2012/07/04

هائل اليوسفي في حضرة الوداع
هائل اليوسفي في حضرة الوداع


تشرين


ارتبط اسم المحامي الراحل هائل اليوسفي منذ ما يزيد على خمسة وثلاثين عاماً بالمسلسل الدرامي الإذاعي الشهير «حكم العدالة»، الذي كتب منه الراحل أكثر من خمسة آلاف حلقة، بثت عبر إذاعة دمشق.

وعلى مدار نيف وثلاثة عقود تغير الطاقم الفني للمسلسل من مخرجين ومساعدين ومهندسي صوت، وشارك في أداء شخصياته السواد الأعظم من فناني وفنانات سورية، الكثير منهم امتدت مشاركته في العمل لأكثر من عقدين. وحتى بث الحلقة الأخيرة من المسلسل بقيت إذاعة دمشق قادرة على منافسة القنوات الفضائيات السورية والعربية، في وقت بث المسلسل عبر الأثير، ليبقى العمل الأكثر متابعة وإثارة للانتباه، ذلك أنه أول دراما بوليسية إذاعية تعايش معها السوريون منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي.

وقد ساعد الفقيد في إعداد المسلسل في السنوات الأخيرة نجله المحامي الأستاذ منيب هائل اليوسفي، وساعده كذلك نجله الثاني الأستاذ منار اليوسفي.


إذاعة «حكم العدالة»..

الواحدة والنصف من يوم الثلاثاء من كل أسبوع، كان موعد المستمعين السوريين مع المسلسل الذي ألف عامة الناس شخصياته الرئيسة، وأبرزها شخصية (الرائد هشام) و(المساعد جميل)، الذي يتبع الأسلوب العثماني المعروف لانتزاع الاعترافات من المتهمين بالقوة. وقد ظلت هاتان الشخصيتان الثابت الوحيد في السلسلة الإذاعية، وغالباً ما كان الثنائي (هشام وجميل) محل تندر السوريين.

ويعد عمل اليوسفي- رحمه الله- المسلسل الأكثر شهرة والأطول عمراً، لا في تاريخ الإذاعة السورية فقط، وإنما في تاريخ الإذاعات العربية قاطبة، حتى ان بعض المواطنين في بلدان الجوار (لبنان والأردن) يقولون لبعضهم بعضاً «افتح لنا على إذاعة حكم العدالة»، ولعل هذا النجاح المنقطع النظير للمسلسل الإذاعي، الذي استند في مادته الرئيسية إلى ملفات القضاء السوري، هو ما جعل مبدعه الراحل يصدر المئات من حلقاته في ثلاثة كتب ضخمة حملت اسم الاسم نفسه.

ومن القصص الطريفة الدالة على أهمية المسلسل ومدى تأثيره في الشارع السوري والعربي، قصة يذكرها الأستاذ اليوسفي في أحد حواراته الصحفية، مفادها ان السيد لويس فارس مدير مكتب إذاعة «مونت كارلو»، وكانت يومها أقوى إذاعة تبث في المنطقة، جاء ذات يوم وعرض عليه ومن ثم عرض على مدير البرامج في الإذاعة الأستاذ فاروق حيدر مبلغاً كبيراً، مقابل أن تقوم إذاعة دمشق بتغيير بث المسلسل لينتهي في الساعة الثانية بدلاً من الساعة الثانية والربع (يوم الثلاثاء)، والسبب في ذلك انه كانت هناك نشرة أخبار في «مونت كارلو» موعدها الساعة الثانية وكان «حكم العدالة» يحول المستمعين من «مونت كارلو» إلى إذاعة دمشق، وتطرق (فارس) حينها إلى موضوع حساس بأنه «مفوض من باريس بدفع أي مبلغ».

ولعل من أهم عوامل نجاح واستمرارية بث العمل عبر الأثير، قدرة الراحل على مواصلة كتابة حلقاته طوال هذه السنين، رغم أنه وإن حمل عنواناً واحداً هو «حكم العدالة»، إلا أن كل حلقة هي عمل درامي يختلف عن سواه في الموضوع والمعالجة والأهداف والإسقاط والغايات المطلوب إيصالها إلى المستمع.

ولم يقتصر المسلسل على جرائم القتل من قضايا الجنايات فقط، وإنما تناول العديد من الجرائم كالسرقة والتزوير والاغتصاب وقضايا الطلاق، التي تناولها في المئات من الحلقات، متطرقاً إلى الأسباب المؤدية إلى الطلاق من فقر وتشرد ومخدرات ومسكرات وميسر وغياب فعلي ومعنوي لرب الأسرة عن منزله، وغيرها من الأسباب القريبة والبعيدة، بأسلوب درامي شائق.

وقد أسهمت الحبكة الدرامية المتصاعدة في العمل تصاعداً مثيراً، إلى أن تتكشف تباعاً خفاياها وملابساتها، في جعل المستمعين يتابعونه من أوله إلى آخره.

وبفضل تطور العمل درامياً، من خلال مثابرة الأستاذ اليوسفي، فقد نالت السلسلة الكثير من الجوائز الذهبية في العديد من المهرجانات العربية، في تونس والقاهرة، في دورات مهرجان اتحاد إذاعات الدول العربية، من أهمها دورة عام 1996م في القاهرة، حيث نالت الحلقة المشاركة في المسابقة الرسمية ثلاث جوائز ذهبية.

في أحد حواراته الصحفية، لم يخف الأستاذ اليوسفي معاناته مع «الرقيب»، الذي رفض له العديد من الحلقات التي كتبها لأسباب عدها الراحل «غير منطقية». ومن المفارقات أن إحدى هذه الحلقات التي تم منعها، وأصر الأستاذ اليوسفي على إعادة تقديمها- بعد لف ودوران- نالت عدة جوائز في إحدى دورات مهرجان الإذاعة والتلفزيون العربي في القاهرة. وبسبب نجاح العمل جماهيرياً عمل المخرج سيف الشيخ نجيب على تحويل حلقات مختارة من السلسلة إلى عمل تلفزيوني، كتب السيناريو والحوار لها نور الشيشكلي ورانيا البيطار، وحمل عنوان «وجه العدالة»، من ثلاثين حلقة أنتجها الفنان سامر المصري في العام 2008م.  والأستاذ اليوسفي صاحب صولات وجولات في عالم المحاكم والقضايا الكبرى والمحاماة، وقد بدأت علاقته بالإذاعة السورية في بداية ستينيات القرن الماضي، حيث عمل فيها مذيعاً ثم معلقاً سياسياً، وقد كان الأصغر بين المعلقين الخمسة العاملين في الإذاعة السورية آنذاك، وقد قادته مواهبه من العمل كمذيع، إلى تحرير التعاليق السياسية، ومنذ تلك الفترة مر الفقيد بمراحل وتجارب كثيرة أسهمت في إغناء شخصيته وتفتحها.