2013/08/12

قصي الخولي وفادي صبيح في مشهد من الولادة من الخاصرة
قصي الخولي وفادي صبيح في مشهد من الولادة من الخاصرة

 

إسماعيل مروة – الوطن السورية

 

 

يبدو أن الطقس الرمضان السنوي تحول بقدرة ممول، ومشاركة صناع، إلى موسم للدراما العربية، فلا نحصل على الدراما الجديدة إلا فيه، ولا نعثر على منعكساتنا وخيباتنا ونجاحاتنا إلا في هذا الموسم الذي تحول على صعيد الدراما إلى موسم جردة حساب درامية واجتماعية وإنسانية، فتتزاحم الرؤى والإنتاجات والإبداعات، ثم تحولت الدراما إلى مباريات في التحدي والتنازلات، والسقوف واختراقها أو البقاء تحتها، فتحول رمضان إلى شهر وموسم مزدحم، وتحول العام كله إلى مرحلة من الكمون المقيت، والتنظير، والإعلان عن مفاجآت، لكن هذه المفاجآت موجودة في صناديق لا تفتح إلا في رمضان، ليكون رمضان عيد الجائزة بحق، ليس للصائمين وحدهم، بل للمبدعين الذين صاموا العام كله، ليفطروا على مائدة الجائزة الموسمية!

 

الموسمية والموضوعات

 

مما لا شك فيه أن المتابع لمسيرة الدراما التلفزيونية، والسورية خاصة يجد أن حصرها منذ عقود بالموسم الرمضاني أسهم في تغيير بوصلة الموضوعات، فانتقلت الدراما من الموضوعات المحلية الملحة، لتصبح ذات موضوعات تعني المشاهد والمتلقي العربي الذي صار بإسهام مباشر من الممول والعارض جزءاً مهماً من الصناعة الدرامية، والأمثلة حاضرة بشدة في هذا المجال، فالتغريبة الفلسطينية واجهتها عقبات إنتاجية عريضة لم تنج منها إلا بعد صناعة العمل وفرض الحالة الإبداعية، وإن على نطاق ضيق على المستوى العربي، وكان من حسن حظ التغريبة ما جرى من أحداث 2006 و2009 فنالت حظاً وافراً من العرض والنقد، ولو بقيت الحالة العربية في خمول وسكون لمرّ العمل دون أن يحدث ما أحدث من ضجة.

وعز الدين القسام عمل مهم جداً، ولكنه لم يرق للعارض العربي ممولاً وعارضاً، فضاع واحتفظت شريحة من المشاهدين به، والدوامة المأخوذ عن رواية فواز حداد كان من الأعمال الفارقة والمهمة، لكنه كان خارج خريطة الممول والعارض، فالقاعدة صارت المتعة، وقد تأتي الفائدة عرضاً أحياناً، والرسائل كادت تختفي تماماً من الدراما، وهذا ما ظهر جلياً في أعمال السنوات الأخيرة، وخاصة دراما البيئة الشامية التي صارت على كل شفة ولسان، وتحولت إلى الدجاجة التي تبيض ذهباً للمنتج والعارض بالتعاون مع المعلن. وازداد الأمر تعقيداً عندما دخلت الدراما في زواريب الفكر والسياسة والأدلجة التي يحتاج إليها مجتمعنا، ولم تعد الدراما قادرة على التشريح كما يجب، ولا يستطيع المتابع أن ينسى عملاً مهماً مثل (حمام القيشاني) الذي كانت بنيته الفكرية طاغية على البنية الدرامية، وقد حاول فيه دياب عيد وهاني الروماني تقديم المجتمع السوري بقراءة قد نتفق معهما فيها، وقد نختلف، ولكن هذه الرؤية كانت متقدمة منذ عقود على ما تقوم به الدراما اليوم من استسهال فكري أساء أكثر مما أحسن، ويأتي بعد ذلك من يدافع ليقول: إن الإنتاج لم يؤثر في المستوى، ولم يؤثر في الرؤية المجتمعية!

