2013/05/29

 	أسامة أنور عكاشة من (الشهد والدموع) إلى (همس البحر) رحلة عشق...من المثقفين القلة الذين لم يعمهم التعصب للانتماء عن الانتقاد
أسامة أنور عكاشة من (الشهد والدموع) إلى (همس البحر) رحلة عشق...من المثقفين القلة الذين لم يعمهم التعصب للانتماء عن الانتقاد


إسماعيل مروة - الوطن السورية

كانت زيارتي الأولى للقاهرة عام 1997، فلظروف أسرية اخترت أن تكون إجازتي السنوية في القاهرة بدل دمشق على ما في هذا الاختيار من قسوة شديدة على مثلي، وكان يدفعني إلى هذا الاختيار وجود عملاق أتشهى لقاءه، وآخرين سأسعى إلى محاورتهم، وفي اليوم الأول من إقامتي في بيت صديقي عصام منصور اتصلت بمؤسسة الأهرام، وطلبت منها أرقام هواتفهم، ودون تردد أعطوني أرقامهم، فكان أسامة أول شخص أتصل به

وما إن جاءني صوته على الجانب الآخر أقفلت الخط رهبة وخشية، فرنّ الهاتف، لأنه رأى الرقم، وحين عرفته بنفسي قال لي بصوت دافئ: حضرتك ليك مجموعة بعنوان قهوة بلا سكر؟ وعندما أجبت بالإيجاب، طلب مني أن أمهله حتى يقرأ شيئاً إلى الغد، فقد اشتراها منذ أيام من سور الأزبكية، فهو حسب تعبيره يريد أن يعرفني قبل أن يلتقيني، ولم يكتفِ بأنني أعرفه كما يعرفه كل مشاهد عربي.. وفي اليوم الثاني الواحدة ظهراً كان اللقاء المفصلي في (تريانون) على سور نادي الزمالك.

أسامة والتواضع النادر والنكتة


تعودت في زياراتي الأولى للبلدان عادة دفعت ثمنها تعباً، وأخذت مقابلها معارف كثيرة، وقبل موعد أسامة بوقت رحت أذرع طرق القاهرة جيئة وذهاباً، وأتعرف على الشوارع والنوادي والمتاجر، ووصلت إلى التريانون قبل ربع ساعة من الموعد، لم أجد أسامة، فخشيت أن يكون قد وصل قبلي وغادر، سألت العاملة عنه فقالت لي: هو طالب شغل هنا؟ انتبهت إلى لوحة على الباب عن حاجة لعمال.. سخرت وجلست بانتظاره، كان مع الموعد بالدقيقة، وعندما أخبرته ما كان من العاملة ناداها، وسألها عن إمكانية العمل عندهم، وهي تجيب، وهو يتساءل: هل يصلح بحركته وسنه للعمل، فأجابت بالنفي، ضحك أسامة وقال: خلاص ما ليش نصيب.. ولا يمكن أن أنسى مشهد الصبية بعد أن استردت وعيها وعرفت أو تذكرت كيف حاولت الاعتذار، وأسامة يقول لها: ما فيش مشكلة، والله الشغل عندكم أحلى من شغلانتي.. وبعد جلسة طويلة، غادر أسامة إلى موقع تصوير مسلسل من إخراج جمال عبد الحميد، وعدت إلى سكني بعد أن تواعدنا في اليوم التالي في منزله بطريق اسكندرية للحديث أكثر وسهرة طويلة.

