2012/07/04

الخادمتان: صديقتا التهميش والكراهية تقتصان من العزلة
الخادمتان: صديقتا التهميش والكراهية تقتصان من العزلة

بوسطة- عبدالله الكفري يبدو التصدي لنصوص جان جينيه عربياً لا يقل رغبة وأهميةً عما هو عليه عالمياً، ليس فقط لأن الكاتب والشاعر الفرنسي (1910- 1986) انتصر لقضايا العرب والمقهورين في العالم، إنما لخصوصية وإبداع (ثيماته) الإنسانية وطاقة نصوصه التي أنتجها، حيث كتب جينيه خلال حياته خمسة نصوص مسرحية هي: الخادمات، حرس الموت، الشرفة، الزنوج، والبرافانات. كانت على الدوام وقوداً شاعرياً لمخرجي المسرح الحديث. إضافة إلى نص "أربع ساعات في شاتيلا" والذي أنتجه بعد زيارته إلى مخيمي صبرا وشاتيلا في لبنان مباشرة عقب مجزرة أيلول عام 1982.   ومجدداً يعود المخرج جواد الأسدي إلى جينيه، ومجدداً إلى نص "الخادمات" ليقدمه تحت عنوان "الخادمتان" والذي عرض في الفترة ما بين 14 و18 من الشهر الجاري، وهو من إنتاج دار الأوبرا بالتعاون مع مسرح بابل، بعد أن كان قد قدم العرض في العام 1994 في بيروت.   يقدم العرض الخادمتان كلير "تمثيل ندى أبو فرحات" وسولانج "تمثيل كارول عبّود" في أدائهما السري للعبة السيدة والخادمة التي تقومان بها كل ليلة بعد خروج سيدتهما للتفريغ والسخرية من واقعهما الأليم؛ حيث تقوم كلير بتمثيل دور السيدة بينما تلعب سولانج دور كلير لا بهدف التماهي أو تقمص دور أختها إنما للتركيز على المكانة الاجتماعية للخدم؛ وبعد أن تقوم الخاطئتان الواهمتان بالغرق في اللذة عندما ترتديان ملابس السيدة وتتراشقان بمجوهراتها، تحاول سولانج/ الخادمة أن تتوج المتعة بلف الشال على رقبة السيدة/ كلير لتقتلها مجازياً استعداداً لقتلها في الواقع، هذا الأمر الذي فشل حتى الآن رغم أن الخادمتان تتوقان إلى ذلك، وفي المقابل هناك ما يمنعهما.   في هذه الليلة/ العرض وبعد أن خرج عشيق السيدة من السجن، تقرر الأختان/ العشيقتان أن تغرقا بفعلها الانتقامي بقتل السيدة بالفعل، ولكن هذه المحاولة التي كانت طوق النجاة وسلم الصعود إلى مجتمع السادة، باءت أيضاً بالفشل وانتهت بأن أقدمت كلير على الانتحار بالسم الذي وضعته في الشراب، وتتحول الخاطئة سولانج والعفنة بإثم مكانها الاجتماعي إلى عذراء تحمل رفاة أختها الفقيدة.   في النسخة الجديدة من العرض عمد الأسدي إلى تغيير بناء النص، فحذف شخصية "السيدة" رغم أن الحديث عنها استمر طوال الوقت، واكتفى بظهورها على الخشبة من خلال صور تم إسقاطها على الخشبة، وهي صور الممثلة رينيه ديك خلال أدائها لدور السيدة في عرض "الخادمات" عام 1994 وذلك كتحية للممثلة على أدائها المميز وقتها. هذا التغيير على متن النص رافقه اشتغال درامي مع الممثلتين على نص العرض، ولكن ذلك لم يمنع من فقدان النص للكثير من تصعيده الدرامي في مساحة تقديمه الجديدة، والذي كان سيحصل لو كانت السيدة حاضرة كشخصية على الخشبة. ربما للتخفيف من ذلك قام الأسدي بإعادة ترتيب بنية النص، وتقطيعه إلى مشاهد متتالية بعد أن كان من فصلٍ واحد تم وفقاً لهذا اللعب على المستويات التي أوجدها المخرج في فضاء العرض.   