2016/06/18

«الندم» تجربة فريدة... ولكن
«الندم» تجربة فريدة... ولكن
  بشار عباس _الأخبار
 

منذ الحلقات الثلاث الأولى، قوبل مسلسل «الندم» (حسن سامي يوسف والليث حجو) بأصداء حسنة. ترحيب انتقل ليظهر على الصفحات الزرقاء للعديد من أهل «الكار» بكلمات شكر وثناء، سواء لناحية النصّ، أو الإخراج.

العمل الذي أنتجته شركة «سما الفن»، شكّل لكثيرين بوادر تعاف من المستوى المنخفض الذي ظهرت عليه الدراما التلفزيونية السورية في الموسم الرمضاني الفائت.
لكن على اعتبار أنّ العبرة في الدراما تكون في الخواتيم، فقد بدت تلك الأحكام بجودة العمل متسرعة. لا شك في أنّ العمل يقدم تجربة جديدة فريدة في البناء الدرامي عبر القفز إلى الزمن الراهن «الأبيض والأسود» بافتراض أنّ زمن القصّ الفعلي يسبق الحرب بسنوات.
السؤال الذي تخلقه هذه التقنية: هو إلى أي زمن سينسب الجمهور شخصيات العمل؟ هذه التقنية تشبه «الفلاش - باك» لكنّها بالطريقة المصنوعة في «الندم» ماذا تكون؟ هل يمكن أن تكون «فلاش فوروورد»؟ لكن الأخيرة هي تخيّل في ذهن الشخصية. المشكلة ليست بالتسمية، لكن النهاية في الدراما تحاكي وتنشد الزمن السّردي الأحدث، حتى في البناء البوليسي الذي تقوم نهايته على اكتشاف تفاصيل قديمة. وعليه، كيف ستنتهي القصة التي في الزمن الأقدم؟ هل ستنتهي نهاية منفصلة عن مستقبلها، الذي هو الآن؟ والذي نقفز إليه بطريقة مفارقة، هي تقنية الفلاش باك معكوسةً؟
كل ما يحدث في الزمن الأحدث 2016 هو لغرضين: أولاً صوت الراوي (شخصيّة الكاتب «عروة» محمود نصر) الذي يعّلق ويشرح ويشترك في الحبكة، وتالياً الحفاظ على راهنيّة القصة، لأن سنة 2003 لم تصبح ماضياً مكتملاً ليُحكى عنه كقصّ تاريخي، إذ لا تكفي رنّة موبايل «نوكيا 3310» لتسمية ذلك الزّمن ماضياً أو تاريخاً، فهو ما زال شبه حاضر.
في الحلقات الثلاث الأولى، ظهرت ثلاث متواليات زمنية للقصة، تدرجت في الجودة. الأقدم هي الأفضل، وكلّما تقدّم الزّمن انخفضت القيمة القصصيّة. بدأ ذلك بماضي القصّة، أو «قصّة الدّيك»، وإلى الآن ماضي القصّة أفضل من القصّة نفسها. هذه الشّحنة التي دفعت للتعاطف والتأثّر بشخصيّة الأب ستخبو وتخفت عمّا قليل. أمّا فترة الـ2003، فتحتوي على الأحداث الأكثر ثقلاً، ليأتي الراهن لاحقاً مقتصراً على وقائع الأزمة، من دون قيمة قصصية توازي القصتين السابقتين، ما ينذر بصعوبة تأسيس نهاية جيدة.


في القصّة، عموماً، لا تولد الشخصيّات مع بداية القصة، ولا تختفي مع نهايتها، بل تختار القصة ما هو جدير أن يُقصّ خلال زمن مهم وكثيف، فتنتقى قطعة زمنيّة مضطربة تكون الأجدر أن يُحكى عنها، ويُهمل ما قبلها وما بعدها. أمّا حين يكون ماضي القصة أهمّ ما فيها، فعندئذ يكون الماضي هو القصّة برمتها. عادة يكون الماضي هو الأقل قيمة، ولكن، ولضرورات فهم ملابسات وظروف القصة الراهنة، تمكن العودة عليه إمّا لفظياً عبر الحوار، أو باستخدام تقنية «الفلاش باك». غير أنّ مسلسل «الندم» يشذ عن هذه القاعدة، حيث الماضي هو الأهم، وهو من يشتمل على الزمن القصصي الأطول، فيما يبدو الراهن أقل قيمة، نرجع إليه باستخدام تقنية جديدة يمكن أن نسميها اصطلاحاً «فلاش ـ للتو»، كأنه سخّر ليستعرض ما هو ماثل في الأخبار، وإن بدت له حبكة منقطعة عن حبكة الأسرة، وهي قصّة مفارقة أخرى، لا يربطها مع سابقتها إلّا الامتداد البيولوجي لشخصيّة الكاتب. هذه إشكالية في البناء الدرامي، وقد وجدت شخصية الكاتب (كراوٍ) للتخفيف من حدتها، حيث يقوم بدور الحكواتي، ليس من خلال الدّالّ الأيقوني، بل لفظاً، ليتمكن من تغطية الثغرات، والوصل بين الزمنين، ما يعني أنه، كشخصية، موظف لحل مشكلة قصصيّة، ليس ضمن عالم القصّة، بل ضمن أسلوب البناء.