الوضوح والكرم

كان أسامة بانتظارنا على باب شقته الواسعة عندما وصلت بمعية صديقي الدكتور عبد الرحمن الأستاذ في جامعة القاهرة، والذي كان صديقي في جامعة الإمارات العربية المتحدة، وبدأت جلسة هي من العمر طولاً ومعرفة، إذ استمرت حتى مطلع الفجر بحضور ابن أسامة الذي يعمل مخرجاً برامجياً، وفي هذه الجلسة تحدث أسامة بوضوح عن أمه وفقدانها، وما شكل غيابها عن حياته من ألم وفراغ، ودمعت عيناه مراراً، وتوقف عن الحديث عندما أجهش وغص بذكراها... استعرض معي دراسة الفلسفة في الجامعة، وهي القاسم المشترك مع شيخ الرواية نجيب محفوظ، وبيّن لي أهمية أن تدرس الفلسفة أكاديمياً أو ذاتياً في توسعة المعارف، وخاصة في تشريح الشخصيات والدخول في دواخلها.. وفي تلك الجلسة حدثني أسامة بما يساوره من أفكار وآراء لم يطرحها بعد للعلن، تتعلق بالعرب أمة، وبالوحدة العربية، وبالسلالات العربية، فهو فخور بالعربية والحديث بها والكتابة بلغتها، لكنه يميز بين البلدان العربية، فيرى أن مصر مختلفة عن البلدان العربية في شمال إفريقية، ولا يرى رابطة قوية بين إفريقيا وآسيا العربيتين، بل ميّز بين مصر وسورية ولبنان والعراق، وخصّ دول الخليج العربي بالخصوصية، فحدثني عن المحميات الهندية (الخليج اليوم) وكان متردداً في طرح هذه الآراء التي طرحها قبل وفاته بعامين فسببت له إشكالات كثيرة لم تنته بوفاته، بل أذكر أنني عندما نعيته عاتبني أحد الوزراء، وقال: أسامة جيد، ولكن موقفه من الأمة العربية مؤسف، ولذلك لم أكن أتمنى أن تكتب عنه، نظرت يومها إلى البحر، وناقشت السيد الوزير مطولاً في جبلة حول رأي أسامة، فهذا الذي كان مبشراً ومقاوماً وشرساً في حديثه وكتابته أليس من حقه أن يتخذ موقفاً؟! هبه على خطأ، لماذا لا نحترم رأيه دون أن نعتنقه.. أنهى السيد الوزير حديثه يومها بصفته الوزارية، وأفسح لي مكاناً لنبدأ حديثاً خاصاً عن العتب واللوم لتوتر شاب علاقتنا، ولكنني أعرف للسيد الوزير الذي أحترمه مواقف قبل توزيره، وأخرى بعد إعفائه أين منها آراء أسامة الذي تحدث بها مبدعاً وقارئاً..! وأظن أن الأيام أثبتت بما لا يقبل الشك صحة آراء أسامة في ضرورة الابتعاد عن السلالات والنسب والعرق والطائفة لمصلحة المنفعة والمصالح الاقتصادية التي تجمع الشعوب والأفراد ولا تفرق، ولا تخلق صراعات من أي نوع كانت! فهل كانت كل هذه الشعوب العربية حريصة على الشعوب التي تدعي قرابتها وضرورة الوحدة معها؟! الإجابة تحتاج إلى مزيد، ويبقى أسامة بسمرته واقفاً أمامي وهو يقول: بشبه اللبناني والسوري الأبيض والأشقر بإيه؟ وبشبه الخليج في التقاسيم بإيه؟ ربما تعزز الأيام رأي أسامة، وربما تنفيه نفياً قاطعاً، وفي كلتا الحالتين لن يعترض أسامة مطلقاً.

العلمية والانتماء

أزعم، خاصة بعد الحراك الذي شهدته الدول العربية في السنوات الأخيرة، سواء كان هذا الحراك إيجاباً أم سلباً أن أسامة كان صاحب استشراف ورؤية، وأنه قرأ ما يجري اليوم بوعي، بل أزعم أنه المثقف الوحيد الذي كان علمياً وجريئاً وغير قبلي أو عشائري، فهو لم يضع رأسه في الرمل إكراماً لانتماء طائفي أو ديني، فقد تحدث يومها عمّا يحدث مع الأقباط، واستنكر أن يتم تخصيص حصة له من أصحاب المصالح، والادعاء بأنهم موجودون، ويومها قال لي: المشكلة في الهيكلية، وعبّر عن خوفه مما سيحدث في مصر، وخصّ الأقباط بمحاور عديدة، وكذلك فإن أسامة حذّر من الاصطفاف الطائفي الذي يسعى إليه أداء البلاد في الداخل والخارج على السواء، وخصّ في ذلك الحديث المسجل التشدد بكثير من الحديث، وكأنه كان يستشرف ويقرأ ما سيحدث من تشدد وتشدد مضاد، من فعل وردات فعل، ومن باب الإنصاف أذكر أن أسامة ردّ ذلك إلى الإخفاق السياسي العتيق في الأنظمة العربية منذ عصر النهضة وإلى ذلك اليوم، وإلى الراحة والدعة والفساد في الحياة السياسية العربية التي لم تستفد بما فيه الكفاية من استقرار الأنظمة ومن الحرب الباردة التي كانت كفيلة بتحويل البلدان العربية تحويلاً تاماً.

