2016/09/30

موسيقى “الندم”… القوالب الجاهزة ومساحات الإبداع
موسيقى “الندم”… القوالب الجاهزة ومساحات الإبداع

أحمد الضامن * - بوسطة
رام الله   26 – أيلول – 2016

مسلسل "الندم" من إخراج الليث حجو وإنتاج سما الفن الدولية للإنتاج. وقد يكتفي الكثيرون منا بهذا القدر، لأننا كجمهور في العادة لا ننتبه كثيراً إلى مؤلفي موسيقى العمل الدرامي. لكنني أتفاجأ وأسعد في بعض الأحيان لاهتمام الجمهور الواسع بموسيقى بعض الأعمال. من الحالات التي جاءت ببعض الاهتمام، حتى من قبل غير الموسيقيين، كانت موسيقى إياد الريماوي لمسلسل "الندم"، والذي طلب مني القائمون على موقع "بوسطة" تحليلها والكتابة عنها.

الريماوي ليس غريباً عن هذا المجال، فقد برز اسمه بقوة في السنوات الأخيرة في عالم الموسيقى التصويرية، وخصوصاً شارات المسلسلات. وهو الذي احترف النمط الغنائي على الساحة السورية والعربية منذ التسعينيات. لذلك فليس مستغرباً أن يكون تركيز الريماوي الأكبر في أعماله التلفزيونية على شارات المسلسلات المغناة. ومن أعماله التي أرفع لها القبعة كانت أغنية مسلسل "ضبوا الشناتي" للكاتب المتميز ممدوح حمادة ومن إخراج الليث حجو أيضاً. جاءت موسيقى الشارة في "ضبوا الشناتي"، والتي كتب الريماوي كلمات أغنيتها، لتقدم أسلوباً بسيطاً ومحبباً من مقام نهاوند/مينور مع أحد الاستقرارات على جنس العجم/الميجور في الدرجة الثالثة لإضفاء تتابع محبب على الجملة وتخفيف استقرارها الحزين والمحتوم في النهاية، محاكية بذلك نوع المسلسل وطبيعته. قد لا تكون الفكرة هنا مليئة بالابتكار، ولكن البساطة في بعض الأحيان هي ابتكار في حد ذاتها.

في مسلسل الندم، والذي يشهد تعاوناً آخر للريماوي مع الليث حجو، بعد أعمال أخرى مثل لعبة الموت و٢٤ قيراط، نجح الريماوي في تقديم شارة لاقت استحساناً من الجمهور، ويمكن أن تستمع لأكثر من متحمس أو هاو قام بتسجيلها على اليوتيوب بصوته أو بآلته الموسيقية. وهناك عدد من المقالات لكتاب غير مختصين بنقد الموسيقى، والتي أشادت بموسيقى العمل وبأغنية الشارة. يعود المؤلف في الشارة إلى مقام نهاوند/ مينور هنا، ولكنه يركز على أجناس الكرد/الصبا-زمزم ضمن مساحة واستقرارات المقام لكي يبرز مزيداً من الأسى و"الندم" إن صح التعبير. بينما جاءت موسيقى شارة الختام على مقام الكرد بشكل واضح، وتبدو للمستمع أكثر حيوية بسبب استخدام الباص الالكتروني والدرمز. اختيار "آمن" وليس فيه الكثير من المخاطرة برأيي، وليس من مبدأ البساطة كحال "ضبوا الشناتي". فقد تم استخدام عدد كبير من الآلات، كالباصون الذي يعزف الجملة الأساسية، والانتقال بين أجناس مختلفة في اللحن الواحد، يبعده بالتأكيد عن خانة البساطة في التوزيع واللحن..

لكن هناك عدة نقاط أساسية أود التنويه إليها في هذا النمط الجديد/القديم التي تتجه له المسلسلات السورية والعربية بشكل عام، وبعض الملاحظات في ما يتعلق بالموسيقى التصويرية بالذات والذي يجب أن تتعدى تبعية الموروث الغنائي العربي.

بداية، فإن هذا النمط الجديد/القديم يمتثل في رغبة المخرجين في أن تكون الموسيقى التصويرية الجيدة هي تلك التي "لا يدركها" الجمهور ضمن التشكيلة الفنية في المسلسل. ولا أعني بذلك شح الموسيقى، بل إن موسيقى "الندم" يتم استخدامها بكثرة، وهي وفرة أكثر من اللازم في كثير من مشاهد المسلسل. ولكن ما أعنيه، أنها ليست موسيقى تضيف بعداً جديداً إلى المشهد أو تستفز المتلقي إيجابياً، وإنما تملأ الصمت أو تجبرك على التفاعل عنوة. فهذه موسيقى حزينة، وهذه تبعث على التوتر، وهذه فيها إيقاع، إلخ. وبذلك فإن أحداً لن يتذكر الموسيقى بعد انتهاء المشهد، ولن يحس بأنها حملت مشاعره إلى قلب المكان، ولن يرددها بعد ذلك بينه وبين نفسه. هذه النتيجة ليست على ما أعتقد من اختصاص الريماوي أو تنقص من عمله، بقدر ما هي خيار إخراجي عند معظم مخرجي اليوم. وهذه مشكلة عالمية أيضاً، وكأنها موضة جديدة بدأت في العقد الماضي، تحدث عنها موسيقيون عالميون من أمثال داني إيلفمان ومايكل دانا.