استطاعت الموسمية بالتعاون مع الممول والمعلن تغيير مهمة الدراما من التشريح المجتمعي الإيجابي إلى جعل المجتمع سوبر ماركت يعرض جماليات وقبح مجتمعاتنا التي يصورها دون إعارة أي انتباه للأثر إيجاباً أو سلباً! وتحولت البيئة المحلية من جمالية نحنّ إليها إلى متعة يتندر بها المشاهد، وإلى جاذب يعيد عقارب الزمن إلى الوراء بطريقة فظيعة، ويتجاهل الحقائق والوثائق ليصنع عالماً يروق للمتلقي، وقد تحدثنا وتحدث كثيرون عن حقيقة البيئة الواردة في هذه الأعمال ابتداء من اللهجة والعادات والموضوعات، وصولاً إلى أصغر الإكسسوارات، وتحول الغضب الذي صبوه على «أبو كامل» لتسليط الضوء على فرد خائن أو متعاون إلى مجتمع فيه من العواينية والتعامل ما لا يحتمله مجتمع، إضافة إلى اللهجة الكوميدية بشكلها وعرضها وفجاجتها، وما زاد الطين بلة تلك المكملات التي وضعها مؤلفون أو مخرجون بهارات لبعض الأعمال، والغاية منها المط والتطويل، ولكن الظرف السياسي خدمها، فصارت مثار اهتمام واحتفاء كما حدث مع باب الحارة بعد 2006، إذ تحول إلى مسلسل قومي مقاوم بامتياز لمجرد حديثه عن تعاون حارتين!! ومن حق أحدنا أن يتساءل عن الأسباب التي حوّلت مثل هذا العمل حتى عند منتقدي أدق تفاصيله إلى عمل لا يشق له غبار في كل ميدان!

 

الركون إلى الممول

 

عملت الشركات السورية بوعي وبغير وعي منها على ترسيخ فكرة المنتج المنفذ، ولم تعمل على تحويل الصناعة الدرامية إلى صناعة حقيقية محلية، وأنا أعرف كثيراً من الأمثلة حيث تعرض الشركات المنتجة الملخص على العارض والممول قبل بدء عملية كتابته على أرض الواقع، فإن تجاوب هذا مع رؤية الممول تحوّل إلى عمل ضخم تبذل له كل الأموال، وإلا تم ركنه أو تأجيله، وفي أحسن الحالات يتم إنتاجه من قائمين على الدراما من غير الموهوبين أو المسوقين! وكان بإمكان صناع الدراما أن يحولوها إلى صناعة لكنهم لم يفعلوا، وفضلوا أن تكون صناعة تحويلية بسيطة تهتز لأي مؤثر يأتي من جهة الممول والعارض والمنتج! ولولا تدخل الدولة الإيجابي في سنوات لوقعت الإنتاجات الدرامية السورية في ورطة كبيرة، وكنت ممن لا يذهبون إلى هذا التدخل، لعل المنتج يصحو ويعود إلى تغيير آلية العمل والإنتاج، فتحملت الدولة، وتحمل المواطن أخطاء اعتماد فكرة المنتج المنفذ، فكسب المنتج وخسرت الدراما يومها. وخاصة أن قطاع الإنتاج عند الدولة كان في حالة من السكون، وتنازل الإنتاج العام عن دوره الرائد في الإنتاج، ليكتفي بالتسويق لبضاعة رديئة تخدم المنتج الذي أساء في عملية إدارة الإنتاج. ثم كانت الصحوة في عودة الحياة إلى الإنتاج العام الذي بإمكانه أن يتحمل إنتاج أعمال تخدم البيئة والمجتمع والمواطن، سواء كانت هذه الموضوعات تخدم مصلحة الدولة أم المواطن، فهي في النهاية تصب في مصلحة الكتلة المجتمعية، والمشاهد قادر على الفصل بين الأعمال الترويجية لفكر أو قضية، والأعمال التي تخدم قضاياه، وقد تتقاطع هذه المصالح في كثير من المطارح التي قد لا نعيها.

 

خسارة مستمرة ونزيف

 

منذ سنوات لم تتوقف أزمة الدراما، وأظن أن تدخل الدولة لم يجد كما يجب إلا عندما التفتت إلى إحياء الإنتاج العام من خلال سوريانا، التي صارت تعمل بنشاط ملموس للقاصي والداني، والعالم العربي لا يزال ينتقل من أزمة إلى أخرى، والدلال أو الاستيعاب الذي قامت به الدولة للفن والفنانين أثبت عدم جدواه، فعندما تعرضت سورية لأزمات وجدنا الذين اشترينا كل إنتاجاتهم وأعمالهم، ودفع المواطن السوري من ماله وضرائبه ثمن إبداعاتهم، ووقف يتابع تنظيراتهم، وجدناهم يخرجون زرافات ووحداناً من البيئة الحاضنة، وهنا لا يعنينا من خرج مؤيداً أو معارضاً، الذي يعني أن الشريحة الأوسع من الفنانين والفنانات الذين كنا نتابع حواراتهم وبوزاتهم وزم شفاههم، وتغنيهم بالوطن والوطنية صارت خارج سورية، وأستثني من كان صاحب موقف سياسي مهما كان هذا الموقف، وبعد أكثر من عامين توضحت المأساة في عمقها على المستويين الفني والصناعي للدراما، ومن خارج سورية بدأت صناعة الدراما، ومن أسف حملن اسم الدراما السورية دون أن يمنعهم من ذلك أحد أو مانع! فإذا كانت الدراما تصنع بأيد غير سورية، وفي أرض غير سورية، وينتعش بها مجتمع غير سوري من عامل البوفيه إلى النجوم، فأين السورية فيها؟ وإذا كان هذا الفنان الذي فرض علينا أن نشاهده ونتابعه، بل نخضع لتحليلاته السياسية عندما صار من قادة الرأي! إذا كان هذا الفنان يحمل حقائبه وزوجته وأولاده ليصبح في منأى ومنجى، وهنا لن أدخل في تفاصيل الإساءات للشخصية السورية، ولا أقصد الموقف الحكومي، فهل هذا يمثل الفنان السوري والإنسان السوري؟

