2012/07/04

«وهــلأ لـــوين» صرخة في وجه الخراب الإنساني
«وهــلأ لـــوين» صرخة في وجه الخراب الإنساني


سلوى عباس - البعث

في السابع من أيار عام 2008 نشرت النجوم ضياءها البهي في روح المخرجة نادين لبكي، وامتدت الغبطة كالنور على كل المساحات، وقفزت إليها زهور الجنائن، والضوء لفح لياليها المديدة آن هلت لحظة عرفت فيها أنها حامل، فرسمت صورة استقبال وليدها بدمها، ونسجت كل أحلامها حول لحظة ستشرق في حياتها، وتصبح أماً، وقد علمت بالخبر في اليوم نفسه الذي شهد إشارات واضحة لأجواء الحرب الأهلية، بدءاً من نصب الحواجز على الطرقات، وإقفال مطار بيروت وإشعال الحرائق وإطلاق رصاص وقتلى وجرحى، فالذين تجاوروا لأعوام مديدة، وترعرعوا سوياً، وارتادوا المدرسة نفسها عاماً تلو آخر، أصبحوا يتقاتلون، لاختلاف الأديان والطوائف بينهم. من هنا برز السؤال الذي سألته لنفسها: “عندما أرزق بهذا الطفل ماذا سأفعل كي أمنعه من حمل السلاح والنزول إلى الشارع؟”..

انطلاقاً من هذا الهاجس برزت فكرة فيلم “وهلأ لوين” الذي تبدؤه المخرجة  لبكي بسردها للحكاية قائلة: “هيْ حكايتي رح احكيها ولمين ما كان بهديها، حكاية ناس بيصلوا وبيصوموا، جمعتهم المحبة عمرهم كله لكن الزمن حكم عليهم يلبسوا تياب السود”.. تترافق هذه العبارات مع مشهد نساء مسلمات ومسيحيات يجللهن السواد يحملن الزهور وصور موتاهن الذين قتلتهم الحروب، ويتجهن إلى المقبرة التي يتجاوز عدد قبورها عدد سكان القرية، على وقع أنغام موسيقى جنائزية، فيما صوت الراوية يتابع سرد الحكاية، وعند وصولهن لا يمنعهن حزنهن من أن يتفرقن لتذهب كل واحدة إلى المقبرة التابعة لطائفتها.

في قرية بعيدة عن المدينة، مزروعة بالألغام، والبثّ التلفزيوني فيها لا يأتي إلا نادراً وعندما يأتي يحمل مخاطر الإباحيّة والتفرقة الأهليّة. وحدهما المراهقان روكز ونسيم، يغامران بالخروج عند الفجر على درّاجة ناريّة، يحملان منتجات الضيعة، ويعودان بالحاجيات الأساسيّة لأهالي القرية من إسلام ومسيحيين والذين يعيشون مع بعضهم منذ زمن بعيد، تنظم حياتهم بساطة العيش وألفة الحياة، يختلفون ويتفقون على أشياء طبيعية مثلما يعيش كل الناس، لكنها الحرب تخترق سلامهم وتحرك في دواخلهم نزعة الشر والاقتتال، فينمو بينهم سور من الأشواك وزمن من غبار ينثر لونه على قلوبهم، ومساءات من وجع لا ينتهي، فهجرت ممالك النوم عروشها، ورسم ظليل من ألوان الروح يسكب على الأنحاء استطالات السهر يعيد ملف الاحتقان لقرص الذكريات، ويخربش على الصور البهية خطوطاً من رماد الحزن، هكذا يرخي شبح الفتنة الطائفية بثقله على أهالي القرية فيثور رجالها يملؤهم التوتر والحقد، وهم الذين قضوا عمرهم يتقاسمون الحياة بحلوها ومرها، وتتحد النساء لمنع الرجال من الإنزلاقات الخطرة التي سيدفع أهل القرية ضريبتها المزيد من الموت والحزن الذي خيّم على قلوبهم وطبعها بالسواد، وتلجأ النسوة لاستخدام وسائل غريبة وغير مألوفة لإبعاد الخطر عن قريتهن وحماية أبنائهن، مهما كانت التضحيات كبيرة، حتى بلغ الأمر بهن حدّ الشعور بالقرف والغضب من ارتداء الأسود، ودفن الأحبّة، والبكاء على الراحلين، فيبدأن برسم الخطط لمنع الرجال من الانجرار وراء الحرب التي ذاقوا مرارتها سابقاً، ويحضرن راقصات أوكرانيات ليجذبن الرجال إليهن ويقدمن لهم أثناء ذلك الحلويات والمعجنات المطبوخة مع الحشيش المخدر في محاولة لتغييب عقولهم المريضة بالحرب والاقتتال ريثما يقمن بأخذ كل الأسلحة الموجودة في القرية ودفنها بعيداً.. وذات صباح تستيقظ القرية، وقد انقلب حالها فأصبح مسيحيّوها مسلمين ومسلموها مسيحيّين، وأصبح ممكناً دفن الشاب نسيم بسلام، الذي كان مشهد تشييعه خاتمة الفيلم حيث احتار المشيعون إلى أي مقبرة يأـخذونه وملامحهم تنطق بالتساؤل: “والآن إلى أين”.

