعرّض للتقليل من الأهميّة على مستوى الفعل الدّرامي،و للإزاحة لصالح الشخصيّات الروائية،الأب ثري ولكنّ ليس كما في شجرة النّارنج أو الندم،في الانتظار لديه محل حلويّات يحقق دخلاً جيداً للولدين،وفي زمن العار تتحقق معادلة الكنز موضع الجشع عند بيع البيت،أمّا في شجرة النّارنج والندم فلدينا(الخزنة المالية – الكنز)واضحة ومرئيّة،وفي متناول يد الشرّ الدّرامي،وعلى مرأى من الجمهور المتلهّف إمّا للسّرقة كالولد،أو الخائف عليها كالأب . 

في "الانتظار" و"زمن العار" الحوار الذي تقوله الشخصيّات هو حوار قاع مجتمع، الألفاظ  شعبيّة، لغة شارع بامتياز، وهذا أيضاً ملمح روائي وفق رأي باختين، بينما نجد في " الندم" تعليق مصاحب بالفصحى على لسان الراوي،الكلام الرصين لغته أدبيّة،وهذا ملمح ملحمي.

في "الندم "الذي غاب عنه نجيب نصير؛ الأب ثري ثراء اقطاعي (تاجر لحوم وليس صاحب محلّ حلويات مودرن أو موظف متقاعد) وهناك حضور دينيّ مُفرط على مستوى الفعل الدرامي و الحوار كان أيضاً ملموساً في شجرة النّارنج،وهي ملامح ملحميّة،أو من محددات العالم القائم وليس العالم المأمول وفق رأي غولدمان،يُضاف إلى كلّ ذلك عودة شخصيّة البنت المهيضة بجرأة أقلّ عمّا كانت في شجرة النارنج،إنّها تعاني اعتقال خطيبها وانتظاره لسنوات وهي محطّ قلق الأب،ثمّ تتزوّج غيره بما يُرضي المجتمع،ثمّ تنفصل عن زوجها مثل البنت في شجرة النارنج وزمن العار،بينما في"الانتظار" كانت على وشك الطلاق ولكنّه لم يقع، سهيل الولد العاق جزئيّاً،يسافر،ويرجع في النهاية،كلامه عن "قابيل" وعن" العشاء الأخير"يعود بقوّة إلى الفرضيّة الملحميّة.

ماذا تكسب الثّنائيّة من العمل  معاً ؟   

حسن سامي يوسف يأتي بالبناء الجيّد، الذي  يحظى بنسبة جذب تشويقي قويّة؛ تشويق مالي وفق مبدأ (الكنز المُختلف عليه) . وتشويق " الرضا " يحقّقه أب يقوم بتوزيع مبالغ من المال، وتشويق الصّراع الأسري في مجتمع مشرقي، يقوم فيه أخ أو يوشك على الاستحواذ بالثروة، وآخر يقوم أو يوشك على السّرقة،بنت يخشى عليها والدها،ماذا يبقى من الجمهور؟إنّ معظم المُشاهدين سوف يعثرون على شخصيّة من  ضمن ما سبق ليتقمّصها،أو ليتقمّص الصّراع ضدّها.

ولكنّه بناء من الصعب أن يتطوّر،صراعه ذو طبيعة ثنائيّة الاتّجاه،ومحدود باحتمالين؛الأخ الجشع إمّا يسيطر أو لا يسيطر على الثروة،العاق إمّا ينفّذ عقوقه أو لا ينفّذه،البنت إمّا تحقّق مخاوف الأب كليّاً أو جزئيّاً أو لا تحقّقها؛هذا هو العالم المُنجز وفق رأي باختين،في شجرة النارنج لا تستطيع القصّة أن تصل إلى نهاية ضمن  نفس البناء،فتتحوّل إلى قصّة أسرة جديدة وصراع جديد،وفي النّدم تتحوّل من قصّة الأب(سيرة نجاح ذاتي )إلى قصّة الخطيب( أدب سجون) إلى قصة عروة وحبيبته(رومانس)وأخيراً تنتهي بعودة للابن المُسافر،الذي مثلما سافر بلا مبرر،عاد بلا مبرر،فقط للعثور على نهاية.

أمّا نجيب نصير فيقوم بإضافة  شخصيّات روائيّة ترتفع بقوس الحبكة وتنهض بالصّراع، الإضافات تحقّق للبناء ميزة مهمّة: النهاية الجيّدة ،في الانتظار يُقتل الشخصيّة الرئيسة،النّهاية مغلقة للشخصيّة الرئيسة ومفتوحة لباقي الشخصيّات،وفي زمن العار تعود الشخصيّة الرئيسة (بثينة) لخدمة أبيها كما كانت تخدم أمّها،نهاية أيضاً مغلقة على مستوى الشخصيتين،ومفتوحة على مستوى الشخصيّات المتبقية؛لماذا النهاية جيّدة في الأعمال التي تكتبها الثّنائيّة؟لأنّ الشخصيّات الروائية،وبما يُشير إليه (إيان واط) من "فرديّة" تقترح شخصيّة رئيسة،والعمل الذي فيه شخصيّة رئيسة واضحة يكون من السّهل إيجاد نهاية جيّدة له .

ماذا يخسر كل من الكاتبين إذا عمل بمفرده ؟

يخسر حسن سامي يوسف النّهاية الجيّدة، ويخسر لغة الحوار الشعبيّة – اليوميّة السّافرة – ويخسر الشخصيّات الروائيّة، أمّا نجيب نصير فإنّه بمفرده يفقد القدرة على جلب بناء فيه تشويق ملحمي- كلاسيكي، فيمتلك شخصيّات روائيّة دون امتلاك قدرة تحميلها على بناء، ويمتلك نهاية جيدة دون البداية والمنتصف؛ الأوّل يأتي بالبناء الملحمي الجيّد والثّاني يزوّده بشخصيّات روائيّة، الأوّل يأتي بالقصّة والثّاني يُنهيها، الأوّل يستجلب الحجر الجيّد الملائم المطواع، والثاني يقوم بنحته وتشكيله؛ إنّ انفصام هذه الثّنائيّة لسنوات خلت، قد يكون من الأسباب القويّة لتراجع الدّراما التلفزيونيّة السوريّة مؤخّراً، هذا على المستوى الفردي الشّخصي، بصرف النّظر عن أسباب موضوعيّة أخرى ترتبط بالظّروف العامّة للبلاد وأهليها.