تحولت الدراما السورية إلى الخارج، وصارت أكثر خضوعاً للشرط الإنتاجي الممول والإعلاني، وصارت أكثر غربة وغرابة عن سورية، فمهما كان السبب، ومهما كانت العوائق، لا أتخيل أن تبنى دمشق في أبو ظبي أو دبي أو الرياض، ليتحول أستديو البيئة الكبير إلى أستديو مصنوع! لأن المعالجة لم تكن صحيحة أو سليمة، ولأنها كانت انفعالية عندما تعرضت الدراما السورية لأزمات من 2005 كانت النتائج متردية ومخيبة للآمال، فقمنا بالتعويض ولم نؤسس لإنتاج مختلف وقنوات جديدة خاصة وعامة استمرت الخسارة وتوالى النزيف، وعظمت فكرة الهجرة. وهنا لا بد من القول: من حق أي فنان أو إنسان أن يرحل أو يغادر أو يهاجر أو يتاجر، ولكن هل من حقه أن يتاجر بنا وبهمومنا، وأن يبيض علينا وهو الهارب الناجي بنفسه النائي بنفسه وما له ويعلمنا كيف يمكن أن نحب وطننا وأن نعالج أمورنا؟

 

الأزمة والموسم الحالي

 

الأزمة والمشكلة في بيتك وأنت تعالجها من بيت الجار أو بيوت الجيران، الحريق يلتهم محصولك وأنت تقوم بغمر محاصيل الجوار بالماء لإطفائه! هذا ما ينطبق على الدراما السورية لهذا الموسم، ويجب ألا نكون مجاملين مطلقاً، فعن أي أزمة نتحدث، وخاصة أن من يشخص لم يجرب الكي؟ وكيف لي أن أصدق دموع عين لم تر سورية منذ زمن بعيد؟! وأي حرص على المجاملة يجب أن نتمتع به ونحن نتحدث عن صناعة لا علاقة لنا بها مادياً على أقل تقدير؟ إذا استثنينا الصدقية والفنية والفكرية، وكلها أمور لا تستثنى ولا يمكن أن يتم استثناؤها تحت أي ظرف، لأن العمل الدرامي عمل إبداعي جماعي متكامل، جلّ الأعمال التي تناولت الأزمة في سورية لا علاقة لها بالأزمة أو بسورية، وكلها عملت على حفظ خط الرجعة أو العودة ليبقى أصحابها قادرين على الاستثمار لو تغيرت الظروف التي تعصف بسورية.

وأزعم أن هؤلاء عند انتهاء الأزمة سيكونون الأقدر على الاستفادة، وسيجدون الطريقة المثلى للتسويغ والتأويل، ليعود أحدهم قائد رأي يقول فيستمع له، فيكون قد كسب الدارين، واستفاد من الأزمة التي طالت أرواح الذين تاجر بأرواحهم وآلامهم، وربما يصبح فاعل خير، ويقوم بتوزيع الهبات في جمعيات أهلية وخيرية! طبعاً ليس من ماله الذي كسبه من آلامهم، ولكن هذه الجمعيات ستستعين به لأنه نجم ومشهور وقادر على الترويج والتسويق للفكرة! وسيغص بريقه، وربما يبكي وهو يرى هذا الكم من الألم الذي لم يعشه ولم يعانه.

يهولك ذلك الكم الهائل من الدمار والدم الذي تصادفه في الأعمال السورية لهذا الموسم، وخاصة تلك المصنوعة خارج سورية، والحقيقة أن ما جرى ويجري في سورية أكبر بكثير مما يتم تصويره، والفظائع التي تجري على الأرض أضخم بكثير، لكن الحقيقة الأخرى أنهم يصورون سورية أخرى، والسوري الذي يتاجرون بآلامه أكبر بكثير مما يصورونه، ولم يكن هناك من مشكلة لو احتجت الدراما وصناعها على ما يجري! وماذا لو وقف فنانونا وقالوا: لا للدراما هذا الموسم والدم يسري على الأرض السورية؟ ألم يكن هذا الموقف أكثر فعالية وجدوى؟ ألم يكن لهذا الموقف من صدى لو قام به فنانونا؟ كل واحد سيقول: نريد أن نعيش، ولكن كيف؟

أقول هذا وأنا أقرأ معالم غربة الدراما عما يحدث في سورية، أو عما يحدث في دمشق باستعارة من العمل الدرامي السوري، فكل الأعمال سواء تناولت الأزمة أم لم تتناولها كانت غريبة عن الأزمة التي تعصف بسورية، وأول مرة أشعر، وأنا المتابع أن هذه الأعمال لا تشبهني، ولا تشبه ما يجري على أرض الواقع، وهي إن أشبهت تبقى غريبة، وفي شروط أخرى وظروف أخرى.