إنه –كما أزعم- من المثقفين القلائل، وربما الوحيد الذي كان انتقاده سياسياً وغير طائفي على الإطلاق، ولسنا ننسى تلك المقابلة التي أجريت معه قبيل وفاته، والتي تحدث فيها عن أزمة الفكر العربي، والتي تعرض فيها لشخصية عمرو بن العاص، تناوله سياسياً، وكانت الغضبة الكبرى على أسامة وتاريخه العريض، وكأنه مارق لأنه تناول شخصية تاريخية في تاريخنا السياسي العربي، وليس في تاريخنا العربي، وأسامة كان من الجانب العلمي في الباحثين الذين يرون أن الخلافات الكبرى في حياتنا لم تكن خلافات دينية بقدر ما كانت خلافات سياسية وسلطوية لا غير، لذا ليس من المفترض أن نحمل وزر هذه الخلافات إلى أيامنا، وربما إلى أن نغادر هذه الحياة، والخطورة كما يراها وأشاطره الرأي مع كثيرين أن اللبوس الديني والطائفي عندما يفصّل على الخلافات السياسية والسلطوية سيؤدي حتماً إلى مزيد من التمترس والقداسة والغيبية، وهو ما سيسهم بدوره في إذكاء روح العداء القائم على إيمان متخيل، وهذا يعيد الأمة قروناً إلى الوراء!

أليس صحيحاً ما طرحه قبل خمسة عشر عاماً أسامة وأمثاله من المفكرين؟

أين من اعترض على أسامة وطروحاته؟

ألم نصل إلى النقطة الفارقة في حياة الأمة الساعية إلى دمارها؟

ألم تحق بنا الأزمات من كل جانب لتحولنا إلى دمىً؟

ألم يتنازل مثقفونا عن منجزهم كرمى لاصطفافات مقيتة؟

كنت أتمنى ألا يصدق حدس أسامة وقراءته، وكنت أرغب أن يبقى رأيه مجرد رأي وصل إليه بعد رحلة طويلة من العمل والحياة العامة، كنت أتمنى أن يبقى أسامة مغللاً بوهم الشارع بأنه ناصري أو يساري أو علماني، وهو أبعد ما يكون، فلم يقصر في انتقاد المرحلة الناصرية، وكان لليسار النفعي الحصة الكبرى من انتقاداته، وتحدث وكتب عن العلمانية وغربتها، كنت أتمنى أن يكون مخطئاً ولا نصل إلى ما وصلنا إليه بمعرفة ووعي فأحرقنا معابدنا واختنقنا بروائح البخور المنبعثة في معابد تخيلناها وكانت وهماً قاتلاً ونادراً..!

الأدب والدراما

أصدر أسامة أنور عكاشة مجموعته القصصية الأولى عام 1967 (خارج الدنيا) وروايته (أحلام في برج بابل) عام 1984، فبدأ حياته قاصاً في الستينيات من القرن العشرين وكان قاصاً متميزاً ومبشراً بعوالم مختلفة ما دفع الدكتور حامد السيد النساج الباحث والمؤرخ الناقد للقصة إلى التبشير بأهم كتاب القصة القصيرة أسامة، وكان من المخطط لأسامة أن يكون في مكانته القصصية الرائدة، لكنه دخل بمكوناته الأدبية والروائية عالم الدراما، ومن أول أعماله كان مميزاً أيضاً وأضاف نكهة جديدة للدراما من خلال أعماله التي لم يمر عمل واحد دون أن يترك نقاشاً وزوبعة فكرية، بل إن تميز أسامة جعله صاحب مدرسة في الدراما وجدت الكثيرين من الكتاب الذين قلدوه في الحارة ورسمها وشخصياتها إلى درجة نظن أنها لأسامة لولا تفاوت الحوار، ونزوله عن المستوى المعتاد لمجدد الدراما.

في تلك الجلسة قال لي أسامة: دع الورق يا أبو السباع واذهب إلى الدراما، فما قرأته لك يحتاج القليل ليصبح ممثلاً، وحين استغربت قال لي: كل ما كتبته لم يقرأه سوى قلة، وأغلبهم أهديتهم أعمالي أو من النقاد المتخصصين والكتاب، فلم أحصل على شيء، لقد عرفت متأخراً– كما قال- أننا أمة لا تقرأ ولا يمكن أن تقدم رؤاك وما لديك لأناس لا يقرؤون، ومع أول سهرة قدمتها صرت مقروءاً، ولم يلتفت أحد إلى كتبي وأوراقي، لقد أدركت يا صديقي أن الدراما هي كتابنا الذي يجب أن نهتم به، ولكنني في الوقت نفسه بقيت أكتب القصة والرواية والزاوية الصحفية.