يصوّر الفيلم في مشاهده المتناقضات حيث يضع الجمال مقابلاً للقبح والحياة معادلة للموت والحب نقيضاً للكره، هذه القيم المستمدة من الإسلام والمسيحية، وبالتالي فإن كل ما تسعى إليه نساء الفيلم هو تكريس لتلك القيم والتقريب بين الجامع والكنيسة المتلاصقين مع بعضهما كما بيوت المنتمين إليهما، حيث يجتمع فيهما المسيحي والمسلم تجمعهم علاقات الحب بغض النظر عن الانتماء..

جرعة كبيرة من الجرأة يحملها الفيلم في تطرقه لتابوهات كان محرماً الاقتراب منها، بدءاً من تحطيم تمثال السيدة العذراء ودخول المواشي إلى الجامع، مروراً بتزييف ظهور العذراء لبث رسائل غير حقيقية في المجتمع.. وأيضاً من خلال مشهد الأم التي فقدت ابنها المراهق نسيم، أثناء زيارته المدينة لشراء ما تحتاجه نساء القرية، وهناك قتلته الحرب. حيث تهرع إلى الكنيسة تخاطب العذراء تهاجمها، تبكي أمامها فقدان ابنها. تسألها عن ابنها وعن ضرورة أن تحمي الناس، وهنا تتعادل الصورة، الأم الفاقدة لابنها تساوي بينها كأم وبين العذراء كأم أيضاً، أم مات ابنها تتحدّى أماً مات ابنها أيضاً. هذه الأم التي تقول في الفيلم: “يُمكن أن أطلِقَ النار على قدم ابني. يُمكن أن أدفع ابني إلى مشاهدة فيلم إباحي. يُمكن أن أفعل أي شيء كي أحمي ابني من الموت”.. لذلك ومن  أجل هذه المواقف التي وقفتها النساء في وجه الحرب تهدي نادين لبكي فيلمها للأمهات لأنهن الأكثر عذاباً جراء الحرب الأهلية اللبنانية، ولأنهن الشاهدات على كل قطرة دم ذرفت من خلال استغلال تواجد الطوائف في مناطق جغرافية واحدة ومحاولة تدمير البلد.

فيلم “وهلأ لوين” يقدّم رسالة توعية قائمة على سؤال: لماذا نفعل هكذا بأنفسنا، وإلى أي مدى يمكننا تقبل اختلافنا مع الآخر كما هو، وأن ننطلق بأفكارنا وممارساتنا بعيداً عن التعصب الطائفي، ونتعلم من تجاربنا وأخطائنا، ونرسم لحياتنا مستقبلاً مشرقاً بآمالنا وأحلامنا، وأن تكون الصرخة التي تطلقها لبكي في الفيلم “بيكفي.. خلص ماتعلمتوا بعد.. كونوا لوطنكم، لمستقبلكم، لحبكم، لشوقكم، لأولادكم، لأحلامكم... واقطعوا الطريق على دروب الماضي المخزي والمخجل...”..

صرخة في وجه الخراب الإنساني، ولنجعل أغنية الفيلم التي صدح بها صوت المطربة رشا رزق هادياً لنا في ليلنا الذي قد يطول إذا لم نصنع نهاره بوعينا، وإحساسنا بمسؤوليتنا تجاه وطننا، تقول كلمات الأغنية:

“يمكن لو في بيني وبينك حكي.. كنا حكينا.. يمكن لو في بيني وبينك دمع .. كنّا بكينا.. لو كان في طريق تودّي شوي شوي كنا مشينا.. أو كان في شي درب يوصّل بيني وبينك كنا لقينا.. يمكن لو في بيني وبينك حلم كنا غفينا.. يمكن لو في بيني وبينك سلْم كنا نسينا.. لو كان في طريق تودّي شوّي شوّي كنا مشينا.. أو كان في شي درب يوصّل بيني وبينك كنّا لقينا.. يمكن في نغمة وحدة بيني وبينك عم بتعيد.. يمكن في ناس كتيري بيني وبينك ما بتفيد... يمكن في قمر أو في شجر أو في جسر حديد... يمكن في سهل أو في جبل أو في شي وادي بعيد.. يمكن في طريق جديدي بيني وبينك نحنا مش شايفينا... يمكن لو”.

بطاقة الفيلم

قُدم الفيلم في مهرجان كان السينمائي في أيار الماضي ضمن عروض “نظرة ما” ونال جائزة فرانسوا شاليه 2011 في فئة أفضل فيلم روائي طويل، إضافة إلى تنويه من لجنة تحكيم جائزة “أوكومينيك”.

كما نال جائزة الجمهور في مهرجان تورنتو الدولي للفيلم في أمريكا الشمالية، وهي أعلى جائزة في المهرجان، مما يؤهله لجائزة الأوسكار.

الفيلم سيناريو وإخراج نادين لبكي وشاركها في كتابة السيناريو جهاد حجيلي ورودني حداد

يشارك في البطولة الفنانون: سمير عوض- زياد أبو عبسي- جوليان فرح- ساسين كوزلي- عادل كرم- منذر بعلبكي- خليل أبو خليل- مصطفى السقا- نادين لبكي- إيفون معلوف- ليلى حكيم- آنجو ريحان- كلود باز مسوبغ- ليلى فؤاد.

الموسيقى التصويرية: الفنان خالد مزنر- الأغاني: تأليف وأداء تانيا صالح- الأزياء: كارولين لبكي.