2014/03/27

المغني الشعبي الفلسطيني «أبو عرب»
المغني الشعبي الفلسطيني «أبو عرب»

 

تمام علي بركات – تشرين

 

 

«سرينا يا هلي أيمت نصلهم، بعاد وبالقلب غرزوا نصلهم، الجبل لو شال عن قلبي نص الهم، اتفتت وانمحى وأصبح تراب»

حقيقةً من المستحيل نقل المشاعر والأحاسيس، المختزنة في تلك المفردات مجتمعة في إيرادها على الورق, لأنها وُجدت لتصدح بها أقدم آلة موسيقية عرفها الإنسان ألا وهي الحنجرة, وإذا ما أسعفتني اللغة لأوّصف ما تعشقه الأذن من سحر لفظي محمول على مخمل الشعر، فأستطيع القول عنها إنها:  كروانات مختنقة في حنجرة رجل أربعيني، يركن إلى جمر متقد في ريف بعيد, رجل قد يكون وحيداً، يتدلى من خاطره مشهد غروب أحباء سفحوا شفق غيابهم على آخر رمق, إنه فن العتابا الساحر عندما اعتمد الشعر في صوره وتراكيبه الشعرية ليقول حكمة, أو ليرثي غائباً, أو ليبهج قلوباً ترنمت وتمايلت طويلاً مع طيران أثوابه المزركشة.

رغم اختلاف الشروح التي تناولت معنى وأصل كلمة «عتابا» سواء تلك التي أرجعتها لاسم زوجة هاجرة, أو اسم لمكان منعزل تُرك فيه رجلٌ مصاب بالجدري وحيداً بعد أن هجره أهله وربعه, إلا أن الكلمة تخبر عن معناها وأصلها, العتابا كلمة مشتقة من العتب بمعنى اللوم «عتب عليه, عتبا وعتابا.. لامه بمحبة», كما أن المواضيع التي يتناولها هذا الفن غالبا ما تدور حول المعاتبة المتشحة بحزن خفيض إن كان لحبيب مفارق أو خل غائب, كما في بيت العتابا التالي: «حلو يلي القمر لولاك ميتم، هجرتني وجعلت هالدار ميتم، دجلة والفرات وسيحون ميتم، ما وازوا ربع دمعي عالحباب».

و«العتابا» لون من ألوان الغناء الشعبي المنتشر بكثرة في بلاد الشام «سورية، لبنان، فلسطين».. ولاسيما في المناطق الجبلية والوسطى منها والتي كانت أشهر أصواتها المغني الشعبي الفلسطيني «أبو عرب»، ورغم التسميات المختلفة لهذا الفن حسب المكان  «الموال, الزهيري, المروبع, وغيرها» إلا أنه يتسم في الخصائص والسمات ذاتها تقريباً، ولعل أهم تلك الخصائص هو اعتماده الشعر كمتن للقول أو كحامل فني لشعر آخر مختلف بالشكل والمضمون.

من هنا تأتي فرادة هذا الفن الشعري الوجداني تبعاً لصاحبه الذي غالباً ما يعتمد في نظم «العتابا» على تقنية الارتجال في القول لإظهار الفحولة الشعرية, ومن نافل القول إن طبيعة الجغرافيا التي نشأ بها شاعر العتابا تلقي بظلالها على وعيه الشعري ومفرداته وأسلوبه, فمثلا في الساحل السوري يغلب على الموال كما يسمى الطابع الشعري الحداثوي, الغني بثروة لفظية مذهلة وأسلوب مختلف في طريقة التعبير عن الأشياء كقول أحد شعراء هذا الفن «أحمد شحادة» في الموال التالي: «أنا حولك وعتم الليل مندور، وجهك لشراع الهوى مندور، صرلي بحبك ونسيان من دور، المرتو أنسمت بالعرش حمالة حطب.

كم هو ساحر وخلاب لوي عنق الكلمة ليخرج منها معنى مختلف لم يكن ليخطر في بال, بينما تغلب جزالة الألفاظ وقوتها على هذا الفن في المنطقة الوسطى, كمنطقة الغاب وشاعرها الأشهر «أسد فقرو» الشاعر الذي روي أنه قام بارتجال 4000 بيت عتابا، تعدّ من أجمل ما قيل في هذا الفن المدهش ومنها: «ألا يا جروحي القديمة ماتركني، وهم ال سكن قلبي ما تركني، وغداة الدار تندّه مات ركني، حدوا يا القوافي الفن ساب» فإن كانت المقولة الماركسية الشهيرة «الإنتاج يحدد الوعي», فلسوف تتدخل المهنة التي يحترفها شاعرنا بالحياة بشكل ما بما ينظمه من أبيات العتابا. وهنا لا بد من الاستطراد والشرح قليلا بأن الموال أو بيت العتابا «يالروعة وقع هذا المصطلح في النفس بإيحائه المذهل, تخيلوا بيتا للعتابا, ماذا يقال في ذلك؟ حقا لا أدري!!» يتألف من أربعة أشطر على أن تكون الأشطر الثلاثة الأولى منتهية بكلمة ينطبق عليها الجناس - «اتفاق لفظين في النطق واختلافهما في المعنى», أما الشطر الرابع فينتهي بباء ساكنة مسبوقة بألف أو فتحة، وهذا النوع هو الأكثر انتشاراً في الساحل السوري بخطه الممتد في بلاد الشام, وأحيانا يضم بيت العتابا إضافة للجناس البديع والبيان, لكن الجناس يبقى الأكثر حضوراً وسطوة غيره من حتى صار شرطاً من شروط  قول العتابا وغالبا ما يبنى بيت العتابا على البحر الوافر إذ إنه الأكثر شيوعا في تجنيس الكلمة وهي تدور في فلك الشعر بمختلف ضروبه.

لكن العتابا لا تجد لها موقعا في النفس ولا تعد فنا ما لم تصدر عن حنجرة قوية ورخيمة, تتأرجح في حبالها الصوتية العديد من الطبقات الصوتية القادرة على إعطاء كل مفردة لحنها الخاص بها وإيقاعها المناسب في الجملة الشعرية حسب المقامات الموسيقية المستخدمة في الأداء كالبيات والحسيني الأكثر انسجاما مع فن العتابا في سورية مثلاً, باعتبارهما يتعشقان اللهجة المحكية التي تغنى العتابا بها وترتجل بها أيضا بتناغم بديع يلهب الأرواح والقلوب، ومن مغنيّ العتابا العديد منهم الذين برزوا بأصواتهم الجهورية الرائعة على مستوى الإذاعة والتلفزيون ومنهم الفنان الراحل «فؤاد فقرو-غازي» الصوت النادر فعلاً, ومنهم من اشتهر في الأوساط الشعبية وترددت أغانيهم في السهرات البسيطة والأفراح الشعبية ولكنهم غير معروفين أو لا يوجد من يحاول أن يّعرف الناس بتلك القامات الفنية الجميلة ومنهم المطرب عادل خضور صاحب الصوت الشجي والأغاني التي تخلع القلب من مكانه.