تميز أداء الممثلتين اللتان لعبتا بمهارة شخصيتي "الواضحة" كلير و"ملاك الأرض" سولانج، ذلك أن النص بتركيبه يعتمد على وعي كبير من قبل الممثلتين، أراد المخرج من خلاله التركيز على الصراع الذي ينشأ مرة في تقمص دور السيدة وغطرستها، ومرة في اللعب على إنكار الذات الخادمة عبر الامتثال للأوامر بغية الوصول إلى تشريح نفسي للذات الإنسانية بمختلف اتجاهاتها. ومن هنا كانت الشخصيتان تنوسان طوال الوقت بين لعبة السيد والعبد، وبين واقع المأزق الاجتماعي المعاش.   تم تغليف الأمر كله بأداء جنسي مركب لخادمتين تتدربان في غياب السيدة على كيفية الخلاص منها، لأنها تسبب لهما تهميشاً وإقصاءً نفسياً. وفي اللعبة تصعيد تختبر معه الاثنتان أنواعاً شتى من المشاعر، وبخزان ألم ممتلئ بالإهانة والقهر والكره والشبق.   ومع تحولات سولانج إلى السادية في البصق وتعنيف كلير خلال أدائها لدور السيدة، تتعذب الأخيرة دون أن تصل إلى الذروة. وهنا تبدو براعة الممثلتين في اللعب القلِق طوال الوقت على التماهي بين الشخصيتين وبين التمثيل، ومما ساعد على إيصال هذا المستوى القلِق مستوى اللغة العامية اللبنانية الذي طعم به المخرج نصه الفصيح مما خلق مسافة للمشاهد بين الخادمتين وبين لعبتهما.   هذه العلاقة الجنسية المركبة "السادية والماسوشية"، تحيل إلى علاقة مثلية بين الأختين محركها العزلة وحاجة بعضهما إلى بعض، ذلك أن محبتهما لبعضهما البعض معجونة بقرفٍ مشترك، تعلنه كلير بالقول "أنتِ أصبحت مرآتي البشعة التي تعكس صورتي ورائحتي النتنة". وإذا كان الخوف رفيق الرغبة بالثورة والقتل، فإن الفشل هو السمة النهائية لهذه المحاولات اليومية المتكررة. والتي فيها اجترار حتى للحب وترسيخ للعبودية بشكلٍ عام.   ربما من هنا يتكون المعنى السياسي لعرض الأسدي، في تنبيهه إلى ضرورة الانعتاق من الظلم مهما كان نوعه وأينما انتشر. ربما ما كان ينقص الخادمتان كما بدا هو الوعي الكافي لتغير مصيرهما، فلم يكفِ اتفاقهما على القتل للخلاص، إنما فشلتا بمواجهة السيدة الحاضرة بسطوتها في العرض، وكانتا تفشلان أكثر وأكثر رغم الظن بأنهما تستعدان. ومع غياب حضور السيدة/ القوة يحق لنا التساؤل هل هي موجودة بالفعل أم أنها مخاوف وخيالات تعبث بروح وعقل فتاتين تعيستين، واللتان في كثير من اللحظتان تكشفان عن تماهٍ مع عقل السيدة؟   اعتمد فضاء العرض على المساحة الفارغة والتي كانت خشبة مائلة، خلت من كل شيء إلا كرسي كان وسيلة للعب، هذه المساحة كانت مقسمة إلى مستويين: مستوى علوي تطمح الخادمتان إلى اعتلائه وتتسللان إليه كلما حانت الفرصة، وآخر سفلي تعيشان فيه وتحاولان الخلاص من رطوبته ومحرماته التي لم تمنحهما إلا علاقات عابرة مع الحلاب ماريو؛ وكان لهذا الفضاء الكثير من الأهمية في التعبير عن خواء الشخصيات، كما أنه عبر عن مساحة قلقة على الدوام تكشف عن هذه الشخصيات.   أتت الموسيقى مع الإضاءة لتعزز من أهمية السينوغرافيا، حيث افتتح العرض بإضاءة حمراء تعرض لجنون الفتاتان في لعبهما، وكان الختام باللون الجحيمي ذاته والذي رافقه صوت القطار ودخانه الذي نقل السيدة نحو عشيقها، وتخلفت عنه كلير وسولانج.   العرض الذي قدم تجربة أساسية وجديدة في مسيرة الأسدي، أراد من خلاله المخرج العودة مجدداً إلى نص يضعنا أمام مسائلة عن الخلاص الفردي والجماعي، وإمكانية تحقق أحدهما أو كليهما في زمنٍ ما من مسلمات نهائية فيه، وأقله كما بدا في رحلة هاتين التعستين.