2017/04/28

بوسطة - بشار عباس

 

الفرجة المؤقّتة الزّائلة : فنّ صناعة التّلاشي .. 

-أ- استهلال: تأمُّلات في مخطّط إيتيان سوريو للفنون السّبعة.

في مخطّط الفنون الجميلة ( ايتيان سوريو 1892- 1972)، يظهر كلّ واحد من السّبعة بمستويين: الأوّل تجريدي،والثّاني تمثيلي أو تصويري، ويكون التجريدي أقرب إلى مركز الدّائرة؛ الرقص هو الأصل التّجريدي للإيماء من وجة نظر المركز ،والأخير هو الحالة التّمثيليّة أو التصويريّة للأوّل؛لا يظهر الأداء التمثيلي The Performance  على فرض أنّه يمزج بين القصّة الأدبيّة وبين أن تؤدّى ،وهما من عائلتين مختلفتين،فالقصّة وفق المخطّط تتبع للبيان والنحو الصّرفين،في المستوى التمثيلي التّصويري لهما،أي إلى الأدب،أمّا الأداء فيبتع للإيماء.

المخطّط يحافظ على رأي فولتير في تقسيمه للجمال بشكل عامّ إلى طبيعي وصُنعي،فيهتمّ فقط بالصُنعي؛ أو:الفنّ المقصود الّذي  يُنشئه صانعه خلقاً آخر؛ ولكنّه يتجاوز تأمّلات فولتير الفلسفيّة فيما يتعلّق بتقسّيم علم الجمال إلى تصنيفين عريضين:  الشعريّة Poetique  والجماليّة Esthetique ، المخطط ينظر إلى الأدب كفنّ،وليس يفصل أحدهما عن الآخر، وهو فصلٌ كان رائجاً، ويُمكن أن يُتلمّس في لوحة وليم أدولف بوجيرو 1825 – 1905،والتي تحمل اسم: الفنّ والأدب Art and literature؛ إنّ اعتبار الأدب واحداً من الفنون سوف يُعمّم من خلال حوار نُشر في 1956مع شيخ كار الرواية الأمريكيّة،ففي معرض اجاباته كان يستعمل كلمتي" فن " و " فنّان" في توصيف تجربته الروائيّة،يقول شارحاً عن دوافع الكتابة : "الفنّان كائن تقوده الشياطين،ولا يعلم أن لماذا اختاروه ،كما أنّه عادةً مشغول جدّاً،فلا وقت لديه لسؤال كهذا " .

الدّراما كفنّ غائبة عن هذا التبويب السّباعي، حالتها التّركيبيّة تجعلها بعيدة عن التحديد والتّخصيص اللذين يسعى التبويب إلى اقتراحهما،وهو سعي يقوم على مبدأ أنّ  كل " نتوء " مصنوع وتُدركه الحواس على أرضيّة من الصّمت،أو من اللا تحديد الشكلي،أو من السكون،أو من الفراغ،فإنّه قد يتسبّب – أو لا يتسبّب-  بإحداث " متعة " جماليّة،فتكون تجريديّة أوّليّة، أو هي ذاتها قد تظهر أكثر ابتعاداً عن التجريد واقتراباً من التمثيل أو التّصوير،بأن تتحدّد أكثر، فتقترب من المحاكاة والتّجسيد في تجاور مع الحسّي، وذلك بصرف النّظر  عن التركيب بين فنّين مختلفين أو أكثر، الغناء أو الأداء الصوتي – مثلاً- هو تركيب لفنّ الشّعر،وفنّ الموسيقى،فلا يظهر ضمن التّصنيف.

