2015/11/21

فيروز
فيروز

السفير - رامي كوسا

تقول الحكاية إن صبيّة قُرويّة سورية ذاع صيتها لجهة غرامها الشديد بالسيدة فيروز. هذا الولع دفع أهل قريتها للتعاون في ما بينهم بغية مساعدة الفتاة على تأمين ثمنِ تذكرةٍ لحضور مسرحية "صحّ النوم" التي أحيتها جارة القمر في دار الأوبرا السورية العام 2008 ضمن احتفالية "دمشق عاصمة الثقافة العربية". كان السعر المُعلن للبطاقة يومها يتراوح ما بين ألف وألفي ليرة سورية، لكنّه ارتفع في السوق السوداء، بسبب كثافة الطلب على البطاقات، حتّى بلغ عتبة 25 ألف ليرة وهو رقمٌ كان يعادل راتب موظّفين اثنين خلال شهرٍ كامل.

على الرغم من ذلك تكاتفَ فقراءُ القرية لتحقيق أمنية الصبيّة، واشتروا لها تذكرة، فتزيّنت البنتُ مثل عروسٍ واتجهت نحو ساحة الأمويين، لتفاجأ هناكَ بعشرات السوريين الّذين لم يتمكّنوا من الدّخول إلى حرم الدار، على الرغم من امتلاكهم بطاقاتٍ مدفوعة الثمن، وذلك بسببِ حجوزاتٍ مسبقةٍ مُنحت لـ "واجهات البلد" من مسؤولين ومستثمرين وضبّاط.

ظلّت الصبيّة جالسةً في محيط دار الأوبرا، لم تشاهد فيروز، واكتفت بسماع صوتها يتسرّب نحو الفضاءات المُحيطة بالمسرح. ربمّا كانت تلك المرّة الوحيدة الّتي استطاع فيها الأغنياء أن يحرموا فقيراً سوريّاً من فيروزه.

"فيروز هي أعلى سلطة بسوريا"، بهذه العبارة الشعرية ينهي أحد عجائز مقهى "النوفرة" الدمشقيّ جدلاً سياسياً يدور بجواره، فيتّفق المختلفون، وعلى الرّغم من أنّ أحدهم راح يغمز لجهة خرف العجوز الشاميّ، إلّا أن جميع الحاضرين يعلمون، ضمناً، أنّه لم ينطق بغير الصواب، فصاحبة "شام يا ذا السّيف" تحوّلت إلى مرادفٍ للأبدية الّتي قال عنها محمود درويش إنّها تسكن دمشق، وللأبدية سلطانٌ لا يُعلى عليه.

سِر في دمشق، اختر الشّارع الّذي تريده، وتمشّى صباحاً. اختر أكثر الأسواق ازدحاماً، استقلَ حافلةً للنقل الداخليّ، ادخل إلى أيّ مقهىً في الشام القديمة، اجلس تحت نافذة أيّ بيتٍ، سوف يترامى صوت فيروز إلى مسمعك أينما كنت، ربمّا تسقط قذيفةٌ في مكان ما، فتثير ذعر العابرين، ويتعالى بسببها العويل والصراخ. هذه كلّها تفاصيلُ تُبكي دمشق حتّى انقضاء الليل، لكنّ المدينة تستيقظ صباحاً على صوت فيروز يملأ الدنيا سلاماً.

في الحروب، ينتصر فريقٌ على فريق، أمّا في الشام، فتنتصر فيروز على الحرب كلّها.

العارف بطبائع أهل دمشق يعلم أنّ أغلبهم متديّن ورع، ويعلم أنّ فنّاً لم يخترق بيوتهم يوماً كما فعلت فيروز الّتي صارت طقساً محفوظاً كما البسملة، فتحوّلت أغنياتها إلى ترانيم يردّدها الجميع، فإذا قابلت صوفياً سوريّاً يغنّي لـ "حنّا السكران" لا تبحث في خلل المشهد، لأنّه على محبّة السّيدة يستوي كلّ من في الشّام.

لدمشق روح يختصرها مشهدٌ لست تراه في أرضٍ أخرى. مشهدٌ يعرفه كلّ من دار حول مسجد بني أميّة الكبير فرأى العشّاق جالسين أمام السور البعيد للجامع، ولدمشق روحٌ أخرى يختصرها صوت فيروز.

في الشّام، لسنا نخشى الفناء فنحن ورثة الشّمس، وأصدقاء فيروز الّتي غنّت، وربمّا قرأت طالعنا فغنّت لنا "أيّام اللي جاية جاية... فيها الشمس مخبّاية... أنت القوي... وأنت الغني.. وأنت الدني... يا وطني".