لقد تمكن أسامة أنور عكاشة من الدراما بسبب الرؤية القصصية والروائية، ورؤاه السياسية العميقة على أكثر من صعيد، لذا عد النقاد أعماله في المرتبة العليا درامياً وفكرياً، وهل يغيب أبو العلا البشري المقاوم للتيار والسائد عن الذهن؟ وهل تغيب امرأة من زمن الحب من خارطة الأدب المقاوم؟ وهل تبلي الأيام جدة مشروعه التأريخي لمصر في العصر الحديث (ليالي الحلمية)؟

رحل أسامة عن دنيانا وغابت أعماله المميزة (زيزينيا) و(آرابيسك) و(الشهد والدموع) و(قال البحر) و(عابر سبيل) و(عصفور النار) و(الراية البيضاء) وغيرها الكثير، ومعه غاب الحافز الذي كان يدفع كتاب الدراما وورشاتها إلى المنافسة والانغماس في أتون الفكر، تحولت الدراما إلى مزيج من المشاعر المسطحة، وبقي أسامة المبشر الأهم في التغيير، وفي مقاومة التطبيع، وفي مقاومة الفساد والإثراء على حساب الشعب المسكين الذي لن يرفع الراية البيضاء، ولن يستسلم لاغتيال عالم أو اختطاف مقاوم أو سرقة آثار، كان المبشر الذي قرأ وكتب وبحث طويلاً، لكن غادر قبل أن يصل حد الفجيعة..!


أسامة والوجدان

كان مفاجئاً هاتف أسامة لي وأنا في شوارع دمشق حين قال لي: أبو السباع اشتقت لك، فقلت له انتظرني غداً في السادسة مساءً موعد وصول الطائرة، حجزت تذكرتي وأنا أكلمه، وفي اليوم الثاني كنت أقرأ (فادخلوها آمنين) في مطار القاهرة، رأيت ابنه المخرج الذي صحبني إلى أسامة في السيارة، فقد حال مرضه دون النزول، وقضينا أياماً هي من أجمل أيامي في القاهرة، وكان ذلك عام 2002 وقد صدرت له ثلاثة أعمال وجدانية هي (أوراق مسافر) و(تباريح خريفية) و(همس البحر) ورواية هي (وهج الصيف).

أهداني أسامة أعماله وقال: هذه نمط آخر من صديقك قد لا تحبه، لكنني هذا أنا، ولم أشأ أن أترك وجداني دون طباعة.. لم يحل مرضه دون أن نجلس ونتحاور، وفوجئت بأن هاتفه يدعوني لحضور العرض الأول من مسرحيته المميزة (الناس اللي في التالت) بطولة سيدة المسرح سميحة أيوب في مسرح جورج أبيض القومي، وكان لي شرف أن أحضر مع أسامة هذا العرض الكبير وإلى جواره، وقد حرص أسامة على الرأي الواضح وغير المجامل في المسرحية، وقد كتبته إثر الزيارة في مجلة (الشهر) التي كانت تصدر آنذاك، فتقبل وشكر دون اعتراض وفي وجدانيات أسامة نجد شخصاً آخر يذوب عشقاً ورقة، ونعرف السبب الذي يشحن أعماله الدرامية بالكثير من الشجن والحب، ففي تباريح خريفية وتحت عنوان صبوة يقول وجدانه:

رغم قدوم الصيف ... لم تخل الأركان من بقايا الثلوج

لكني حين نظرت.. وجدت القطرات تتجمع في الحنايا لتتساقط على الخدين دموعاً

يذيب الدمع بقايا جليد

تتوقد في الأطراف حرارة صيف قد كان قبل الصيف المقبل

ترتجف الأردان بتلك الرجفة

....

نرسم الذكريات حكايا تبدد ساعات الانتظار

نتبادل ضحكات سرية

نستجدي الدمع حزناً.. ندماً.. جوعاً..

لم يبق لدينا من مخزون السنوات ما نقتات عليه..

فلنشعل ناراً.. فلننفخ في أخشاب محترقة..

