2012/07/04

غزوان الزركلي .. «فيتو» موسيقي
غزوان الزركلي .. «فيتو» موسيقي

عمر الأسعد - البيان

وقف ذاك الطفل ابن السبع سنوات أمام لجنة الاختبار، فطلب منه أحد الأساتذة أن يمد يداه، تفحصت اللجنة يداه بتمعن، بعدها قررت أن تختار له آلة البيانو كي يبدأ بتعلم العزف عليها في المعهد العربي للموسيقى بدمشق.قرار اللجنة باختيار آلة البيانو، أجبر والده على بيع سيارته العتيقة، ليشتري لابنه بيانو، ومنذ تلك اللحظة بدأت قصة العازف والمؤلف الموسيقي السوري غزوان الزركلي المولود في دمشق عام 1954، ليجول مع آلته 26 بلداً ممثلاً سوريا، وربما تجول في خاطره ذكرى السيارة العتيقة، التي ذهب ثمنها لشراء آلةٍ موسيقية، ستغدو هوية هذا الموسيقي، الذي يعتبره نقادٌ كثيرون من أهم عازفي البيانو في العالم العربي، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق.

يعزو الزركلي حبه للموسيقى واختياره لها عن باقي الفنون إلى الصدفة، هذه الصدفة هي الولادة في بيت يعشق أفراده الموسيقى، فوالده كان عازفاً هاوياً على آلة العود، وكذلك خالته، ومثل أغلب العائلات السورية في تلك الفترة، امتلكت العائلة عوداً في منزلها الدمشقي، وهي ظاهرة يتذكر الزركلي أنها « كانت موجودة في دمشق وفي كثير من المدن والقرى السورية».حتى عام 1972، استمر في دراسة الموسيقى على يد سنتيا الوادي أوليغ وإيفانوف فيكتور يونين، وفي نفس السنة انتقل إلى أكاديمية (هانس آيسلر) الموسيقية في برلين، ليحصل على شهادة الماجستير1977، لكن الشاب الطامح إلى الموسيقى لم يكتف هنا، فحزم حقائبه متوجهاً إلى موسكو في نفس العام، وهناك حصل على الدكتوراه (أهلية التعليم الجامعي) من معهد تشايكوفسكي سنة .1981

منذ أيام الدراسة في دمشق كانت المشاكل قد بدأت، وهي ليست «مشاكل شخصية» كما يؤكد، إنما مشاكل تتعلق بمحاولته للتغيير «دراسةً وتدريساً وحتى معيشةً وتنظيماً»، فكان اعتراضه على ما يدرس لطلاب المعهد العالي في دمشق من موسيقى شرقية، وخاصةً تعليم الطلاب على آلتي العود والقانون وفق منهاج أذربيجاني، نظراً لوجود خبراء من أذربيجان في المعهد، وهنا يسأل:« كيف تؤسس عازف عود سوري على أسس موسيقية كلاسيكية عربية بهذه الطريقة؟!»ومع إصراره على رفض المنهج الموجود في المعهد حالياً، يذكر أسماء بعض الأساتذة الذين يدفعونه للتفاؤل قليلاً من خلال وجودهم مع الطلاب، وتدريسهم لهم، ومنهم : عصام رافع وعدنان فتح الله وخالد الجرماني.

عمل الزركلي خلال السنوات الفائتة على تقديم موسيقى شرقية من خلال آلة البيانو، ثم لحن مجموعة من القصائد لشعراء منهم محمود درويش وسميح القاسم وبدر شاكر السياب وأبو خليل القباني، وقدمها في أسطوانة حملت عنوان قصائد مغناة عام .2008 في هذا العمل التقت ألحانه للقصيدة العربية مع صوت الفنانة السورية ديمة أورشو، ليحققا معاً نجاحاً ملموساً، هذا اللقاء بينهما يعيده الزركلي إلى أيام وجود ديمة في المعهد العالي للموسيقى، عندما كان هو نائباً للعميد فيه، قبل أن يغدو شريكاً لها في مشروع موسيقي لافت، لكنه لم يقصر تعاونه على أورشو فقط، بل قدمت أصوات سورية أخرى أعماله منها نهى زروف ومنال سمعان وهالة أرسلان.

استطاع أن يوائم من خلال ما قدمه من ألحان ومقطوعات، بين روح الموسيق الشرقية، وآلة البيانو الغربية، دون أن يبتذل موسيقى الشرق أو يغربها كما فعل آخرون، وهو يعتبر هذا خطوةً من مشروعه في جعل اللحن والموسيقا «تترك أثراً نفسياً وروحياً لدى المتلقي»، ولا يريد لها أن « تخاطب المعاني الجسدية الراقصة فقط» .تظهر في أعمال الزركلي هوية الموسيقى الشرقية بشكل واضح، ومنها يبدو ميله نحو التراث الموسيقي العربي، وهو يعزو جزءاً كبيراً من هذا التوجه لديه، إلى ما تعلمه في العاصمتين الأوروبيتين موسكو وبرلين، فهو لايزال يذكر أن مكتبة برلين الوطنية كانت «تحوي 15 ألف مصنف عن الموسيقى العربية بين كتاب ونوتة ومقال وغيرها» ، و يرى أن دور المؤسسات الثقافية التي تعنى في توثيق وحفظ الذاكرة الموسيقية هام جداً، ويكرس احترام موسيقا وهويات الشعوب.

