2016/11/03

موسيقى “نص يوم”... من يقود السفينة؟
موسيقى “نص يوم”... من يقود السفينة؟

خاص بوسطة - أحمد الضّامن *

رام الله

مسلسل نص يوم من إخراج سامر البرقاوي وانتاج صبّاح ميديا أثار الكثير من الآراء المتباينة على الانترنت بين معجب ومنتقد. وكانت كثير من الانتقادات تحوم حول عناصر الفيلم المستقاة من أعمال أخرى، ولا أستطيع أن أخفي دهشتي عندما شاهدت الشارة للمرة الأولى وصرخت بيني وبين نفسي True Detective. فالمشابهة هنا ليست مجرد مقاربة في روح تصميم الشارة، بل هي أقرب إلى مطابقة تامة في عدد من الكوادر. وتمتد المقاربات من بوستر العمل إلى وقصته، وحواره، وكوادر المخرج إلى ما غير ذلك من المقاربات مع عدة أفلام أجنبية.

ولكنني سعيد أنني سأتحدث عن العنصر الأصيل أو ال original بلا شك ضمن التركيبة الدرامية ل "نص يوم"، وهو موسيقى العمل. وقد تم تسجيل هذه الموسيقى في مسرح Rudolfinim في براغ مع الاوركسترا الفلهارمونية وقيادة أكثر من مايسترو. وهذا بلا شك اهتمام عال بالموسيقى يثير الإعجاب والاحترام. وقد باتت براغ محطاً للكثير من الموسيقيين العرب مؤخراً لقلة التكلفة المادية مقارنة بأماكن أخرى في العالم، ولعراقة هذا البلد واهتمامه بمجال الموسيقى بالذات. ومنهم الموسيقي اللبناني زياد بطرس الذي سجل آخر ألبومات الفنانة جوليا بطرس في براغ. والتشيك غنية عن التعريف، فهي موطن أشهر الموسيقيين الكلاسيكيين من أمثال بيدرش سميتانا، وأنتونين دفورجاك، وغيرهم من الأسماء اللامعة في تاريخ الموسيقى.

وقد اجتمع أكثر من مؤلف موسيقي على مهمة تأليف موسيقى "نص يوم"، فموسيقى شارة البداية من تأليف الاسترالي Peter Cavallo، وشارة النهاية من تأليف السويدي Per Kihlborg، أما الموسيقى التصويرية داخل العمل فهي من تأليف موسيقيين بريطانيين هما Bob Good و Dominic Haward Peel.

وقد تظن بداية أن "كثرة الطباخين تفسد الطبخة" كما يقول المثل الشعبي، لكن هذه الاختيارات من الموسيقيين، واتساقها بين مؤلف وآخر، وقعت على عاتق الموزع ومهندس الصوت السوري أنس الشربجي، والذي يعيش في هولندا. وللأمانة فإن الشربجي قد نجح في جعل ٤ موسيقيين يؤلفون موسيقى متناسقة لعمل درامي واحد. فمقطوعة البيانو التي تتكرر في الفيلم، والتي أظنها من تأليف الموسيقيين البريطانيين، تتبع جملة لحنية مشابهة لشارة النهاية من تأليف الموسيقي السويدي، على أنها تستقر على درجة لحنية أعلى من الشارة. وكلاهما تشبهان إلى حد ما شارة البداية للموسيقي الأسترالي. فكل هذه الألحان هي على مقام النهاوند/المينور من درجات مختلفة، وتحمل توزيعات لحنية متشابهة في الآلات الموسيقية، وهذا بلا شك يساعد في التقارب.

لذلك فإن أقرب إجابة على عنوان المقالة: من يقود السفينة؟" في "نص يوم" تشير إلى أنس الشربجي، الذي جمع هذه الألحان معاً. وهي إجابة مقنعة للبعض وغير مقنعة في الوقت نفسه، فالشربجي لم يؤلف أياً من موسيقى العمل، ولم يتم تسجيل الموسيقى في الاستوديو الخاص به أيضاً. كما أنه لم يكن المشرف الوحيد، فالذي أشرف في الواقع على تسجيل الاوركسترا في براغ ونفذها كان المايسترو التشيكي Petr Pycha. كما أن الإشراف الفني ليس بأهمية التأليف والتوزيع. وبما أنني قد عملت مشرفاً على وحدة أكاديمية لفترة من حياتي، فقد تعلمت بأن المدرب والمنفذ هما من يصنع الحدث، وهذا لا يقلل من دور المشرف، إلا أنه لا يعني أننا نتحدث عن شخص واحد كان يتحكم بالأدوات التي يشرف عليها، خصوصاً في هذه الحالة. لذلك فإن الإجابة أقرب إلى أن "الطاسة ضايعة" كما يقول مثل شعبي آخر. وقد يكون لهذا عدة أسباب. فتشابه مقطوعة البيانو الأكثر استخداماً في الموسيقى التصورية لموسيقى شارة النهاية، يعني بأن الموسيقى التصويرية اعتمدت لحن السويدي Per Kihlborg كوجهة لها. وهذا يعني أن دور الأسترالي Peter Cavallo أتى قبل المؤلفين الآخرين أو بعدهم. ويقودنا هذا إلى التساؤل: هل جاء هذا التوزيع على عدة مؤلفيين مقصودا، أم كنتيجة لأسباب لوجيستية كانشغال أحد المؤلفين، أم أن الاتفاق مع أحدهم لم يكتمل؟