كما أنّ التصوّر عن السّينما،لا يبدو أنّه تصوّر فيلمي،فليس يُدركُ الفيلم كعبوة زمنيّة مضامينيّة، سواء أأخذت تنحو إلى القصصي الروائي، أو إلى الواقعي الوثائقي، فقط هناك اعتماد على شكلها البسيط المجرّد مع اغفال المحتوى تماماً،والذي قد ينتمي إلى فنون أخرى؛وأيضاً بعيداً عن معنى المشهد،إنّ حركة قارب – مثلاً -  وثلم في الماء يحدث خلفه، من طرف الكادر إلى طرفه الآخر،هي ما يعنيه المخطّط في تصوّره عن السيّنما، وذلك كحالة تمثيليّة تصويريّة للفنون الضّوئيّة،أو وفق رأي " تاركوفسكي" عن تسجيل الزّمن،وهذا يجعل الفيلم عموماً -وفق تصوّر سوريو- تطوير للفوتوغراف في علاقتهما الزّمنيّة مع الضّوئيّات؛ الفوتوغراف تحنيط للزّمن،أمّا السّينما فتسجيلٌ له بتسجيل الحركة الدالّة عليه، وهنا قد يُلمح خيط رفيع في علاقة الدراما بهذا التّصوّر الفنّي: فالدّراما حركة.

المسرح غير موجود في هذا التّصنيف السّباعي، ولكنّه يُمكن أن يُهجن على بعض أو كلّ الفنون السّبعة، هذا السّبب الّذي يجعل البعض يطلقون عليه: أبو الفنون.

إنّ نقطة ضعف هذا المخطّط هي أنّه يفترض المستوى التجريدي كمستوى أوّلي أبسط، وأنّ تطوّره يؤدّي إلى المستوى التمثيلي التّصويري،في حين يظهر في تاريخ بعض الفنون أنّها في مراحل متطورّة تنتقل إلى التّجريد.

كما أنّه يُغفل الزمن في علاقته بالفنون وذلك بالمستويين:الزّمن عندما يدخل في تصميم العمل الفنّي كعنصر من عناصره،والزّمن – التّاريخ – في علاقته بالعمل الفنّي،وثمّة علاقة وطيدة بين مفهومي الزّمن السّابقين.

إنّ الفنون التّالية: -1- تلوين صرف / تلوين تمثيلي -2- زخرفة / رسم -3- عمارة / نحت، لا تتضمّن على الزّمن في العناصر المكوّنة لها،فهُي على حالها،وتُدرك وتُتذوّق جماليّاً في وضع من الجمود الأزلي - الأبدي المنقطع عن الحركة.

ولا يعني ذلك انقطاعها عن الزّمن كظرف تاريخي؛الأهرامات تُنبئ بقوّة عن زمنها،ولوحة الثّالث من مايو تعرض بجماليّة للمقاومة الاسبانيّة ضدّ نابليون،المقصود بخلوّها من الزّمن هو عرضها للحظة متلألئة من الفعل المعبّر عن مضمونها،وذلك في ذروة واضحة وسهلة الإدراك.

أمّا الفنون التّالية فهي تتضمّن على الزّمن كعنصر مكوّن: -1- موسيقى/موسيقى دراميّة أو وصفيّة -2- رقص / إيماء.

أمّا : البيان والعروض الصرفين / أدب وشعر،فإنّ تضمنها على الزّمن يكون وفق حالة التلقّي؛عند القراءة يكون معدوماً إلّا من انبثاقات تحدث في ذهن القارئ،شأنه في ذلك شأن الزّمن في لوحة أو بناء معماري،وعندما تُتلى لكي تسمع،فإنّ الزّمن يرجع مكوّناً لها،كما أنّ الفعل الدّرامي The action  يفترض سرد زمني،في حالة القصّة المكتوبة.

الفنون الضّوئيّة،بعد أن تظهر في المستوى التّجريدي تحت مسمّى " ضوء أو إضاءة" فإنّها تنقسم أفقيّاً على خلاف الفنون الستّة السابقة،فيظهر التلوين المائي والصور،وإلى جانبها السّينما،السبب في ذلك هو عامل " الزّمن " المتضمّن في أحد مكوّنات التصنيفين الأفقيين،والمعدوم من المكوّن الآخر.  

إنّ الفنون الّتي تتضمّن على الزّمن في تكوينها ( موسيقى- موسيقى وصفية / رقص - إيماء) إنّما هي فنون تتطلّب التذوّق المباشر،وتفترض أن يكون الجمهور حاضراً إذا تؤتى،فملاحظتها تنقضي بانقضائها،فلا تُستطاع أن تلبث في وجه الزّمن،وسرعان ما تتلاشى.