الأمر الآخر، والذي تعاني منه الموسيقى التصويرية العربية بالذات، هو الموروث الغنائي. فقد أثقل الموروث الغنائي كاهل الموسيقى التصويرية لسنوات، ثم خرج عدد من الموسيقيين من أمثال عمر خيرت وياسر عبد الرحمن وطارق الناصر وغيرهم ليقدموا ألواناً جديدة لحنية، خرقت مساحات الاعتماد الكلي على الأغنية. فحتى وإن كانت موسيقى الشارة غنائية، فلا يجب أن تكون التصويرية تابعة وأسيرة لموسيقى الشارة. ولا يعني أن يكون المختصون في تأليف الشارات الموسيقية مختصين أيضاً في الموسيقى التصويرية للأعمال الدرامية. الموسيقى التصويرية في "الندم" تلعب في ملعب آخر خارج المشهد. قد تقدم الموسيقى لحناً احترافياً، وقد لا تكون بالضرورة دائماً مجبرة على استحضار بعد إضافي، ولكنها في حالة "الندم" ليست بالضرورة نابعة من روح المشهد أيضاً. فحتى إن كان النهاوند/المينور يركز في الاستقرار أحياناً على جنس الكرد فإن التوزيع واللحن يشكلان نموذجاً غربياً، ويؤكد اختيار الباصون والباص الالكتروني على ذلك. ولمن لا يعلم فحتى مقام الكرد الشرقي له نظيره الغربي في قالب ال"فريجين" إذا عزف بشكله المعتاد. وقد لا تكون هناك مشكلة في ذلك حسب المشهد، ولكن هناك العديد من المشاهد في "الندم" التي تتعلق بسلطة الأب في العائلة، والشارع الدمشقي، والحرب، وغيرها من الحالات التي لم تحاكها الموسيقى التصويرية.

استخدام الموسيقى أيضاً في المسلسل، كما ذكرت سابقاً، بدا زائداً عن الحاجة. معادلة الصوت الطبيعي والموسيقى ما زالت غائبة عن الدراما التلفزيونية كما هو الحال في "الندم"، بينما باتت الدراما التلفزيونية اليوم في الكثير من الدول الآسيوية والغربية تتقدم على السينما في هذا المجال. فرغم القفزة في تقنيات التصوير في المسلسلات العربية، و"الندم" واحدة من هذه المسلسلات. إلا أن الاهتمام بالارتقاء بتقنيات الصوت ما زال ثانوياً. معادلة الصمت والموسيقى ما زالت غائبة عند الكثير من فنيي المونتاج، وتكرار الموسيقى الزائد ليس في مصلحة العمل. ، وليس كل مشهد يحتاج إضافة للموسيقى لتبرز معاناة شخصيات القصة. هذه ليست مشكلة جديدة في الدراما العربية، ولكن "الندم" يكرسها بشكل ملحوظ، وتطول المقطوعة في كثير من الأحيان فتصاحبنا طوال المشهد. وبما أن العديد من مشاهد المسلسل بطيئة جداً في الحركة، فقد يظن المشاهد أن الموسيقى وضعت هنا لملئ الفراغ لا أكثر.

الريماوي بلا شك موسيقي محترف ولديه الكثير ليقدمه في مجال الأغنية العربية والموسيقى التصويرية. لكن ما يحتاج إليه أي موسيقي اليوم للنهوض بالموسيقى التصويرية العربية هو مساحات حقيقية لكسر القوالب. ويحتاج أيضاً إلى متطلبات إحترافية في العمل، وتركيز خاص على الموسيقى البحتة/اللحنية-غير غنائية - حتى تقدم دورها الأساس في أي عمل درامي عالي الجودة، وهو تقديم بعد إضافي يرفع من مستوى الصورة ويضيف إليها بعداً صوتياً حقيقياً. الموسيقى التصويرية تقدم في النهاية إضافة قائمة بذاتها، ولكنها أيضاً تنطلق من روح المشهد وتحاكي متطلباته. تأليف الموسيقى التصويرية الدرامية بحاجة إلى تنوع أكبر وخيارات أوسع حتى لو كنا نتعامل مع تغييرات في اللحن الأصلي طول الوقت، ولنا في بعض مدارس الموسيقية من أمثال الموسيقار الهندي أ.ر رحمان قدوة في تحقيق ذلك، حتى وإن كانت رغبة الموسيقي أو المخرج تقديم موسيقى تصويرية درامية تتفرد فيها جملة لحنية أساسية.

• مؤلّف موسيقي ومخرج.