2014/01/09

رفيق السبيعي والمعاناة الكبرى...قامة فنان الشعب التي اختصرت تاريخه
رفيق السبيعي والمعاناة الكبرى...قامة فنان الشعب التي اختصرت تاريخه

 

أنس تللو – الوطن السورية

 

 

 

كنـز تراثي كبير، يحمل في طياته جواهر ولآلئ يتطاير سناها هنا وهناك ؛ فتشع حتى تبهر الناظرين، يجمع في شخصيته معظم الشخصيات التراثية القديمة، ذلك أنه عاشق للتراث والأصالة، هو متنوع وأعماله وكثير الإبداعات ومتعدد العطاءات، لكنه يرسخ دوماً في أذهاننا من خلال تلك الشخصية التراثية العريقة التي حملت كل معاني الأصالة، وتحلّت بأبهى حلل الجمال، وتجللت برداء عطِرٍ يفوح شذاه بالإنسانية

 فيعطر الأجواء بالمحبة للتراث وبالتوق للوفاء والإخلاص، إنها شخصية (أبو صياح) شخصية الفنان التراثي العريق، تلك الشخصية الشعبية المحببة التي تسبغ السعادة على نفس من يراها.

(رفيق سبيعي) يفوح من كلماته عبق الأصالة، وتستنشق من جمله رائحة توابل وعطور الحي الذي ترعرع فيه وهو حي البزورية، ذلك الحي الذي لا يلبث أن يذكره حتى يعود بشريط ذكرياته الطفولية إلى جوار الجامع الأموي وقصر العظم...

 

الأسرة وأثرها

 

تربى رفيق سبيعي في عائلة محافظة جداً، وعلى الرغم من ذلك كانت الموسيقا تترك أثراً كبيراً في نفسه، حتى إنه كان لا يؤدي فروضه المدرسية إلا إذا أدارت له والدته آلة الفونوغراف

استهواه الطرب منذ طفولته، حاولت العائلة رسم قدره، لكن الولع الموسيقي زاد عند «رفيق» الطفل وهو ما قاده للتوجه نحو الغناء في بعض الأعراس نتيجة إعجاب الحضور بصوته.

كان الفنان رفيق ابن عائلة فقيرة جداً، وكان أبوه يعمل عند أولاد عمه في شركة شحن بضائع بالقطار، وكان يصطحبه معه إلى محطة الحجاز، وكانت مهمته جمع البضائع من سوق «مدحت باشا» والبزورية، وكان أبوه يتركه في القهوة التي كان يجلس فيها حملة البضائع، الذين كانوا يعطونه كعكاً وشاياً فيغني لهم ليطربهم.

حين بلغ الحادية عشرة من العمر صار يبحث عن الأماكن التي يكون فيها أعراس وحفلات لينمي موهبة الغناء بدأ بالغناء لـ كارم محمود «و» عبد العزيز محمود «و» عبد الغني السيد، كان في أوائل الخمسينيات يعمل ملقناً في المسرح قبل أن يعمل في مجال التمثيل، وكان وقتها الفنان «عبد اللطيف فتحي» يعمل مخرجاً مسرحياً وقد احتاج إلى ملقن، وكان الأستاذ رفيق يعمل ملقناً في مسرح ولكن دون أجرة، رآه مطرب كان اسمه «تيسير عارف» كان يسير مع المرحوم «عبد اللطيف» في منطقة «السنجقدار» وكان يحدثه أنه بحاجة إلى ملقن فأخبره تيسير، وطلب منه الحضور إلى المسرح وجرب أداءه بحفلة صباحية، فأعجبه أداؤه، ثم انتقل إلى مسرح الأندلس الذي أقيم على مكان قهوة التوتة وهو مكان بنك بيمو الفرنسي السعودي اليوم في شارع 29 أيار وبدأ بالتلقين، وبطريق المصادفة كان الممثل «أنور مرابط» يؤدي دور «أبو صياح» في مسرحية، وأراد أنور مرابط أن يتغيب فطلب منه المخرج أن يحضر بديلاً منه لهذا اليوم ؛ فتم اقتراح رفيق سبيعي ليكون هو البديل...

ويومها فرح فرحاً شديداً إلى درجة أنه لم ينم الليل من فرحته، واستعار الشروال من أحد الأصدقاء وجهز نفسه، فأعجب المرحوم عبد اللطيف فتحي بأدائه وطلب منه الاستمرار في العمل، وهكذا ولدت شخصية أبو صياح... وكان يعمل وقتها بليرتين (وكان مشهدا واحدا لمدة خمس دقائق).

 

في آفاق الفن

 

 

ولعله من الجدير بالذكر أن نشير إلى أن الفنان رفيق سبيعي لم يبق حبيس شخصية «أبو صياح» وشهرتها، بل نجح في الخروج من سطوتها الفنية وهذا أمر لم يتمكن من القيام به فنانون كبار.

