2012/07/04

التخلي عن 'قداسة الاستديو' حقق النجاح للدراما السورية
التخلي عن 'قداسة الاستديو' حقق النجاح للدراما السورية


(سانا)

يشكل المكان في الدراما التلفزيونية المعاصرة بنية أساسية في تكوينات العمل الدرامي السوري حيث لا تستطيع الساعة الدرامية أن توجد لها موطئ قدم من غير اللجوء إلى تكوينات المكان وجغرافيته بل لنقل إن المكان أصبح هوية بصرية للعمل الفني لابد من حسن اختيارها وتحديد عناصرها.

ويحسب ذلك للدراما السورية في خروجها المبكر من الأستوديو المغلق إلى براح الأمكنة السورية مع كاميرا هيثم حقي ولاسيما بعد الفتح الذي حققه باستخدام الكاميرا المحمولة في إنجاز الأعمال الدرامية خارجا بها من برودة الاستوديوهات الكبيرة في التلفزيون السوري إلى الأماكن الحقيقية لتلتقط الحياة الحقيقية بضوئها وعتمتها.

من هنا بدأت الدراما السورية بالالتفات إلى ضرورة صياغة أمكنتها الجديدة معاكسة المدرسة التلفزيونية المصرية التي حافظت على قداسة الاستوديو الداخلي وهكذا انطلقت عجلة الإنتاج الدرامي السوري حاملة معها بذرة فرادتها فالمكان ليس من عناصر الزينة البصرية بقدر ما هو الحامل المادي للصورة وتجلياتها وما استطاع المكان أن يهبه للصورة في الدراما السورية كان أكثر من المتوقع سواء على صعيد مقاربة البيئة المحلية والتقاط همومها الراهنة أو حتى من خلال مكاشفة ماهرة لواقع الحال فيها.

وتبقى طبيعة النص الدرامي هي التي تفرض اختيار مكان التصوير بجماليته أو بواقعيته وهذا ما يؤكد عليه المخرج محمد الشيخ نجيب فالحدث الدرامي بحسب رأيه هو الذي يفرض نفسه على المكان مشيرا إلى الغنى الذي تمتاز به سوريا بمواقعها المغرية للتصوير حيث انها تشكل مدينة سينمائية من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها.

وأوضح الشيخ نجيب أن هناك الكثير من الأعمال السورية التي صورت بمواقع جغرافية مختلفة منها أعمال الفانتازيا التاريخية والاجتماعية وجميعها أعمال انطلقت من واقع معين يتناسب مع البيئة التي صورت فيها، لافتا إلى أن الدراما السورية في تصويرها لجماليات الجغرافيا السورية لا تتشابه مع الدراما التركية بل هي أعمق منها فكرا ومضمونا.

وقال "نحن لا نستطيع أن نبرز الجانب السياحي على حساب الدراما السورية الواقعية ولاسيما إن كانت تؤثر على مضمون العمل الدرامي"، مبينا أن الدراما التركية تلجأ إلى التركيز على إظهار الأماكن السياحية لأنها لا تملك موضوعا مهما وتابع انه عندما يقدم مسلسلا فيه فكر جيد ومضمون عميق فإنه لا يريد للعين أن تتغزل به وإنما فكر المتفرج.

وقال المخرج المثنى صبح إن أهم ما يميز الأعمال الدرامية السورية منذ انتشار الفضائيات العربية هو ذهابها إلى الأماكن الحقيقية الأمر الذي أسهم بإكسابها المصداقية أمام الجمهور.

ورأى أن الدراما السورية اختارت أماكن جذابة لتصوير الكثير من المسلسلات الاجتماعية والتاريخية مبينا أنه عندما يتم وضع الممثل بظرف تاريخي ومكان يتناسب مع اللغة التي سيقدمها سينعكس إيجابيا على أدائه بمعنى أن البيئة تساعد على تحقيق مصداقية للممثل.

وأوضح صبح أن هناك مسلسلات مثل "نهاية رجل شجاع" أو "خان الحرير" عرفت المشاهد السوري على أماكن جديدة وقدمتها له بصورتها الواقعية مفسرا حب الجمهور السوري للمسلسلات التركية بوجود بطل جديد وأماكن قريبة من البيئة السورية.

أما المخرج زهير قنوع فأوضح أن الدراما السورية ساهمت بعرض جماليات سوريا الطبيعية دون أن تركز على السياحة رغم وجود العديد من الأماكن السياحية الغنية معللا ذلك بضعف الحركة السياحية في سوريا.

ولفت إلى انه يركز في أعماله على جماليات المكان بشكله الحقيقي بغية بث الطاقة الايجابية تجاهه مبينا أن الدراما السورية هي دراما جماهيرية تحمل قيما وتعتمد على صراع الإنسان مع ذاته وواقعه ومجتمعه ومشاكله وهمومه وهذا ما تسعى لإبرازه من خلال علاقة الشخصيات بمكان التصوير.

بدوره اعتبر مهندس الديكور ناصر جليلي أن أهمية المكان تتجلى في أنه يفرض نفسه على العملية الدرامية كلها بمعنى أنه يحدد طبيعة الأشياء البسيطة الموجودة في شخصية الممثل وبالتالي يتحكم بحركته ضمن هذا الفضاء مشيرا إلى أن المكان الصحيح يخدم العمل الدرامي بقوة.