لكنني أدعي أن غياب "القبطان" عن سفينة موسيقى العمل لم يكن موفقاً، خصوصاً في ما يتعلق الموسيقى التصويرية داخل العمل. ذلك أن الخيارات أتت مشابهة لقطع موسيقية سمعتها مراراً وتكراراً في الكثير من الأعمال خلال السنوات الماضية. مثلاً مشهد قتل المحقق، كان عبارة عن آهات لأنصاف الأبعاد (minor intervals) أيضاً من فئة المينور تعلوها النحاسيات. هذه الفكرة الموسيقية تم استهلاكها في عشرات الأعمال السابقة. ومشاهد السرعة تتكرر فيها الضربات الخشبية المتسارعة Staccato بدون أن نسمع لحناً مميزاً أو حركة فريدة، والبيانو يصعد وينزل في الدوائر الضيقة ذاتها. وقد لا تكون هذه في العادة نقطة تستحق الانتباه، لو لم تحظ الموسيقى منذ البداية باهتمام، وتسهيلات، وترويج من قبل القائمين على العمل. وهذابالطبع يرفع من سقف توقعات المتلقي. وإنني أظن، والله أعلم، أن ملحناً واحداً كان سينتبه إلى هذه التكرار في النهاية، خصوصاً أن المسلسل الدرامي يحتاج إلى الكثير من التأليف الموسيقي، وسيحاول أن يقدم في بعض المشاهد موسيقى فريدة تضيف بعداً آخر للمشهد.

أما فيما يتعلق بما تردد من أخبار حول "ترشح المسلسل لجائزة عالمية"، ومنها "بوسطة"، فأخشى أن هذه معلومة غير دقيقة. ذلك أن مؤلف موسيقى الشارة الأسترالي، ترشح لجائزة في مهرجان في أستراليا، ترشح لها موسيقيون آخرون كلهم أستراليون. لذلك فإن الأدق أن نقول بأن "مؤلف الشارة ترشح لجائزة محلية عن تأليفه لشارة العمل". ويبدو ذلك واضحاً لمن يزور الصفحة الرسمية للمؤلف الأسترالي، فهو يركز الكثير من الاهتمام على عمله في "نص يوم". ويبدو أن "نص يوم" أهم أعماله الدرامية. ومما أثار استغرابي أنه يعرض خلال موقعه الرسمي لبعض الموسيقى التصويرية للمسلسل، ومنها مثلاً مشهد التقاء ميّار وميسا أمام المرآة، لكن اسمه ذكر فقط كمؤلف لموسيقى الشارة وليس كأحد مؤلفي الموسيقى التصويرية.

وقد تناقلت عدة وسائل إعلامية قبل ظهور المسلسل خبر "المفاجأة" المتوقعة في ما يخص موسيقى الشارة، وثم تبين أن المفاجأة هو أن الموسيقى لحنية، وأن أحداً لن يغني خلال الشارة. هناك في الواقع الكثير من الأمثلة في الدراما السورية والمصرية والعربية على روائع للموسيقى البحتة في شارات الأعمال. الأمر ليس جديداً مطلقاً وليس "مفاجأة". بل أن المفاجأة، كما ذكرت في مقالي السابق عبر "بوسطة"، أن تصبح الموسيقى الغنائية هي "موضة الشارات"، وأن تكون الموسيقى اللحنية "استثناء".

ويحضرني هنا سؤال هام شغلني طوال حلقات المسلسل: ألم يكن من الأجدى، طالما أن الموسيقى سيوضع لها هذا الاهتمام ويتم تسجيلها في براغ، أن تعطى هذه الفرصة لواحد من المؤلفين العرب المخضرمين أو حتى المؤلفين الشباب الموهوبين، والذين ينتظرون فرصة مثل هذه ضمن المساحات الضيقة جداً في العالم العربي؟ إن الموسيقى التي ألفها Cavallo مثلاً للشارة، قد تبدو مميزة للأذن الغربية، وهي فعلاً موسيقى متسقة وموزعة بشكل جيد، لكنني لا أجدها مميزة في النطاق العربي. لا أظن أنني سأرددها بيني وبين نفسي في يوم من الأيام. وتبدو حيرة المؤلف واضحة أثناء محاولته محاكاة الموسيقى العربية عندما يطعم لحنه بحركة تشبه مقام "النوا أثر" الشرقي مثلاً في منتصف اللحن ثم يتحول فجأة إلى ميجور أو Augmented في نقلة شبيهة بنقلات موسيقى الجاز. وذلك ليس انتقاصاً من الموسيقيين الذين قدموا موسيقى العمل، ولهم كل الاحترام على جهودهم. إنني أتفهم تماماً كيف يسمع أي أجنبي موسيقانا ويحاول أن يتعامل معها بطريقته، فأي حركة غريبة أو مختلفة قد تعني أنها شرقية أو عربية من وجهة نظره. ونحن هنا لا نتحدث عن موسيقيين عالميين استطاعوا كسر هذا الحاجز بين موسيقى الشعوب بعد سنوات من الخبرة من أمثال الراحل موريس جار أو المؤلفة ديبي وايزمان، والذين حقّقا جانباً من النجاح في هذه المعادلة الصعبة. إنما عن موسيقيين يشقون بداية طريقهم في الغرب، ولم أسمع بهم قبل اليوم. وقد أثبت العديد من الموسيقيين السوريين والعرب مراراً وتكراراً أن لديهم القدرة على تقديم أعمالهم بمستوى عالمي. لماذا إذن كان الخيار بالنسبة للسيد الشربجي والقائمين على العمل هو التوجه للمؤلفين الغربيين؟ أم أن عقدة الخواجا باتت متأصلة حتى أصبح كل ما شقر لونه ذهباً؟

*مؤلف موسيقي ومخرج .