يقول الفنان رفيق سبيعي عن نفسه: إن شخصية أبو صياح ولهجته الشعبية كانت ساكنة في أعماقه فهو ابن بيئة شعبية، ويحن دائماً إلى هذا الشخصية التراثية التي أوصلت شهرته إلى العالم العربي.

الفنان رفيق السبيعي يعشق شخصية «أبو فهمي»، و«أبو رشدي» خزان الحكايا على الرغم من أنه كان شخصاً أميّا، وفي برنامجه الإذاعي «حكواتي الفن» يسعى الفنان رفيق سبيعي إلى إحياء هذه الشخصية من خلال المقدمة التي يستخدمها، والتي كانت هي نفسها يستخدمها (الفنان المرحوم حكمت محسن) ؛ أبو رشدي (ستاتي وسادتي وأحبائي ونور عيوني الكرام اللـه يسعد أوقاتكن...)

ولا يفوتني أن أذكر أن «أبو صياح» هو من أوائل من أحيا الفلكلور الدمشقي والغناء في العراضة والحمامات.

ولقد عانى كثيراً جداً حتى وصل إلى ما هو عليه، فقد عاندته عائلته كثيراً، حتى إن أباه الرجل الوقور الحازم قد طرده من المنـزل لسنوات... وقد كان يضطر أحياناً إلى القفز فوق السطوح لتفتح له الباب أمه من أجل تناول الطعام أو الاختباء في الخان، أو النوم عند الفران.

الفنان رفيق سبيعي طالما أطربنا بصوته العريق، ما تزال ترن في أذني منذ الطفولة كلمات أغنية ياصلاة الزين وهو يصف بنت اليوم، إذ يقول وهو يصف الفتاة التي أغرتها الحياة الدنيا وتغنت بجمالها فأخذت ترفض العرسان:

عزيزة عزبا، لسه عزبا، عمرا تلاتين، وعيلتها جماعة مستورين، ومناخيرها كتير مرفوعين، ومبتاخد إلا زنكيل، عنده قصرين وأوتومبيلين...

ثم يصف ثقافة الفتاة المتعلمة، التي دخلت المدرسة والجامعة ولم تكتف بل تعلمت لغات أخرى... ثم يتساءل ما فائدة العلم والثقافة، إذا كانت المرأة ليست بارعة في الطبخ مثلاً... يقول: عزيزة بتقرا، بتقرا عربي، وأفرنجي كمان، وشهاداتها غطوا الحيطان، وما طلبوا إيدا العرسان، يا خسارة بتعرف كل شي بس ما بتعرف تقلي بيضتين، يا صلاة الزين على بنت اليوم يا صلاة الزين...

 

نقد اجتماعي

 

ثم يتحدث عن المكياج، طبعاً الفارق كبير بين الجميلة التي صنعت جمالها يد الخالق وبين ذات الجمال التي صنع جمالها يد الحلاق أو الخياط أو أو أو، طبعاً كانت الموضة السائدة آنذاك أن ترتدي الفتيات بنطالاً ضيقاً من الأعلى، عريضاً من الأسفل، وكان اسمه شرلستون، وهي تصر على هذا اللباس وذاك المكياج مهما كانت حالة أبيها متدهورة مالياً، يقول:

عزيزة شقرا، بيضة وسمرا، كل يوم بلون، ومكياحا على وشا طون، وما بتلبس غير شرلستون، وأبوها عايف حالو، معمي قلبو، عايش بالدين، يا صلاة الزين على بنت اليوم ياصلاة الزين..

ثم يتحدث عن تحرر المرأة، ودخولها إلى عالم العشق والحب، يقول: عزيزة حرة، وآخر مرة، حبت ممدوح، وعلى علمي كان قبلو صفوح، وما بتفرق داخل أسعد، طالع أحمد، راجع حسنين... يا صلاة الزين على بنت اليوم...

الحمد لله أنه في وقتنا الحالي لا يوجد منها هذه عزيزة، بل أصبح عندنا عزيزات...

بالنسبة لنا الآن هذه بنت الأمس وليست بنت اليوم، وما أدري إذا طلبنا من أحد الشعراء وضع أغنية عن بنت اليوم ما أدري ماذا يقول...

ولابد من القول إن قصة الفنان الشعبي الكبير فنان الشعب رفيق السبيعي هي حكاية التجربة الفنية السورية في القرن العشرين تلك التجربة التي لا يزال شاهدها حياً، بل مستمراً في نشاطه من خلال أعماله الإذاعية التلفزيونية.

أطال اللـه عمرك يا فنان الشعب وأمدك بطاقات فوق طاقاتك لتقدم لنا إنتاجاً مميزاً كعادتك.