لا تمتلك شخصية الكاتب مواصفات بطل العمل، بل هي شخصية كاشفة، للشرح والتوضيح، وإشراكه في الفعل الدرامي وقع فقط لأنّه يجب أن يفعل شيئاً. تطوّر وصعود الحبكة، بدايةً مع «الديك» كذروة مرتفعة في الماضي تنُافس، إلى الآن، الذروات الأحدث، وحاليّاً ضمن زمن العرض، بدأتْ ذروة «الابن الضال» (أحمد الأحمد)، ما سوف يجعل القصة، على الأقل، رباعية التطوّر، لأنّ ذروة ثالثة يجب أن تبرز قريباً، في حدود الحلقة العاشرة، وهنا يكون لدينا أربع قصص متعاقبة مكتملة، وليس أربع ذروات، في مسلسل واحد، قد تكون أو لا تكون الرابعة ضمن مرحلة الزمن الراهن، وما يربط بينها هو فقط انتزاع شخصيّة قليلة الأهميّة (الكاتب) من القصة السابقة لتؤسّس للجديدة. إنّ أربع قصص عدد فائض على مسلسل، وإن كان مكسيكيّاً.


لقد تمّ استنفاذ الزمن الراهن (2016) تقريباً. لم يعد فيه من جديد سوى مقارنة الماضي الهادئ المستقرّ بالراهن المضطرب، وسوف تكون حبكته موجودة فقط لأن حبكة ما يجب أن تقع، وليس لاتّصاله القصصي مع مرحلة 2003. إنّ التّاريخي يقع على النقيض مع القصصي، فالحاضر مضطرب -إخباريّاً- لكنّه مستقرّ قصصياً، والماضي مستقر تاريخياً، لكنّه مضطرب قصصياً. ولفصل الزمنين، أو القصّتين، يقوم الخيار الإخراجي بالتّقليل من أهميّة الراهن باستخدام «الأبيض والأسود»، ما يعني استخدام الإخراج على تضاد مع المنطق البديهي القصصي. لأنّ الزمن الأهم في القصة هو الأحدث، والتخفيف من تلك الأهميّة باللون والضوء إجراء غير مؤات، فبما أنّ الزمن الأحدث ذو أهمية أقل، كان الأجدر حذفه من القصّة، وجعلها تنتهي قبله، أي عندما تنخفض قيمة الأهميّة، وليس الإبقاء عليه مع الإبقاء على الاعتراف لونيّاً بقلّة أهميّته. هذا مع وجوب التّنويه إلى أنّ القول بأن الزمن الأحدث في القصّة هو الأهم لا يشتمل على تقنيّة استذكار القصّة ككل من قبل شخصيّة في الحاضر.


إنّ مبرر الأبيض والأسود كتقنيّة فلاش باك أنّ الذاكرة البشريّة تحوّر اللون أحياناً، فما هو مبرّر ذلك مع الزمن الأحدث؟ هل في خدمة مقولة العمل «إنّ الحاضر أسود»؟ اللون والضّوء يساعدان على تمثّل، واستشفاف، وتلمّس المقولة، وليس قولها جهاراً بهذه الطّريقة. وعمّا قليل عند الاضطرار إلى زيادة أهميّة ما يحدث في الزمن الراهن، هل ستعود الألوان إليه؟
التّعاطف الجماهيري مع القصّة، والإطراء السابق لأوانه، كشفا عن توق إلى مُشاهدة دراما تتضمّن شخصيّة رئيسة «بطل» بما يوحي أنّ الدّراما التلفزيونية السّورية عادت إلى رُشدها بعد زمن من هيمنة فوضى تُدعى «البطولة الجماعية»! وهي كثيراً ما أضرّت بهذه الدراما، لأنّ العمل الذي لا شخصيّة رئيسة فيه هو عمل نهايته ضعيفة وفق سؤال: نهاية من هي نهاية القصّة؟ لكن هذا البطل (شخصيّة الأب) على وشك الانسحاب لصالح بطل أو أبطال جدد، يشبه ذلك ما وقع في مسلسل «أبو كامل» (علاء الدين كوكش وفؤاد شربجي ـ1990) عندما غادر بطل العمل في قرابة منتصفه، وظلّت باقي الشخصيّات هائمة تتشاجر لا تعلم ماذا تفعل، مما دفع الجمهور إلى ابتكار إشاعة أنّ أبا كامل لا محالة سيعود. وهذا شبيه أيضاً بما حدث في مسلسل «المفتاح» (هشام شربتجي وخالد خليفة) عندما لم يعد البطل يعلم ماذا يفعل منذ الحلقة 24 بسبب تعاطف الكاتب معه، وعدم رغبته في دفعه إلى نهاية تراجيديّة، التي كانت البداية والمنتصف يقترحانها، فأسبغ نهاية تراجيدية على شخصيّة أخرى غيره. في «الندم»، قد يموت الأب، أو يبقى حيّاً، لكنّه كبطل قد انتهى دوره، سينكسر أمام الشخصيّة المضادّة، أو ينسحب أمام شخصيّة، شبه بطل، أو مجموعة تُنازعه الأهميّة، وليس فقط البطل هو من سينسحب، بل أيضاً الشخصيّة المضادّة «الابن الضال» الذي ليس أبداً هناك ما يُبرّر سماته وسلوكه، إلّا فقط لأنّ الثّلث الأوّل من القصّة يحتاج لشخصيّة مضادّة تصنع الحبكة والصّراع. سمات الأب، علاقة الأخوة، كل ما في القصة لا يبرّر تلك النّزعة لديه.


يبقى السؤال: إن كانت شخصيّة الكاتب تروي وتحكي التّعليق، فلماذا لم يُنتزع من الزمن الماضي (2003) ما هو كثيف ومهم؟ لماذا عُرض بتفاصيله الموسّعة، ثم الاضطرار إلى تقنيّة: «فلاش - للتوّ»؟