منتصف ثمانينات القرن الماضي خاض معركة ضد قرار تأسيس المعهد العالي للموسيقى في دمشق، وكان يدعم رفضه هذا بحجة أن تأسيس معهد عال يحتاج إلى وجود مدارس و ثانوية موسيقية على الأقل تؤسس الطلاب ليرفدوا المعهد، ولا يوجد في سوريا إلا مدرستان للموسيقى في ذاك الوقت، الأولى مقرها دمشق والثانية في حلب، وقد تأسستا منذ الستينات، وحتى اليوم لم يضف عليهما إلا مدرسة واحدة وهي معهد فريد الأطرش في مدينة السويداء الذي افتتح قبل سنة تقريباً، لذلك كان يرى أن تأسيس المعهد سابقٌ لأوانه في تلك الفترة، كذلك يجر احتجاجه على الفرقة السيمفونية التي يراها «تأسست على عجل،وبشروط غير صحية»، نظراً لأن كثيرين من عازفيها في ذاك الوقت لم يتعلموا الموسيقى منذ الطفولة، ورغم هذا لم يمتنع عن التدريس في المعهد وساهم في تأسيس الأقسام الموسيقية الموجودة فيه اليوم، كما حاول تغيير الخبراء الأذربيجان الذين يدرّسون فيه، وحتى اليوم يطالب «بالاستعانة بخبراء أقرب إلى تراثنا ومنطقتنا العربية»، مثل الخبراء الأتراك أو الإيرانيين أو «الاستعانة بالخبراء العرب وهذا هو الأجدى سواء من سوريا أو خارجها» .

كل هذا دفعه إلى تجربة العمل في المعهد العربي للموسيقى أربع مرات ثم التدريس في المعهد العالي وتركه للمنصب الذي شغله فيه، وهذه المرة كانت بعد أن وجهت له وزارة الثقافة دعوةً رسمية للعودة إلى المعهد في العام 2001، هذه الدعوة التي اعتبرها صفحة جديدة ربما ستغير الماضي، لكن هذه الصفحة لم تطل فصول الكتابة عليها، بعد أن عاد الصراع بينه وبين بيروقراطية المعهد الذي يسعى إلى التغيير فيه، فاتجه إلى القاهرة عام 2003 ليدرس هناك حتى عام 2005، بعدها عاد إلى دمشق ليستقر فيها ويتفرغ لمشروعه الخاص في التأليف الموسيقي، كما أحيا عدداً من الحفلات، وفي هذا العام سيصدر له أسطوانتان الأولى تضم مجموعة من مقطوعات المؤلف الموسيقي فريدريك شوبان وهي من عزف الزركلي، أما الثانية فتضم ألحانه ومؤلفاته الخاصة، وهنا يسجل اعتراضه على شركات الإنتاج التي تحول دون انتشار الأعمال الموسيقية والتجارب الفنية المختلفة، فيما تكرس ثقافة الاستهلاك الموسيقي بأغاني القنوات التلفزيونية، ولا يتوقف الاعتراض الموسيقي لدى الزركلي هنا، إنما يمتد ليشمل الموسيقى التصويرية في المسلسلات أيضاً، ويطالب مخرجي الدراما أن يكونوا أكثر اطلاعاً من الناحية الموسيقية، فكأن قدر هذا الرجل أن يرفع (الفيتو) الخاص به دائماً، في وجه أي تشويه يراه في الموسيقى.

تأسست في سوريا خلال الأعوام السابقة، مجموعة من الفرق الموسيقية على أيدي بعض الموسيقيين الشباب، بعضها استطاع التميّز، أما الآخر يراوح في مكانه، ومنها من لم يستطع الصمود، وهنا يسجل الزركلي موقفاً من هذه الفرق فهو يستبشر خيراً بمجموعة من الشباب تعمل من خلال موسيقا الجاز، أما أولئك الذين يسعون إلى تغريب التراث بعد الصعود عليه فلا يرى إمكانيةً لبقائهم، والوسيلة الوحيدة لإنقاذ هذه التجارب الشابة في رأيه « إقامة مهرجانات لهذه الفرق، وإيجاد جهة تنسق بينها، وتفسح المجال لاحتكاك هذه التجارب مع بعضها لتلمس اختلافاتها بيدها، وهنا يلعب العامل التنظيمي دوراً قبل العامل المادي»وضع الموسيقى العربية بالنسبة إلى الزركلي «خطير جداً»، وتطور الأحداث سيدفع هويتها إلى الاندثار برأيه، لذا يجب التدخل الواعي والمدروس من خلال مشاريع ثقافية وموسيقية تحمي هذه الهوية من السقوط في حفرة الاندثار.