هذه المعادلة ستخرج منها الموسيقى بالتّدوين الدّقيق لها،ثمّ بابتكار الفونوغراف وبعده وسائل التسجيل الحديثة على أشرطة أو غيرها.

يبقى فقط : الرقص – الإيماء عُرضة للتلاشي،وبطبيعة الحال " الأداء التمثيلي " أي: الدراما؛إنّ الفنون الأخرى المصاحبة الّتي قد تظهر على الخشبة لا يُنظر إليها بمعزل عن الدّراما بعد انقضائها.

هناك أسباب عديدة تجعل من أفلام "تشارلي تشابلين" كشفاً جديداً في تاريخ الفنّ،واحدة منها هو أنّها إعلان جديد ومُفارق في عشرينات القرن الماضي: لم يعد الرقص،الإيماء،الأداء التّمثيلي عُرضة للزوال بانقضاء العرض،فلقد صارت " محفوظة" زمنيّاً،وقابلة للاستمرار في أزمنة لاحقة،طبعاً هناك أعمال سابقة عليها ولكنّ هذا الفنّ وصل ذروته مع تشابلين، وهكذا يتحقّق التحاق الفنون السّبعة جميعها بالمستقبل،القريب والبعيد،ويغدو العمل الفنّي قابلاً للمُلاحظة لحظة اطلاقه،وبعد ساعة،وبعد سنة،وبعد قرن،ومبدئيّاً ونظريّاً -ما لم تتعرّض للتلف أو التخريب- فإنّها قابلة للتذوّق دائماً.

أمّا فن الرقص – الإيماء،والأداء التّمثيلي،في حالته البدائيّة،أي في : المسرح،فهو مقترن بشرط يُدعى : الآن وهنا، فلا يمكنه أن يكون :غداً وهناك، أو : البارحة وهنالك؛ إنّه منقطعٌ عن العلاقة بالمستقبل،وعن ادراكه في الماضي ،الفُرجة المسرحيّة لا مستقبل لها،كما أنّها ليست في عداد الماضي،ولا تُشكّل ذاكرة،ومرتبطة بشرط المكان،ليس المكان الافتراضي لحدوث القصّة،بل مكان العرض،أو تجربة التّذوّق الجمالي.

يُمكن أن تُحفظ بتصويرها،ولكنّها عندئذ تخرج من شرط المسرح،وتغدو مادّة فيلميّة،فتقفد الميزة الأولى الّتي يوصف بها المسرح،وهي عند التّدقيق فيها ليست البتّة ميزة،وإنّما نقطة ضعف قاتلة،ومحاولات التّمييز بين الميزة وبين نقطة الضّعف ليست تصحّ إذا احتاج النّهارُ إلى دليل. 

إنّ قيام نفس الشّخص بقراءة نفس الرواية ثلاث مرّات خلال عشر سنوات ، هي في الحقيقة قراءة لثلاث روايات،فهناك تغييرات كبيرة على المستوى الشّخصي للجمهور ،كما أنّ لوحة أو منحوتة تصدر اليوم قد لا تترك أثراً يُذكر عند الجمهور،ولكنّها يوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة،قد تلقى اهتمام متزايداً يجعلها أقرب إلى حجر أُلقي على سطح ماء راكد،ثمّ أخذ يُحدث تأثيراً يحتاج إلى وقت؛ دوائر حول الدّوائر؛ذلك وقع أيضاً مع أفلام احتاجت ردحاً،قصيراً أو طويلاً، كي تُستفهم من الجمهور،وقد يحدث العكس: إنّ عملاً يملأ الدّنيا ويشغل النّاس الآن،ثمّ يمرّ عليه بعض الوقت فإذا هو نسياً منسياً.