ليس المطلوب من الدراما والإبداع أن يقدم حلولاً، ولكن ليس مطلوباً منه أيضاً أن يزيد جرعة الألم التي تفيض من جوانب حياتنا، وتغطي على أرواحنا، ليس مطلوباً من الدراما أن تجلد الإنسان السوري الذي لا يزال متمسكاً بأرضه، لتظهر أحدهم مخبراً بلا ضمير، والآخر لا علاقة له بالوطن. ما جرى في سورية خطر، وأسس على سنوات طويلة، وكان نتيجة أخطاء وتراكمات طويلة، وكان نتيجة استهداف حقيقي، وكان نتاج مخططات نحن جزء منها، فهل عملت الدراما على ذلك؟ لا أظن.

في هذه الوقفة أحاول أن أتناول الأعمال الدرامية بشيء من التفصيل في الرسم والغايات، ولن أدخل في تفاصيل الأعمال والشخصيات، فهذا من شأن المتخصصين المتعمقين، وأنا لست كذلك، إنها مجرد انطباعات قد أصيب فيها وقد أخطئ، لكن هالني ذلك الكم من المتاجرة والكسب باسم الفن والإبداع على حساب الدم السوري والإنسان السوري والهم السوري، أقول هذا لا يعنيني أبداً استمرار عجلة الإنتاج أو توقفها، وأظن أن أغلبية السوريين يحملون رأياً مشابهاً أو مقارباً والذي يعنينا بالدرجة الأولى أن يتوقف الدم السوري المراق على الطرقات، وأن تتوقف المتاجرة بالسوري وآلامه في الداخل والخارج، وأن تعود للسوري هويته التي يريدون له أن يفتقدها، فالسوري –عدا حالات فردية- لم يكن مستجدياً أعطية أو معونة، بل كان هو الذي يعطي الآخر، وسورية لم تكن بحراً للدم، بل مساحة للتسامح، تعطي دروساً فيها.. والذي يثير العجب والاستنكار أن ما يحصل مع السوري أقل مما تقوم به الدراما من دور في تقزيم صورته وتهشيمها.

خرجت الدراما من سورية، وخسرت عائلات كثيرة كانت تعيش منها، ولكنها عادت لتعطي دروساً لا يعرفها أصحابها، وعادت لتصور ألماً ما لمسه أصحابها، ولتصور قهراً رأوه وهم في بيروت أو دبي أو في أي مكان من العالم.

إن ما كشفته الأزمة في الجانب الفني والإبداعي والنخبوي أخطر من أن تتم الإحاطة به، والقراءة المتأنية في الأعمال الدرامية تظهر ذلك، وتبرز على الملأ أن الغاية ليست الوطن أو سورية بقدر ما هي الغاية أن يبقى المنتج المنفذ مسيطراً ومهيمناً، وألا يخسر دوره وماله في دورة تدور على سورية وإنسانها.

إنها دعوة مخلصة للمكاشفة والقراءة قبل أن تضيع البوصلة نهائياً، وليعلم الجميع من المبدعين، وهم من الأصدقاء الذين أكن لهم الود والتقدير أن ما يجري ليس خاصاً بالناقد والإنسان السوري، بل سيطولهم هم أيضاً وسيتحولون إلى كتبة ومخرجين ومشخصين حسب السوق الرائجة، وهم سيفقدون أماكنهم التي تعبوا في الوصول إليها، والتي قدمها لهم الإنسان السوري متابعة وإعلاماً وترويجاً، المتمعن منهم فيما تم إنجازه خارج حدود سورية سيجد أنه قد يتحول إلى سنيد أو كومبارس في مرحلة لاحقة، ولن يقتصر الأمر عند هذا الحد، والأمثلة كثيرة، وربما وقفت عندها بالتفصيل عند تناول الأعمال الدرامية، ولن يفيده في شيء قول أبي المقداد «لا تخش شيئاً!» عليه أن يخشى، فالخشية أعلى مراتب الحب، وأنا أخشى على هذه الصناعة العظيمة الانفلات من أيدي صناعها.