علّ الصبوة فخبوءة.. تحت رماد..

إنه أسامة المخبوء تحت رماد الواقع والدراما والنقد، لكن ذلك كله لم يحل دون اكتشاف، الكنه الحقيقي لرقيق نبيل ارتبط مع الشام برسالة عشق لا تتوقف عن الحياة والنبض.

أسامة والشام ونزار

في جلستي الأولى مع أسامة تحدث عن نزار قباني وألقى بعض قصائده خاصة من ديوانه (هوامش على دفتر النكسة) وقال: أما غزله آه من غزله الذي يشبه الشام، وأسامة من الذين ينادون دمشق باسم الشام على الدوام، وينسب أبناء سورية من طوروس إلى جنوب فلسطين بقوله: الشوام، كان يردد دائماً بأن نزاراً سبق عصره وقال ما لا يقال، وما لم يقل أصلاً، لو أنهم اهتموا أي الساسة بما أبدع نزار لتجاوزوا الكثير من الأزمات حسب رأي أسامة الذي روى لي أكثر من مرة وبإعجاب شديد حكاية نزار مع جمال عبد الناصر، وكان يسأل: هل يعقل أن يتخذ هذا الموقف إلا مبدع من الدرجة الأولى التي نفتقدها.

وكان دائم الحنين للشام وأهلها وأزقتها وطعامها، ويروي الكثير من ذكرياته عن الشام التي أحبها، وفي مهرجان السينما لعام 2007 كما أذكر كان أسامة مدعواً، فحضر على الرغم من مرضه وتورم قدميه، والتقيته في بهو فندق الشام وقتاً طويلاً، ووقته كان ضيقاً لكنه حضر لأنه اشتاق للشام، ولم يكن يدرك أن هذه الزيارة هي الأخيرة له، دار في أزقتها بعض الوقت، وتناول طعامها، وشم هواءها، وارتوى لرحلة طويلة طويلة.

وأذكر أنني عندما طلبت منه بدالتي عليه أن يكتب شيئاً يُنشر في سورية كان مهذباً للغاية ومهموماً جداً، فكتب عن الشام ونزار وحب سورية، وكأنه يطبع آخر قبلاته على خد شام قبل أن يغادر..

كنا معاً عندما طلبت إذاعة دمشق أن تحاوره على الهاتف عام 1997 فلم يتردد لحظة، ولم يكترث أن يكون الحوار إذاعياً... هذا هو أسامة أنور عكاشة في صورة عن قرب عشتها معه في عز شهرته ونضجه، فكان الصديق وصاحب الموقف.. هذا هو أسامة الذي لامه اللائمون على أنه شعر إحساس الخيبة والتصق به في ظل ما تعيشه الأمة.. هذا هو المبدع الذي وجد أكوام كتبه وأشرطته في مكان قصي.

له في نزار أسوة طيبة عندما عاتب عبد الناصر، لكن أسامة انتفض غاضباً مع احتلال العراق، كان مقهوراً للغاية، ورصد في (امرأة من زمن الحب) مع شريكه إسماعيل عبد الحافظ المواجهة المقاومة مع العدو الإسرائيلي في جنوب لبنان..

كتلة من الفكر والإبداع والرواية والدراما والصداقة كان أسامة أنور عكاشة، جاء إلينا ببراءة طنطا وطزاجتها، وغادرنا بالطزاجة نفسها، ومن المؤلم أن نشارك في قتله ونحره بعد أن نحرته الهزائم وتشرذم ما كان يدعى أمة...

صديقي أسامة لا تزال صرخاتك في (وقال البحر) صالحة اليوم وغداً بصوت فردوس عبد الحميد وتوقيع صديقك محمد فاضل في وجه الفساد والمفسدين والمتآمرين على الأمة وتاريخها، ولا تزال آراؤك العلمية تجد المزيد من مؤيديها بعد أن كانوا رافضين، ألست القائل في (همس البحر)؟

كانت جريمة

أن نصدق أنفسنا جريمة؟

بل الجريمة أن نراوغ أقدارنا! هي لم ترد بنا خيراً

فقط أرادت أن تعبث، وحين فرضنا عليها جدّنا غضبت

وأبت أن تغفر!

....

في صدره تمزقت النياط والأوتار والأنفاس

وفي عينيها ماتت كل الأيام الموعودة

وأحنى رأسه

ينتظر العقاب.. ويهيئ عنقه للجلاد.