إنّما العمل الفنّي رسالة اتّصاليّة لجمهوره المتحلّق حوله في ذات زمن العرض – الارسال-،  ولكنّ رأي الزّمن فيه هو الرأي النقدي الأهمّ؛ وقد لا يكون ذلك الرّأي من ضمن أولويّات أو اهتمامات مبدع العمل،قد ينظر ذلك الرّأي إليها خلال فترة تمتدّ لبضع سنين،أو بضع قرون؛ إنّ السمفونيّة الخامسة- بيتهوفن،لوحة الحصاد – فان كوخ،أناشيد مالدورور – لوتريامون،وفيلم سارق الدرّاجة - دوسيكا: رسائل وصلت إلينا من أزمنة انقضت،ولكي يكون السّؤال مُجدياً يجب ألّا يكون: كيف تستطيع تلك الأعمال أن تستمرّ بإحداث متعة جماليّة إلى  يومنا هذا،بل يجب أن يكون: ما الّذي تتضمّن عليه تلك الأعمال حتّى تبقى وتعيش رغم مرور الزمن، في تذكير بحقيقة أنّ الفنّ شكل من أشكال الخلود،وسباقٌ ضروس بين مبدعه وبين الموت.  

ولكن لا بدّ من التوقّف عند بعض الآراء العجيبة الّتي تستبق حكم الزّمن فتقوّله ما لم يقله، بعض الفنّانين والنقّاد يصفون أعمالاً بأنّها موجّهة للمستقبل،وذلك في محاكاة لأعمال من الماضي لم تزل ماثلة إلى اليوم، يفعلون ذلك عندما لا تُلاقي أعمالهم استحساناً من جمهور اليوم،والذي هو الُمستهدف الأوّل بالعمل الفنّي، فيقفزون إلى ذلك الادّعاء،كما يقول – مثلاً – الشّاعر علي إسبر المعروف في الوسط الفنّي بأدونيس،واصفاً شعره أنّه يُكتب لقارئ سيأتي بعد 200 عام،ذلك كلامٌ إن هو إلّا هُراء.

إنّ الفرجة المسرحيّة كفنّ تخسر فرصة أن يحكم الزّمن عليها، ليس فقط بالمعنى المديد للزمن، كأن نتأمّل اليوم عمل فنّي يعود لمئات أو آلاف من السّنين، بل وأيضاً الزمن بالمعنى البسيط على مستوى الحياة الشّخصيّة للمرء،فرصة تأمّل عمل فنّي بعد أيّام قليلة،أو أشهر معدودة، أو سنوات على تاريخ اصداره،فزوال العرض المسرحي لحظة الانتهاء منه تجعله غير قابل للملاحظة بالمعنى الفنّي النقدي – وأيضاً بالمعنى العلمي للملاحظة الّتي توحي بفروض – الميزة الّتي يتحدّث عنها المسرحيّون بأنّها علامة فارقة في المسرح،هي أمر جيّد إذا نظرنا إليها ضمن شرط اللقاء المباشر بما فيه من لحظات طازجة، غير أنّه في نفس الوقت يجعل من أي حكم على جودة عرض مسرحي، رأياً غير متخصّص، يُقال على عجالة،ولا يُعوّل عليه.

والأهمّ أنّ المسرح،كفنّ سريع الزّوال والعطب،هو فنّ غير جماهيري،لم يكن يوماً جماهيريّاً،ولن يكون،إنّه اتّصال شخصي؛ شأنه في ذلك شأن المحاضرة،الأمسية الشّعريّة،حفلة بين أصدقاء،فُرجة في سيرك؛ طبيعته الفانية لا تسمح له بمخاطبة الجمهور Audience  وفق ما تعنيه هذه الكلمة،ولذلك فإنّ الجالسين إلى عرض مسرحي هم عبارة فقط عن حضور Attendees ، وهذا  أحد الأسباب في استعمال كلمة متلقّي Recipient من قبل صنّاع الدّراما التلفزيونيّة المحليّة،لقد انتقلت إليهم من تفشّي الثقافة المسرحيّة التّنظيرية،وهي كلمة محبّبة لدى معشر المسرحيين،لماذا ؟ لأنّ الحضور في سيرك،أو حفلة زفاف،أو أسبوع ثقافي لأمسيات شعريّة أو قصصيّة، هؤلاء ليسوا جمهوراً.