ولفت جليلي إلى أنه في عمله يحاول قدر الإمكان تطويع المكان لخدمة موضوع المسلسل سواء كان تاريخيا أو اجتماعيا أو غير ذلك بهدف صوغ مقاربة بين المكان والعمل الدرامي مبينا أن أساس هذه العملية يقوم على ضرورة انسجام المكان مع الموضوع وألا يظهر بمظهر الديكور فقط.

وبنظرة بانورامية مبسطة نرى أن أعمال كل من هيثم حقي ونجدة إسماعيل أنزور وباسل الخطيب وحاتم علي كانت نماذج حقيقية على بطولة المكان في الدراما السورية لكن على درجات غير متساوية فهيثم حقي قدم هجرة القلوب إلى القلوب وخان الحرير والثريا وذكريات الزمن القادم كوثيقة تاريخية معاصرة عن التحول الاجتماعي في بنية المجتمع الجديد فيما فضل أنزور بعد تقديمه لنهاية رجل شجاع واخوة التراب أن يجنح نحو صورة سياحية عن المكان السوري من خلال الإطلالة على مشهد عريض من البيئة السورية كان لابد من الإحاطة به بجغرافية متنوعة وبجمالية عالية لامست ذائقة شريحة واسعة من الجمهور المحلي والعربي.‏

وعلى مستوى آخر قدم باسل الخطيب صورة مغايرة للمكان دامجا بين جمالياته الجغرافية وبين خصوصية البيئة السورية فجاء مسلسله هوى بحري على هيئة استعارات متتالية من مشهد بحري مفتوح على حكايات خرافية رمزت الواقع وأسقطت عليه إحالات متعددة ليس الواقع بل فكرتنا عنه.

فيما نجح حاتم علي في استدراج صورة أكثر غنى وواقعية عبر المكان مراهنا على واقعية الطرح فرغم أن سلسلة الفصول الأربعة كانت تختار بيئة شبه افتراضية لعائلة سورية متنورة تعيش حكاياتها بمعزل عن الشارع وهمومه إلا أن علي تنبه إلى ضرورة تكثيف المكان داخل كوادره من خلال أعمال صورت الناس في المدن والأحياء السورية فمن أحلام كبيرة إلى عصي الدمع إلى على طول الأيام وصولا إلى التغريبة الفلسطينية صمم حاتم علي على مبارزة المكان من خلال زج مكونات الشارع في صلب العملية الفنية فخرج بتغريبته هذه عن كل قواعد الفرجة الاعتيادية آخذا على عاتقه اكتشاف علاقة البشر في أماكن عملهم ونزهاتهم وضجرهم.

والاكتشاف الأبرز لبطولة المكان كان مع مسلسل الانتظار للمخرج الليث حجو حيث دأب هذا الأخير على إعطاء المكان بطولة مطلقة في أعماله فكان الانتظار بمثابة نسخة مصدقة عن الحياة السورية المعاصرة حياة التقى عبرها سكان الهامش الاجتماعي والعمراني ببشر المدن المنظمة ففي أعمال الليث حجو لا مهادنة مع وضع المكان كنجم من نجوم الصف الأول0

واستطاع الليث أيضا في مسلسل ضيعة ضايعة تجنيد الجانب السياحي لصالح الواقعي عاكسا عبر وسيط نصي كوميدي مفارقات عالية في بيئة الريف السوري وفي جدل استثنائي بين الافتراضي والواقعي نجح هذا المسلسل في ملامسة هموم كثيرة عبر سخرية مريرة من رموز أحالت المشاهد على اختلاف شرائحها إلى واقع آخر يختبئ خلف الصورة والمكان في آن معا.‏

وعلى مستوى آخر يمكن مشاهدة نكوص للمكان في الدراما السورية عبر ما أطلق عليه البعض بدراما البيئة الشامية فالأعمال التي قدمها بسام الملا في باب الحارة وليالي الصالحية وأهل الراية وسواها جنحت نحو تقديم صورة سياحية بحتة عن المكان بل استعانت بالرجوع إلى الأستوديو لإعادة المكان إلى سجن بصري مسرحي وفلكلوري فالشام العدية في هذه النوعية من الأعمال هي سواها في أعمال أخرى أي أننا أمام إعادة وتكرار لا نهائيين للمكان فالكادر شبه ثابت على بيت دمشقي يصور بحرة أرض الديار والزجاج المعشق وواجهات بيوت مستعارة تعيد الكاميرا تصويرها بزوايا مختلفة دون ملل أو كلل.‏

وفي الأعمال التاريخية استطاعت الكاميرا أن تستفيد أيما استفادة من المكان السوري كاستوديو كبير يمتد من البادية إلى غابات اللاذقية ومن حلب إلى سهول حمص إلى القلاع والمواقع الأثرية في جنوب سورية وشمالها ولاسيما صحراء تدمر التي استطاع حاتم علي أن يصور فيها ثلاثية الأندلس وتمكن نجدة أنزور من تسجيل أجزاء كبيرة من التصوير في البادية السورية والمغربية على حد سواء لكن يبقى المكان في هذه الأعمال فيصلا في تقرير مصير نجاحها بل لنقل إنه المحرض الأول لمتابعة هذه المسلسلات من قبل المشاهد العربي الذي انبهر بطاقة المكان السوري على المنافسة الجمالية البصرية وتقديم خيارات فنية لا نهائية في الدراما السورية المعاصرة