جاء في لسان العرب لابن منظور،عن تاج اللغة للجوهري أنّ الجمهور هو: الرمل الكثير المتراكم الواسع،وعن الأصمعي،الجمهرة: الرملة المشرفة على ما حولها مجتمعة،وفي تاج اللغة للجوهري: جمهور النّاس جلّهم،والجَمْهرة في تهذيب اللغة للأزهري: المجتمع.

في مدينة كدمشق،يبلغ عدد سكّانها بضعة ملايين،لا يُمكن إطلاق صفة " جمهور" على بضع عشرات أو مئات يُشاهدون عرضاً مسرحيّاً،إنّ ظروفه الزمانيّة والمكانيّة لا تسمح له أن يكون كذلك،إنّ سرديّات وأدبيّات المسرح الجوّال ( فرقة المسرح الباهر،موليير،بين أعوام 1645 إلى 1658) تصلح كقصّة أدبيّة،يندمج من يقرأها فيتخيّل أنّ الفلاحين في الريف الفرنسي وقتئذ كانوا يتوقّفون عن حراثة الأرض مستندين على مناجلهم وقت الغروب وهُم يُشاهدون عرضاً جوّالاً توقّف عن التّجوال ليعرض، وهي في الحقيقة اقرب إلى " سياحة دراميّة " منها إلى فنّ جماهيري،فتمنح المتعة الجماليّة للقائمين عليها،وليس للحضور، شرط الصّالة الثّابتة يتجلّى ها هنا كذلك ،كما أنّ تجربة كهذه تنقضي بعد حين،ولا يلبث منها سوى تلك السرديّات التي تصفها كتجربة،وهي سرديّات قريبة من أدبيّات محليّة تصاحبت مع تحويل تجربة أبي خليل قبّاني إلى أسطورة ،بما يقترب من صراع كوبرنيكس وغاليليه ضدّ الكنيسة،هناك أحاديث رومانسيّة عن بائع الفول الّذي كان يدّخر نصف مجيديّة ليحضر تلك العروض،وهي جميعها،بما فيها مقولات مثل : أعطني مسرحاً أعطيك شعباً،ليست سوى جهود غير واعية في افتراض أنّ المسرح فنّ جماهيري،بينما هو في الواقع فنّ محدود الأثر،سريع التّلاشي،لا يُمكن بأي حال من الأحوال أن يُعوّل عليه في إحداث أثر لدى الجمهور،أو المتلقّي كما يُدعى هنا بين ظهرانينا.

هذه النّقطة تحيط بها غشاوتان تحجبانها، وتُساهمان في سوء فهم تاريخي كبير، فيظهر المسرح على خلاف طبيعته الزائلة، وبسببهما يغيب عن الذّهن أنّ المسرح تمثال ثلج سرعان ما يذوب،فقاعة صابون لا بدّ أن تُفقأ فتتلاشى،زبدٌ يذهب جُفاء فلا يمكث في الأرض شيئاً.

الغشاوة الأولى هي النّظر إلى المسرح بالنّظر إلى النّصوص المسرحيّة التي وصلتنا وتصلنا من أزمنة خلت،آلاف ومئات وعشرات السّنين،فيظهر كما لو كان قادراً على الحياة في وجه الزّمن،وكما لو كان فنّاً يمتلك جمهوراً،تلك النّصوص مواد مكتوبة شأنها في ذلك شأن الرواية،جمهورها – ينطبق عليه صفة الجمهور لأنّه لا يلتقي شخصيّاً ويدركها بمعزل عن دكتاتوريّة الزمان والمكان القسريّين – هو ذاته جمهور الفنون الأدبيّة المكتوبة.

أمّا الغشاوة الثّانية فهي المواد الصّحفيّة الّتي تُكتب عن المسرح،والّتي غالباً ما تٌشكّل قطعة أدبيّة موازية للعرض المسرحي،العرض انقضى وتلاشى،ولكنّ المادة المكتوبة – الصحيفة - ثابتة أمام الجمهور،فقرّاء الصّحافة هم ببساطة: جمهور،فينتحل المسرح لنفسه جمهور النصّ المكتوب،وجمهور الصّحافة المكتوبة،وذلك موضوع الباب الثاني من هذا الجزء: المسرح المسلَّح بالمقالات الرنّانة.